< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

38/03/26

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

كان الكلام في الصورة الثانية وهي ما إذا فُرض أنّ دوران الأمر بين ضررين لشخصين. وقلنا بأنّ هذه الصورة لها فروض، وكان الكلام في الفرض الأول وهو ما إذا كان هذا الدوران بفعل أحد المالكين، وهذا الفرض فيه عدّة احتمالات تقدّم ذكرها، ولكن نقف عند الاحتمال الأخير الذي يُفصّل كما قلنا بين ما إذا أذِن المالك الآخر للذي كان سبباً في الدوران في إتلاف ماله، وبين ما إذا لم يأذن له . فإذا فرضنا أنّ الذي سبب الضرر هو مالك الدابة في المثال؛ حينئذٍ نفصّل بين ما إذا أذِن مالك القدر في إتلاف ماله وبين ما إذا لم يأذن في ذلك، تقدّم ما هو الحل إذا أذِن في ذلك، وانتهى الكلام إلى ما إذا فرضنا أنّ مالك القِدر لم يأذن في إتلاف ماله، في هذه الحالة ذكرنا في الدرس السابق أنه تارةً نفترض أنّ إيقاع مالك الدابة الضرر على نفسه ليس حراماً، وإنّما هو أمر مباح، وفي هذه الحالة يتعيّن عليه إتلاف مال نفسه، وقلنا بأنّ هذا باعتبار أنّه مقدّمة لدفع الضرر الذي لحق مالك القِدر؛ لأنّ المفروض أنّ هذا النقص أو العيب الذي لحق بالقِدر حصل بفعل مالك الدابة؛ لأنّه هو الذي أدخل رأس دابته في قِدر غيره، فيجب عليه رفع هذا العيب، ومن الواضح أنّ رفع هذا العيب عن قِدر مالك القِدر لا يكون إلاّ بأن يُتلف مال نفسه بأن يذبح الدابّة .

وطرحنا فكرة أنّه هل يمكن افتراض الالتزام بأنّ مالك الدابة يجوز له أن يتلف مال غيره، فيجوز له أن يكسر القِدر ويخلّص دابته ويضمن لمالك القِدر المثل أو القيمة. في الدرس السابق قلنا لا يجوز له ذلك، وإنّما المتعيّن عليه أن يتلف مال نفسه لرفع العيب والنقص الذي حصل في ملك الغير، ولا يجوز له أن يتلف مال غيره لكي يخلّص مال نفسه؛ لأنّ هذا تصرّف حرام؛ لأنّ المفروض في المسألة أنّ الغير ـــــــــ مالك القِدر ـــــــــ لم يأذن للمالك الآخر في إيقاع الضرر في ماله، فإذن: إتلاف القِدر تصرّف غير مأذون فيه من قِبل مالكه، فيكون حراماً، والمفروض أنّ إتلاف مال نفسه مباح، فيدور الأمر بين تصرفٍ مباحٍ وبين تصرّفٍ حرام؛ وحينئذٍ يتعيّن عليه أن يختار التصرّف المباح الذي هو إتلاف مال نفسه؛ بل هذا التصرّف هو المتعيّن عليه وليس فقط مباحاً، هو في نفسه مباح، لكنّه يكون واجباً بالنسبة إليه، باعتبار أنه قد فُرض أنه مقدّمة لدفع العيب والنقص اللاحق بقدر مالك القِدر، والعيب والنقص الذي يلحق القِدر هو باعتبار أنّ القِدر وفيه رأس الدابة غير القِدر الذي ليس فيه رأس الدابة، وهذا عيب ونقص في القِدر، هذا العيب حدث بسبب مالك الدابة، فعليه رفع هذا العيب، ورفعه لا يكون إلا بإتلاف ماله، فيجب عليه إتلاف ماله مقدّمة لرفع العيب الذي حدث بسببه ولا يجوز له أن يرتكب التصرّف الآخر الغير مأذون فيه، أي أن يوقع الضرر بقِدر الغير لكي يخلّص دابته؛ لأنّ هذا تصرّف في ملك الغير غير مأذون فيه، فيكون تصرّفاً محرّماً، فيتعيّن عليه اختيار التصرّف المباح .

قد يقال: أنّ حرمة التصرّف في ملك الغير في المقام يمكن أن ترتفع بحديث لا ضرر، باعتبار أنّ هذه الحرمة ضررية؛ لأننا حينما نخاطب مالك الدابة في هذا الفرض ونقول له: يحرم عليك التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، فهذه الحرمة تكون منشئاً لإتلاف دابته؛ لأنه إذا حرم عليه أن يكسر القدر؛ حينئذٍ سوف يضطر إلى أن يتلف دابته، وهذا ضرر عليه، وهذا الضرر نشأ من حرمة التصرّف في ملك الغير.

فإذن: هذا الحكم ــــــــ حرمة التصرّف في ملك الغير ــــــــ حكم ضرري، فإذا كان حكماً ضررياً؛ حينئذٍ تشمله قاعدة لا ضرر؛ لأنّ مفاد القاعدة هو نفي الأحكام الضررية، وهذا حكم ضرري، فيمكن التمسّك بالقاعدة لنفي حرمة التصرّف في ملك الغير بدون إذنه، وإثبات جواز التصرّف في مال الغير من غير إذنه .

يظهر من كلمات السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنه يجيب عن هذا الإشكال بأنّ الضرر الحاصل لمالك الدابة لم ينشأ من هذا الحكم الشرعي(حرمة التصرّف في ملك الغير بغير إذنه) الضرر الحاصل في محل الكلام هو ضرر ثابت بقطع النظر عن الأحكام الشرعية، وليس هو ضرر حاصل بسبب الحكم الشرعي حتى نتمسّك بالقاعدة لنفيه، وإنّما هذا الضرر حصل بسبب سوء تصرّف مالك الدابة، فأنّه هو الذي أدخل رأس دابته في قِدر الغير، فلا معنى للتمسّك بالقاعدة لنفي هذه الحرمة وإثبات جواز التصرّف في ملك الغير .

ولكن، يمكن التأمّل في هذا الجواب باعتبار أننا لابدّ أن نميّز بين نوعين من الضرر، حيث هناك ضرر ينشأ من إتلاف الدابة ، وهناك ضرر آخر ينشأ من إدخال رأس الدابة في القِدر، هذان ضرران، والذي يحصل بقطع النظر عن الأحكام الشرعية هو الضرر الناشئ من إدخال رأس الدابة في القِدر، وهذا كما قلنا عيب ونقص في المال، هذا العيب في المال هو في الدابة وفي القِدر، فالدابة ورأسها في القِدر غير الدابة ورأسها حر طليق، وكون رأس الدابة في القِدر هو عيب فيها، ولا يمكن تخليصها منه إلا بإتلاف أحدهما، وكذلك القِدر فيه رأس الدابة غير القدر ليس فيه رأس الدابة، هذا عيب في القدر، هذا الضرر والعيب حصل بقطع النظر عن الحكم الشرعي، وإنّما حصل لأسباب تكوينية ولا علاقة له بالحكم الشرعي، هذا هو الضرر الذي يثبت بقطع النظر عن الأحكام الشرعية، وأمّا الضرر الذي ينشأ من إتلاف الدابة عندما نُلزم مالك الدابة بأن يتلف دابته، هذا ضرر آخر، هذا الضرر هو الذي يُدّعى بأنه نشأ من الحكم الشرعي، فأنّه لولا حرمة التصرّف في ملك الغير لما وقع هذا في إتلاف دابته؛ لأنّه حينئذٍ يجوز له إتلاف مال الغير إذا لم نفترض الحرمة، فيتلف القِدر ويخلّص دابته ولا يقع في الضرر . إذن: وقوعه في الضرر بإتلاف الدابة حصل من تحريم التصرّف في ملك الغير، فيمكن أن نقول بأنّ هذا الضرر نشأ من الحكم الشرعي؛ لأنه نشأ من حرمة التصرّف في مال الغير؛ فحينئذٍ يمكن أن يُدّعى بأنّ القاعدة تشمل هذه الحرمة، باعتبار أنها حرمة ضررية وتكون موجبة لارتفاع هذه الحرمة وجواز إتلاف مال الغير . إذن: هذا الجواب عن التمسك بالقاعدة في المقام كأنه ليس واضحاً .

والجواب الصحيح عن ذلك هو: ما تقدّم الإشارة إليه، وهو أنّ القاعدة لا تجري عندما يكون جريانها في موردٍ مستلزمٍ لرفع الضرر عن شخصٍ وإلحاق الضرر بشخصٍ آخر، لا تجري القاعدة في هذا المورد، القاعدة امتنانية كما تقدّم، ومقتضى الامتنان أن لا يُمَنّ على شخصٍ بإجراء القاعدة، والحال أنه يلزم من إجراء القاعدة إلحاق الضرر بشخصٍ آخر . في محل الكلام عندما نريد أن نجري القاعدة لنفي حرمة التصرّف في ملك الغير، هذا وإن كان فيه امتنان على مالك الدابة؛ لأنه بذلك نرفع عنه الضرر، لكنّه خلاف الامتنان بالنسبة إلى مالك القِدر، مجرّد أنّ مالك الدابة إذا أتلف قِدر المالك الآخر يضمن له المثل أو القيمة لا يرفع الضرر عن مالك القِدر، هذا ضرر حصل في ماله نتيجة إجراء القاعدة لنفي حرمة التصرّف في ملك الغير، ونتيجة إجراء القاعدة هي أننا أوقعنا الضرر بمالك القِدر ؛ لأنّ مالك الدابة سوف يكسر قدره . صحيح أنه سوف يضمن له المثل أو القيمة، لكنّ هذا في حدّ نفسه ضرر عليه، والقاعدة لا تجري عندما يكون فيه امتنان على شخصٍ وخلاف الامتنان على شخصٍ آخر، وجريان القاعدة في المقام يرفع الضرر عن شخصٍ، لكنّه يُلحق الضرر بشخص آخر، وفي مثل هذه الحالة لا تجري القاعدة .

الفرض الثاني: أن نفترض أنّ الدوران حصل بفعل شخصٍ ثالث، كما لو فرضنا أنّ شخصاً ثالثاً أدخل رأس دابة زيد في قِدر عمرو، وليس لزيد ولا لعمرو علاقة بذلك . ذكرنا في الدرس السابق أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) ذكر أنّ الحكم في مثل هذه الحالة هو أنّ الشخص الثالث الذي صار سبباً في هذا الأمر، يتخيّر بين إتلاف أيّهما شاء، فبإمكانه أن يتلف الدابة ويضمن لمالكها المثل أو القيمة، ويُسلّم القدر إلى مالكه سالماً، وبإمكانه أن يكسر القِدر ويضمن لصاحبه المثل أو القيمة، ويسلّم الدابة إلى مالكها؛ لأنه بالنتيجة يتعذّر عليه إيصال هذا المال سالماً لمالكه، وإيصال هذا المال أيضاً سالماً لمالكه؛ فحينئذٍ عليه أن يوصل أحدهما بعينه، والآخر بماليته .

لكن، هناك مرحلة قبل ما ذكره لابدّ من ملاحظتها، ما ذكره يتم فيما إذا فرضنا أنّ كلاً من المالكين أذِن للشخص الثالث في إتلاف ماله، في هذه الحالة هذا التخيير الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) يكون له وجه؛ لأنّه في حالة الإذن، مالك الدابة أذِن للشخص الثالث في إتلاف ماله ورضي بأن يعوضه عن ذلك بالمثل أو القيمة، وكذلك مالك القِدر أيضاً أذِن له في ذلك؛ حينئذٍ هو يتخيّر بين أن يتلف هذا المال، أو يتلف المال الآخر، فيثبت التخيير في حالة إذن كلٍ منهما له بالتصرّف في ماله. وأمّا إذا فرضنا أنّ أحدهما أذِن له، بينما لم يأذن له الآخر، كما لو فرضنا أنّ مالك القِدر أذِن له في إتلاف قدره، أمّا مالك الدابة، فلم يأذن له في إتلاف دابته، في هذه الحالة لا وجه للتخيير؛ بل يتعيّن عليه أن يتصرّف التصرّف المأذون فيه، إذا أذِن مالك القِدر له في إتلاف قِدره، يتعيّن عليه أن يتلف القِدر ويضمن لصاحبه المثل أو القيمة، ويسلّم الدابة لصاحبها سالمة؛ وحينئذٍ لا مجال للتخيير بين إتلاف الدابة وبين إتلاف القِدر؛ لأنّ إتلاف الدابة غير جائز؛ لأنّ مالكها لم يأذن في ذلك ــــــــ بحسب الفرض ــــــــ بينما إتلاف القِدر أمر مأذون فيه من قِبل مالكه، فهو أمر مباح؛ وحينئذٍ يتعيّن عليه ارتكابه لا أنه يتخيّر بينهما كما ذُكر .

هناك فرض ثالث، وهو ما إذا فرضنا أنّ كلاً منهما لم يأذن، في هذه الحالة هناك رأي يرى وقوع النزاع حينئذٍ بين المالكين من جهة، وبين الشخص الثالث من جهة أخرى؛ لأنّ كلاً من المالكين ــــــــ بحسب الفرض ـــــــــ لم يأذن له في إتلاف ماله، وكل منهما يريد ماله سالماً خالياً من العيب، والشخص الثالث لا يتمكن من تسليم كلٍ من المالين على صفته السابقة إلى المالكين، فيقع النزاع بينهما في هذه الحالة، وبعد فرض وقوع النزاع لابدّ من الرجوع إلى الحاكم الشرعي لفض هذا النزاع . في هذه الحالة هل للحاكم الشرعي أن يختار أحد التصرّفين ويوقع الضرر بأحد المالكين ؟ هذا مشكل؛ لأنه ترجيح بلا مرجّح؛ وحينئذٍ يُرجع للقرعة، باعتبار أنّ القرعة لكل أمرٍ مشكل، فعندما نفقد المرجّحات وهناك تنازع يُرجع إلى القرعة، فيُرجع إلى القرعة لتعيين من يجب إتلافه .

الفرض الثالث: ما إذا كان الدوران لا بفعل شخص، وإنما بفعل عاملٍ طبيعي كالزلزلة وغيرها، في هذا الفرض نُسب إلى المشهور أنه يرى في هذه الحالة أنه لابدّ من اختيار أقل الضررين، إذا فرضنا أنّ إتلاف القِدر أقل ضرراً من إتلاف الدابة، كما هو كذلك عادةً؛ فحينئذٍ يتعيّن اختيار أقل الضررين وإتلاف القِدر وتسليم الدابة إلى مالكها .

هناك مسألة أخرى غير مسألة ماذا نعمل، وهي مسألة ضمان القِدر الذي أُتلف لمالك القِدر، فهل له ضمان ؟ ومن الضامن في حالة فرض الضمان ؟ هل مالك الدابة هو الذي يضمن المثل أو القيمة لمالك القدر باعتبار أنه تم تخليص دابته ووصلت إليه سالمة؛ ولأجل أن تصل إليه سالمة نحن أتلفنا القِدر ؟ نُسب إلى المشهور أنه يرى أنّه لابدّ من ارتكاب أقل الضررين، وأنّ ضمان ذلك يكون على المالك الآخر .

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo