< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/04/06

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية

 

قلنا في الدرس السابق أنّ الكلام ليس في صدق الجاهل وعدمه، وإنّما الكلام في أنّ أدلة البراءة العقلية هل تشمل الجاهل الذي بإمكانه أن يعلم بموضوع الحكم الشرعي بمجرّد أن يفتح عينيه؟ نعم، هو جاهل ولم يتم عنده البيان، لكن البراءة العقلية هل تشمل هذا النوع من الجهل، أو لا ؟

قد يقال: أنّ البراءة العقلية لا تشمل هذا النوع من الجهل، ويُذكر في مقام تقريب عدم الشمول مسألة أنّ الارتكاز العقلائي قائم على أنّ ترك الفحص بهذا المقدار يعتبر فراراً وتهرّباً من الحكم الشرعي، والعقلاء لا يرون أنّ هذا معذراً، وكلامنا فعلاً في البراءة العقلية، إذا كان هناك ارتكاز عقلائي على عدم معذورية الجاهل في هذه الحالة؛ حينئذٍ هذا معناه يحدث قصور في البراءة العقلية، بمعنى أنّ البراءة العقلية أساساً لا تشمل جاهلاً من هذا القبيل، وإنّما تشمل الجاهل في الموارد الأخرى.

بعبارة أخرى: أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان مختصة بالجاهل الذي يكون علمه بالموضوع وبالتالي بالحكم الشرعي الفعلي يتوقف على الفحص والتفتيش وبذل المؤنة والجهد، هذا هو الذي تدل البراءة العقلية على أنّه معذور لو ترك الفحص وخالف الواقع، ويقبح عقابه؛ لأنّ عقابه بلا بيان، أمّا الجاهل في محل الكلام العقلاء يرون بأنّه لو ترك الفحص وخالف الواقع عند تركه للفحص لا يكون معذوراً؛ لأنّ تركه للفحص يعتبر تهرّباً من الحكم الشرعي، وكأنّهم يرون أنّ الحكم الشرعي واصل إليه؛ لأنّ علمه بموضوع الحكم الشرعي الفعلي لا يحتاج منه إلاّ لهذه الحركة البسيطة، فكأنّ الحكم الشرعي واصل إليه، ويعتبرون أنّ ترك الفحص بهذا المقدار هو تهرّب وفرار من الحكم الشرعي؛ ولذا لا يرونه معذوراً، وهذا معناه أنّ هناك قصوراً في البراءة العقلية عن الشمول لمثل هذا الجاهل. هذا هو المدّعى وليس الكلام في أنّ هذا هل هو جاهل أو لا ؟ نعم، هو جاهل وغير عالم، لكنّه هل هناك قصور في البراءة العقلية عن الشمول لمثله أو لا ؟ هذا هو محل الكلام. هذا كلّه بلحاظ البراءة العقلية.

الآن نأتي إلى البراءة الشرعية، يعني نتكلّم عن الشبهة الموضوعية لكن بلحاظ أدلّة البراءة الشرعية والكلام في أنّه هل تجري البراءة الشرعية في الشبهة الموضوعية من دون فحص ؟ هل يشترط في جريان أدلة البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية الفحص بحيث لا يجوز إجراؤها قبل الفحص، أو لا ؟

في المقام ذهبوا إلى عدم الاشتراط، فيجوز للمكلف أن يجري البراءة الشرعية في الشبهة الموضوعية قبل الفحص. واستدلوا على ذلك بإطلاق أدلة البراءة الشرعية وأنّها تشمل ما قبل الفحص وما بعد الفحص، ولا تختص بحالة ما بعد الفحص؛ إذ لا يوجد في أدلة البراءة الشرعية ما يوجب اختصاصها بما بعد الفحص، فمقتضى إطلاقها هو جواز إجرائها حتى قبل الفحص.

لكن تقدم سابقاً أنّ هناك وجوهاً تمنع من إطلاق أدلة البراءة الشرعية، أو توجب عدم كونها مطلقة لحالة ما قبل الفحص في الشبهات الحكمية، حيث وقع الكلام سابقاً في أنّها اساساً هل فيها إطلاق بحيث تشمل حالة ما قبل الفحص أو لا ؟ وعلى تقدير أن يكون فيها إطلاق هل هناك ما يمنع من هذا الإطلاق، أو لا ؟ وقد تقدّمت الوجوه التي ذكرت لإثبات وجوب الفحص وعدم جواز إجراء البراءة الشرعية قبل الفحص، الكلام هنا يقع في أنّ هذه الوجوه التي منعت بشكلٍ أو بآخر من جريان البراءة في الشبهة الحكمية، هل تجري في محل الكلام قبل الفحص، أو لا ؟ فرضاً كان وجه من الوجوه يمنع من جريان البراءة في الشبهة الحكمية لابدّ أن نلاحظ في محل الكلام هل يمنع هذا الوجه من جريان البراءة الشرعية في الشبهة الموضوعية قبل الفحص أو لا ؟ فإذا انتهينا إلى نتيجة أنّ هذه الوجوه على تقدير أن تكون مانعة من جريان البراءة في الشبهة الحكمية قبل الفحص فهي لا تجري في محل الكلام؛ حينئذٍ يتم ما ذكروه من التمسك بإطلاق أدلة البراءة الشرعية لإثبات جريانها قبل الفحص في الشبهات الموضوعية.

قالوا بأنّ هذه الوجوه المتقدمة إذا تمّت ومنعت من جريان البراءة الشرعية في الشبهة الحكمية قبل الفحص، فهي لا تجري في الشبهة الموضوعية؛ وذلك لأنّه بحسب النتيجة ما تمّ من هذه الوجوه في الشبهة الحكمية كان عبارة عن بعض الوجوه ولم تتم كل الوجوه المتقدمة، ما تم منها هو عبارة عن وجوه بعضها يرجع إلى قصور في المقتضي، يعني يمنع من إطلاق أدلة البراءة لحالة ما قبل الفحص، وبعضها يرجع إلى إبراز وجود مانع يمنع من جريان البراءة في الشبهة الحكمية قبل الفحص، الوجوه الذي تم من وجوه قصور المقتضي في الشبهة الحكمية المتقدّمة كان هو الوجه المبني على دعوى أنّ احتمال القرينة المتصلة يوجب الإجمال ويمنع من التمسك بالظهور، فلا فرق بينه وبين احتمال قرينية الموجود، بناءً على أنّ احتمال وجود القرينة المتصلة يمنع من التمسك بالظهور ويوجب إجمال الدليل، تقدّم سابقاً أنه يمكن تطبيقه في باب الشبهات الحكمية بدعوى أنّنا نحتمل وجود قرينة حالية تكون موجبة لمنع إطلاق أدلة البراءة لحالة ما بعد الفحص، وموجبة لصرف أدلة البراءة عن الشمول لحالة ما قبل الفحص، وهذه القرينة هي عبارة عن شدّة اهتمام الشارع بتبليغ أحكامه وحث الناس على نشر أحكامه وإشاعتها والسؤال والفحص عنها، مجموع هذه الأدلة يمنع من إجراء البراءة قبل الفحص؛ لأنّ هذا الاهتمام الشديد بنشر الأحكام وحث الناس على تعلمها وتبليغها لا ينسجم مع تجويز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، إذا كان يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص؛ حينئذٍ كل مكلّف لا يجب عليه الفحص فيرجع إلى البراءة، هذا لا ينسجم مع شدة الاهتمام المذكور، فيكون هذا بمنزلة القرينة المتصلة التي تحتف بأدلة البراءة وتمنع من إطلاقها لحالة ما قبل الفحص، فإذا احتملنا وجود هذه القرينة المتصلة؛ حينئذٍ بناء على المبنى الذي اشرنا إليه من أنّ احتمال القرينة المتصلة يكون موجباً للإجمال ويمنع من التمسك بالظهور، لا يمكن التمسك بالظهور الإطلاقي لأدلة البراءة لإثبات جريانها قبل الفحص.

إذا ترقّينا أكثر وقلنا أنّ القضية ليست قضية احتمال؛ بل هناك قطع بوجود هذا الاهتمام من قبل الشارع وليست مجرّد احتمال قرينة متصلة حتى يبنى هذا على كبرى الإيمان ــــــــ خلافاً للمشهور ــــــــ أنّ احتمال القرينة كاحتمال قرينية الموجود يمنع من الظهور ويوجب الإجمال؛ بل حتى إذا قلنا بالتفريق بينهما، وأنّ احتمال قرينية الموجود يمنع من الظهور أمّا احتمال وجود القرينة المتصلة فلا يمنع من التمسك بالظهور، حتى بناءً على هذا نقول أنّ مقامنا ليس مقام احتمال القرينة المتصلة، وإنّما هو مقام القطع واليقين بوجود هذه القرينة، وهذا يمنع من الظهور ويمنع من التمسك بالظهور الإطلاقي لأدلة البراءة لإثبات جريانها في حالة ما قبل الفحص. هذا الدليل التام في الشبهة الحكمية واضح أنّه لا يجري في محل الكلام؛ لأنّه في محل الكلام نحن نتحدث عن الشك في موضوع الحكم الشرعي لا في الحكم الشرعي، في محل الكلام فرض الكلام في الشبهة الموضوعية هو العلم بالحكم الشرعي، فلا معنى لأن نستدل على جريان البراءة بأنّ هذه البراءة تكون منصرفة عن حالة ما بعد الفحص ونستدل على ذلك بالأخبار الدالة على وجوب التعلّم ونشر الأحكام، هي تقول بنشر الأحكام ولا تقول بوجوب تعلّم موضوعات الحكم الشرعي، فإذن: هذه القرينة المتصلة التي نحتملها أو نقطع بها هي مختصة بالشبهات الحكمية ولا تشمل الشبهات الموضوعية، فهذا الوجه إذا تمّ فهو إنّما يتم لإثبات وجوب الفحص، يعني يمنع من إطلاق أدلة البراءة في الشبهات الحكمية، ولكنه لا يتم في محل الكلام.

من الوجوه المتقدّمة التي تمّت والتي تدخل في وجوه بيان المانع هي مسألة أخبار التعلّم والفحص والسؤال، قلنا أنّ بعضها تام ويمكن الاستدلال به على وجوب الفحص، وهذا الوجه أيضاً واضح في انه يختص بالشبهات الحكمية؛ لأنه يعتمد على الأدلة الدالة على وجوب السؤال والفحص ووجوب التعلم، والتعلم هو تعلّم الأحكام الشرعية، فهو يختص بالشبهات الحكمية ولا يشمل الشبهات الموضوعية، فهو إذا منع من إطلاق أدلة البراءة إنّما يمنع منه في خصوص الشبهات الحكمية ولكنه لا يمنع من إطلاق أدلة البراءة في الشبهات الموضوعية. وهكذا سائر الوجوه المتقدّمة ما تم منها يختص بالشبهات الحكمية، وبناءً على هذا حينئذٍ يمكن أن يقال: أنّ إطلاق أدلة البراءة في الشبهات الموضوعية مُحكّم ولا قصور فيه كما أنّه لا يوجد ما يمنع منه، فيتم ما ذكروه من الاستدلال على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية قبل الفحص بإطلاق أدلة البراءة الشرعية.

نعم، نفس الكلام الذي ذكرناه في ذيل البحث السابق في مسألة الكلام عن الشبهة الموضوعية بلحاظ البراءة العقلية هنا أيضاً يُذكر وهو مسألة الاستثناء التي ذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه)، هو في الحقيقة ذكرها هنا وذكرت هناك أيضاً، في محل الكلام أيضاً نفس الكلام يقال، هنا أيضاً المحقق النائيني(قدّس سرّه) يستثني من القاعدة العامّة في الشبهات الموضوعية أنّه لا يجب فيها الفحص ويجوز إجراء البراءة قبل الفحص، هنا أيضاً يستثني الحالتين المتقدمتين، يقول: في هاتين الحالتين يجب الفحص، والدليل هو نفس الدليل، في الأول كان الدليل هو عبارة عن أنّ ترك الفحص يؤدي إلى عدم امتثال التكليف الشرعي حينما يتوقف امتثاله على الفحص عن موضوعه؛ لأنّ موضوعه من الموضوعات التي لا تُعلم إلاّ بالفحص كالاستطاعة والنصاب وغيرها بقطع النظر عن التطبيق، وقال: في حالة من هذا القبيل هناك ملازمة عرفية بين تشريع هذا الحكم الشرعي وبين إيجاب الفحص، تشريع حكم بوجوب الزكاة متوقف على النصاب مع كون النصاب من الموضوعات التي لا تُعلم إلاّ بالفحص، هناك ملازمة عرفية بين تشريع حكم من هذا القبيل وبين إيجاب الفحص على المكلف، نفس هذا الدليل أيضاً يجري في المقام من دون فرقٍ بينهما، هنا أيضاً يقول: في محل الكلام الموضوعات التي هي من هذا القبيل يجب فيها الفحص؛ لأنّ ترك الفحص يؤدي إلى عدم امتثال التكليف الشرعي، فالملازمة العرفية تكون ثابتة بين تشريع حكم من هذا القبيل وبين إيجاب الفحص عن موضوعه في محل الكلام، فهنا أيضاً نقول يُلتزم بهذه الملازمة العرفية التي ذكرها؛ إذ لا فرق بين البراءة العقلية وبين البراءة الشرعية من هذه الجهة، أيضاً يقال أنّ البراءة الشرعية لا تجري في حالةٍ من هذا القبيل لأنّ جريانها قبل الفحص يؤدي إلى عدم امتثال ذلك التكليف.

في الحالة الثانية التي هي كفاية أن يفتح عينيه حتى يعلم بموضوع الحكم الشرعي، أيضاً يجري نفس الكلام، ودليله نفس الدليل، وما ذكرناه من تعليق هناك أيضاً يرد في المقام بلا حاجة إلى التكرار. هذا كلّه ما يرتبط بأصل وجوب الفحص في الشبهتين الحكمية والموضوعية. بعد أن أكملنا الكلام عن أصل وجوب الفحص وتبيّن أنّ الفحص يجب في الشبهات الحكمية ولا يجب في الشبهات الموضوعية إلاّ بالمقدار المستثنى.

يقع الكلام في أمور ترتبط بهذا البحث:

الأمر الأول: في تعيين المقدار الواجب من الفحص. هل يجب الفحص حتى يحصل العلم بعدم وجود دليل يثبت الحكم الشرعي حتى يمكن إجراء البراءة ؟ أو يكفي حصول الاطمئنان بعدم الدليل ؟ أو نتنزل أكثر ونقول بكفاية حصول الظن بعدم الدليل ؟ هكذا عنونوا المسألة بهذا الشكل.

السيد الخوئي(قدّس سرّه) ذكر بأنّ الصحيح هو كفاية الاطمئنان، لا نشترط حصول العلم ولا نكتفي بالظن، وإنّما نشترط حصول الاطمئنان بعدم الدليل. واستدل على عدم لزوم تحصيل العلم في محل الكلام باعتبار:[1]

أولاً: لا دليل على لزوم تحصيل العلم في مثل المقام.

ثانياً: إنّ إلزام المكلّف بتحصيل العلم بعدم الدليل يوقع المكلف في العسر والحرج؛ بل يوجب سد باب استنباط الأحكام الشرعية؛ لأنّه عادة لا يحصل القطع بعدم الدليل للمستنبط.

أمّا كفاية الظن، فيقول: أنّ الظن لا يكفي لعدم الدليل على حجّية مثل هذا الظن؛ فحينئذٍ يتعيّن الاكتفاء بالاطمئنان وهذا الاطمئنان حجّة، وبناء العقلاء قائم على العمل بالاطمئنان وهو حجّة باعتبار عدم ردع الشارع عنه. هذا بالنسبة إلى أصل الكبرى، أنّه يجب تحصيل الاطمئنان بعدم وجود دليل مثبت للحكم الشرعي حتى يجوز الرجوع إلى الأصول العملية.

من ناحية صغروية متى يحصل الاطمئنان بعدم وجود دليل مخالف للبراءة ومثبت للحكم الشرعي ؟ هل يكفي في ذلك مراجعة المجتهد الكتب الأربعة وعدم العثور على دليل ؟ أو يحتاج إلى أن يفحص في دائرة أوسع من ذلك ؟ ما هو الميزان في هذا ؟ يقول: حصول الاطمئنان سهل لمن تصدى لاستنباط الأحكام الشرعية، بنكتة أنّ علماءنا الأبرار المتقدّمون(رضوان الله عليهم) بذلوا جهوداً جبارة في جمع الأخبار وترتيبها وتبويبها؛ حينئذٍ إذا رجع المجتهد إلى أخبار باب من الأبواب، وفي الأبواب المناسبة لذلك الباب أيضاً؛ وحينئذٍ إذا رجع إلى ذلك وفحص ولم يعثر على دليل، فهذا يوجب حصول الاطمئنان له بعدم وجود دليل، وهذا يكفي للرجوع إلى البراءة، ولولا ذلك الترتيب والتبويب لوجب على المجتهد الفحص في كل الكتب ولا يحصل الاطمئنان بالرجوع إلى هذه الكتب الموجودة بأيدينا.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo