< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

33/03/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المسألة الثامنة / أدلة عدم جواز استناد القاضي إلى علمه في باب القضاء / الدليل الثالث عدم المعهودية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو أحد من الأئمة (عليهم السلام) القضاء بعلمهم بل قضاؤهم بالأيمان والبيّنات / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده)

استدراك :

ذكرنا في الدليل الأول عدة روايات ادُّعيَ أنها ظاهرة في حصر القضاء بالبيّنة أو بالبيّنة واليمين حسب اختلاف ألسنتها وهاهنا نضيف إليها رواية أخرى ذُكرت في كلماتهم وهي الخبر المروي من طرق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في قضية حول الملاعنة ورد فيها هذه العبارة : " لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمتها " ونحوه أيضاً قوله : " لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها " [1] .

حيث يظهر منه أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن ليرجم تلك المرأة إلا ببيّنة مع وضوح أنه كان عالماً بكونها بغيّاً فيُستفاد منه أنه (صلى الله عليه وآله) كان لا يرجم أحداً إلا ببيّنة حتى مع علمه باستحقاقه الحدّ .

ولكن يُشكل على الاستدلال بهذا الحديث - مضافاً إلى عدم اعتباره سنداً – تطرّق احتمال أن العلم الحاصل عند النبي (صلى الله عليه وآله) بكون المرأة بغيّاً هو علم غيبي إلهي فكأنه (صلى الله عليه وآله) يريد أن يقول إني لو كنت أرجم أحداً اعتماداً على العلم الغيبي الإلهي لرجمت هذه المرأة لكني لا أرجم إلا اعتماداً على الموازين القضائية من البيّنة وأمثالها وهذا غير ما هو المطلوب من هذه الأدلة من إرادة نفي اعتبار العلم الحاصل من الأسباب العادية .

هذا في ما يتعلّق بالدليل الأول .

وأما بالنسبة إلى الدليل الثاني المذكور - الذي مفاده أن بعض الطرق المجعولة في باب القضاء من قبيل الإقرار والشهادة كثيراً ما يحصل العلم بالواقع للحاكم قبل تماميتها فيُفهم من الإصرار على إكمال العدد[2] وعدم الاكتفاء بالعلم الحاصل قبل ذلك عدمُ جواز التعويل على مثل هذا العلم - فقد يُشكل عليه بأن هذه النتيجة أعني عدم جواز التعويل على العلم في باب إقامة حدّ الزنا حتى يكمل العدد المعتبر كما هو صريح الرواية لاسيما في حدّ الله تنافي ما تدلّ عليه معتبرة الحسّين بن خالد المتقدّمة من جواز إقامة الحدّ في باب الزنا استناداً إلى العلم حيث ورد فيها أن : " الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة " فإن المراد من النظر والشهادة العلم .

ولكن يمكن الجواب عنه بالتفريق بين ما تدلّ رواية الحسّين بن خالد على اعتباره من العلم في إقامة الحدّ وما يدلّ هذا الدليل على عدم اعتباره وعدم جواز التعويل عليه .. بيان ذلك :

أنّه قد تقدّم منّا أن العلم الذي تدلّ رواية الحسّين بن خالد على اعتباره وجواز إقامة حدّ الزنا اعتماداً عليه هو العلم الحسّي المستند إلى النظر والمشاهدة وهو علم بالواقع مباشرة في حين أن العلم الذي يحصل من الإقرار أو شهادة الشهود ليس علماً بالواقع مباشرة وإنما هو علم بالواقع بتوسّط إقرار المقرّ أو شهادة الشهود فليس هو علماً حسّياً مباشرياً بل هو أشبه بالعلم الحدسي إذ لم يطّلع الحاكم به على الواقع كاطّلاع المقرّ أو البيّنة عليه .

وبهذا التفريق بين العلمين يرتفع التعارض بين الدليلين .

نعم .. قد يورد على هذا الدليل بأنه أخصّ من المدعى لأن اشتراط وصول عدد الإقرارات والشهود إلى أربعة مختصّ بحدّ الزنا ولم يثبت في غيره من الحدود فضلاً عمّا هو محلّ الكلام من باب المرافعات والقضاء ففي حدّ الزنا حيث تصرّ الروايات على عدم ثبوته إلا بالإقرار أربع مرّات مع وضوح أنه كثيراً ما يحصل العلم نتيجة الإقرار مرة واحدة أو مرتين يكون المفهوم منه عدم جواز التعويل على العلم الحاصل نتيجة الإقرار .. ولكن هذا في خصوص حدّ الزنا ، وأما في غيره من الأقضية والمرافعات حيث لا يُكتفى إلا بشهادة العدلين – وهي البيّنة - فلا نستطيع القول هنا أنه كثيراً ما يحصل العلم نتيجة شهادة شاهد واحد ، وعلى ذلك فيمكن أن تُحمل الأدلة الدالة على اشتراط التعدد في الشهود على أنها غير ناظرة إلى حالة حصول العلم بشهادة الشاهد الواحد حتى تنفي اعتباره ، ويكونُ المفهوم من إصرارها على اشتراط انضمام الشاهد الثاني هو عدم جواز التعويل على شهادة الشاهد الواحد لا على عدم اعتبار العلم الحاصل منه – لو فُرض تحقّقه - .

فالنتيجة أن هذا الدليل لو كان منتجاً لعدم جواز التعويل على العلم فهو إنما يُنتج ذلك في خصوص باب الزنا لا في جميع الموارد لاسيما محلّ الكلام الذي هو باب المرافعات .

مع أنك قد عرفت أن ما ينفي جواز التعويل عليه من العلم إنما هو العلم الحدسي الحاصل من الإقرار أو الشهادة لا ما هو المطلوب من العلم الحسّي .

الدليل الثالث[3] : ما يقال من أنه لم يُعهد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو أحد من الأئمة (عليهم السلام) أنهم كانوا يقضون بعلمهم وإنما كانوا يقضون بالأيمان والبيّنات كما يُؤيد هذا بعض ما تقدّم من الأحاديث ولو كان القضاء بالعلم جائزاً لفعلوه ولو نادراً مع أنه لم يُنقل ذلك عنهم (عليهم السلام)

وفي هذا دلالة على عدم جواز التعويل على العلم وعدم نفوذ القضاء الناشئ منه .

ولكن هذا الكلام ضعيف فإن ما هو مسلّم ومتّفق عليه أن النبي (صلى الله عليه وآله) وكذا أئمة الهدى (عليهم السلام) لم يكن يقضون بعلمهم الغيبي الإلهي الذي هو مطابق للواقع جزماً وهذا لا يعني إطلاقاً أنهم كانوا لا يستندون إلى العلم العادي الذي يحصل من أسباب معينة – التي لو حصلت لغيرهم لحصل له العلم بالواقع أيضاً – ولعل في بعض الروايات ما يشير إلى هذا المعنى[4] ،

وأما ما ورد في هذا الدليل من أنه لم يُنقل عنهم (عليهم السلام) ما يُشير إلى استنادهم إلى العلم العادي في قضائهم فيمكن أن يُجاب عليه – بناءً على اختيار أن علم المعصوم (عليه السلام) إرادي لا فعلي – بأن عدم قضائهم (عليهم السلام) استناداً إلى العلم ليس فيه دلالة على عدم جواز التعويل عليه لو حصل - اتفاقاً أو بإرادة - وإنما هو من جهة عدم علمهم الفعلي بتفاصيل القضايا وجزئياتها – وإن كانوا لو أرادوا أن يعلموا بها لعلموا في ما إذا اقتضت المصلحة ذلك – ولذا هم يقضون بالبيّنات والأيمان .

ولكن هذا الجواب - كما علمت - مبني على اختيار أن علم المعصوم (عليه السلام) إرادي وليس علماً فعلياً .


[1] سنن ابن ماجة مج2 ص856.
[2] أي وصول عدد الإقرارات والشهادات إلى أربعة.
[3] مما يُستدلّ به على عدم جواز التعويل على العلم.
[4] أي أنهم كانوا يقضون بعلمهم العادي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo