< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

32/10/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القضاء/لايزال الكلام في المسألة -2-جواز أخذ الاجرة على القضاء

التقريب الثاني : وهو منسوب إلى المحقق النائيني (قده) وحاصله : أن المعتبر في صحة الإجارة أن يكون الأجير قادراً على العمل المستأجَر عليه قدرة تكوينية وشرعية – وهو وإن لم يكن قد صرّح بهذا إلا أنه هذا هو مفاد كلامه – ومن الواضح أن الوجوب يعني عدم القدرة على الترك شرعاً كما أن الحرمة تعني يعني عدم القدرة على الفعل شرعاً فالعمل الذي يجب على المكلّف هو غير قادر على تركه شرعاً والعمل الذي يحرم عليه هو غير قادر على فعله شرعاً وإن كان قادراً عليه تكويناً في الحالتين وهذا معناه أن العمل لا يكون دائماً تحت سلطنة الأجير في هذه الموارد وكما لا تصح الإجارة على المحرمات باعتبار أن الحرمة توجب سلب قدرة الإنسان على الفعل لأن القدرة تعني أن له أن يفعل وله أن يترك فلا يكون حينئذ مسلّطاً على الفعل فكذلك بالبيان نفسه لا تصح الإجارة على الواجبات لأن الوجوب يعني سلب القدرة على الترك شرعاً فلا يكون حينئذ مسلّطاً على الفعل فلا يكون العمل حينئذ مقدوراً عليه في الحالين .

والحاصل أن الوجوب يعني المقهورية على الفعل والتحريم يعني المقهورية على الترك والمقهورية تنافي السلطنة المعتبرة في كل تصرّف معاملي ومن جملته الإجارة فلا تصحّ الإجارة حينئذ .

وفيه : أن هذا التقريب في ضوء البيان المتقدّم لا يخلو عن مصادرة باعتبار اشتراط صحة الإجارة بالقدرة الشرعية فإنه عبارة أخرى عن اشتراطها بأن لا يكون متعلّقها واجباً ولا حراماً وهذا أول الكلام وهو محلّ النقض والإبرام حيث قلنا إنه هل يُشترط في صحة الإجارة أن لا يكون متعلّقها واجباً أو لا وهذا يمكن أن يُصاغ بصياغة أخرى وهي أنه هل يجوز أخذ الأجرة على الواجبات او لا وقد ذكرنا أن المراد بالجواز هو الجواز الوضعي لا الجواز التكليفي .

وبعبارة أخرى : إن القدرة المعتبرة في صحة الإجارة أو في صحة التصرفات المعاملية تارة تُفسّر بما ذُكر من أن له أن يفعل وله أن لا يفعل – تكويناً - مع تعميمها للقدرة الشرعية وهي بهذا التفسير لا دليل على اعتبارها في صحة الإجارة أو قل هي محلّ الخلاف والنقض والإبرام ولا معنى لأخذها مصادرة مفروضة ونستدلّ بها على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات ، وأخرى تُفسّر بالقدرة على التسليم والظاهر أنه لا إشكال في اشتراطها بهذا المعنى في صحة المعاملة عند الفقهاء وكما تنتفي في حال عدم القدرة على التسليم عقلاً كذلك تنتفي عند عدم القدرة على التسليم شرعاً باعتبار أن المكلّف إذا كان غير قادر على التسليم شرعاً فذلك يعني أنه منهيّ عن الإتيان بالعمل وهذا يوجب بطلان الإجارة لأنه في حال كون العمل منهيّاً عن الإتيان به شرعاً فليس من المعقول أن نستدلّ على صحة تلك المعاملة بـ(أوفوا بالعقود) فإن الشارع حيث يقول إنه يجب الوفاء بهذا العقد بمعنى أنه يجب الإتيان بالعمل المستأجَر عليه فلا يمكن في الوقت نفسه أن يقول إن هذا العمل محرّم ولا يجوز الإتيان به فالعمل المستأجَر عليه إذا كان حراماً فنلتزم هنا أن هذا المكلّف غير قادر على تسليمه وهذا ينافي وجوب الوفاء بالعقد الذي هو الدليل على صحة تلك المعاملة فإذاً يُشترط في شمول أدلة وجوب الوفاء بالعقد وبالتالي صحة المعاملة أن لا يكون العمل حراماً أي أن لا يكون المكلّف منهيّاً عن الإتيان به وإلا لم يمكن تصحيح تلك المعاملة لوقوع التنافي بين وجوب الوفاء بالعقد وبين حرمة ذلك العمل إلا أن هذا يُنتج أنه من باب اشتراط القدرة على التسليم نشترط في متعلّق الإجارة أن لا يكون حراماً للنافي المشار إليه ولكنه من الواضح أن هذا الكلام لا يقتضي أن لا يكون متعلّق الإجارة واجباً إذ لا ضير في أن يكون متعلّق الإجارة واجباً فإن ذلك لا يكون منافياً لوجوب الوفاء بالعقد بل يكون مؤكّداً له فإن كلاًّ منهما بمضمون واحد فلا يصحّ أن نشترط لتصحيح الإجارة أن لا يكون متعلّق الإجارة واجباً فإن القدرة على التسليم لا تُنتج ذلك بل تُنتج أن لا يكون متعلّق الإجارة حراماً لأنه حينئذ ينافي وجوب تسليم العمل .. إذاً القدرة على التسليم التي نسلّمها شرطاً في صحة المعاملة لا تُنتج أن يكون متعلّق الإجارة واجباً - الذي هو محلّ الكلام - بل تُنتج أن لا يكون متعلّق الإجارة حراماً فالإجارة على الحرام باطلة لأنه مع افتراض الحرمة لا يُعقل أن يكون مشمولاً لأدلة الوفاء بالعقد فلا دليل على صحتها حينئذ وشمول دليل وجوب الوفاء لها يلزم منه التنافي المزبور فإذاً تفسير القدرة بأن له أن يفعل وله أن لا يفعل مع تعميمها للقدرة الشرعية غير مسلّم في المقام لأنه يلزم منه أخذه مصادرة في الدليل مع أنه محل الكلام والنقض والإبرام ، وأما تفسيرها بالقدرة على تسليم العمل عقلاً وشرعاً فهذا مسلّم ولكنه لا يُنتج عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات وعدم صحة المعاملة في هذا الفرض .

التقريب الثالث : أن الظاهر من تعلّق الوجوب بشيء كون المطلوب الإتيان به مجّاناً وأخذ الأجرة عليه يكون منافياً لذلك فيُدعى استظهار المجانية من نفس تعلّق الوجوب وكون العمل واجباً – وهو ما قد فُرض في محلّ الكلام – فلا يصحّ حينئذ أخذ الأجرة عليه لكونه منافياً لهذا الظهور المدّعى .

ولكن هذا التقريب غير تام لمنع ذلك الظهور فإن الوجوب لا يعني إلا الإلزام بالعمل والإتيان به خارجاً فهو أعمّ من أن يُؤتى به مجاناً أو بأجرة فالوجوب لا يمنع من أخذ العوض على الإتيان بمتعلّقه لكون المطلوب معه قد تحقّق ، ولعل ملاحظة الأوامر العرفية تساعد على ذلك فإن الآمر حينما يأمر بشيء لا يلاحظ معه الإتيان به على نحو المجانية وإنما ينصبّ نظره على أصل الإتيان بما أمر به بل حتى لو استفيد ما ادّعي من كون الإتيان بالمطلوب مقيّداً بالمجانية - إما من نفس الدليل أو من قرينة خارجية – فمع ذلك نقول إنه لا يُنتج عدم جواز أخذ الأجرة وإنما يُنتج عدم تحقّق امتثال الوجوب خارجاً أي أنه إنما يُنتج عدم الجواز تكليفاً ولا يُنتج عدم الجواز وضعاً - الذي هو محلّ الكلام - فالأجير يستحق العوض على الإتيان بالعمل وإن كان قد فعل حراماً حيث لم يمتثل الوجوب المقيّد بالمجانية - بحسب الفرض – خصوصاً وأن الإجارة لم تقع على العمل بعنوان كونه واجباً وإنما وقعت على ذات العمل .

اللّهم إلا أن يُدّعى أنه يُفهم إلغاء مالية العمل من نفس دليل وجوبه ليكون حاله حال الخمر والخنزير في إسقاط الشارع لماليتهما فالوجوب إذا تعلّق بالعمل يكون كذلك مسقطاً لماليته فيكون أخذ الأجرة عليه حينئذ أكلاً للمال بالباطل وعلى هذا يصحّ ما ذُكر من فساد الإجارة وعدم صحتها ، أو أن يُفهم من نفس دليل الوجوب أو من قرينة أخرى كون العمل مستحقّاً ومملوكاً للغير كما يُدّعى ذلك في تجهيز الميت حيث ذكروا أنه يُفهم من أدلته أن الميت يملك هذا العمل في حقّ سائر المؤمنين على نحو الكفاية وقد تقدّم أن ما يكون مملوكاً للناس لا يجوز أن يكون متعلّقاً للإجارة ، نعم .. ما يكون مملوكاً لله يُعقل تمليكه للغير لأن ملكيته تعالى للأشياء لا تنافي ملكية غيره لها .

ولكن الكلام في استفادة ذلك – أعني مجانية العمل – من نفس دليل الوجوب والظاهر العدم ، ولو تنزلّنا عن ذلك وقلنا إن ظاهر دليل الوجوب هو المجانية إلا أن هذا لا يقتضي إلا عدم تحقق الوجوب خارجاً لا عدم استحقاق الأجرة ، نعم .. لا نمنع استفادة ذلك بالقرينة كما لا نمنع استفادة إلغاء المالية أو كون العمل مستحقّاً ومملوكاً للغير أما نحن وظاهر دليل الوجوب نفسه فلا يكاد يُستفاد منه ذلك .

التقريب الرابع : ما بنى عليه الشيخ الأنصاري (قده) في المكاسب من دعوى أن عمل المسلم مالٌ إلا أنه لا يكون مالاً محترماً عندما يكون واجباً في صورة كونه عينياً وتعيينياً – كما صرّح الشيخ نفسه باختصاصه بهما - لكون الشخص حينئذ مقهوراً عليه فيمكن استيفاؤه منه من دون دخل إذنه ورضاه بل حتى إجباره عليه في بعض الأحيان وأخذُ الأجرة عليه من قبله والحال هذه يكون أكلاً للمال بالباطل فتكون الإجارة عليه باطلة ، وهذا بخلاف الواجب الكفائي والتخييري إذ لا مقهورية عليه في الحالين .

ويُلاحظ عليه أن المقدار المسلّم من دلالة الوجوب المتعلّق بالعمل هو أنه يقتضي سلب القدرة والسلطنة أي سلب الاختيار من أن يكون له أن يترك فهو ملزم بالعمل كما أن التحريم كذلك حيث يقتضي سلب قدرته على الفعل فهو ملزم بالترك فالقدرة بمعنى أن له أن يفعل أو أن يترك عقلاً أو شرعاً لا تتحقّق عندما يكون العمل واجباً أو يكون محرّماً فالوجوب يسلب القدرة والاختيار بالمعنى المذكور .

ولكن ذكرنا في مقام مناقشة التقريب الثاني المتقدّم أنه لا دليل على اشتراط عقد الإجارة بهذا المعنى بل قلنا إنه أول الكلام فإن دعوى عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات هي عبارة أخرى عن كون الإجارة مشروطة بأن لا يكون متعلّقها واجباً ، وأما احترام المال - بمعنى أن تكون ماليته معتبرة وأنه عند استيفائه لا بد من تداركه وضمانه أي أن الشارع لم يُسقط ماليته – فنسلّم كونه شرطاً في صحة الإجارة بمعنى أن ما لا مالية له شرعاً لا تصح الإجارة عليه إلا أننا نقول إن الوجوب لا ينافي كون العمل باقياً على ماليته وكونه متدارَكاً عند الاستيفاء لأن الوجوب لا يُلغي الاحترام بالمعنى المذكور فيمكن أن نجمع بين كون الشيء واجباً وكونه باقياً على ماليته .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo