< قائمة الدروس

الموضوع : حجية القطع

الجهة الثانية في حجية القطع

وفي تفسيرها عدة أقوال :

القول الأول : أن حجية القطع هي الطريقية والكاشفية وهي عين القطع الموضوعي الطريقي وذاته وذاتياته ، فإنها عين الكشف عن الواقع ، كما أن القطع الذاتي عين الصورة الذهنية في أفق الذهن ، والقطع الخارجي عين الكشف عن الواقع ، وقد اختار هذا القول شيخنا الأنصاري (قده)[1] ، وعلى هذا فحجية القطع ذاتية وليست بجعلية لا بالجعل المركب ولا بالجعل البسيط .

القول الثاني : أن حجية القطع ثابتة ببناء العقلاء ، وتكون من صغريات قاعدة حسن العدل وقبح الظلم ، فإنَّ هذه القاعدة من القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظا للنظام العام الحياتي للإنسان وإبقاء للنوع ، فإنَّ حكم العقلاء بالتحسين والتقبيح العقليين واستحقاق الفاعل المدح والثواب على الأول والذم والعقاب على الثاني في نفسه نظاما عاما للحياة ، إذ لا يمكن حياة المجتمع بدون نظام ، فالعقلاء جعلوا التحسين والتقبيح العقليين حفظا للنظام ، ولا واقع موضوعي للتحسين والتقبيح العقليين ما عدا استحقاق فاعل الحسن المدح والثواب وفاعل الظلم الذم والعقاب ، وحجية القطع من عناصر هاتين القاعدتين ، فإنَّ موافقة القطع حسنٌ وعدل ومخالفته قبيح وظلم ، فمن أجل ذلك حجية القطع ثابتة ببناء العقلاء وتكون من صغريات هاتين القاعدتين اللتين هما من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء ، وقد أختار هذا القول المحقق الأصفهاني (قده)[2] .

القول الثالث : أن حجية القطع لازم عقلي له ، والعقل يدرك ذلك ويدرك حسن موافقته وقبح مخالفته واستحقاق المدح على موافقته والذم على مخالفته ، وقد أختار هذا القول السيد الأستاذ (قده)[3] ، وقد أفاد في وجه ذلك أن إدراك العقل حسن العمل بالقطع لا يتوقف على أي جعل من جاعل أو بناء عقلاء وليس من القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء ، بل هو أمرٌ أزلي ، فإنَّ أدراك العقل حسن متابعة القطع داخل في قضية أدراك العقل حسن العدل وهذا الإدراك أمر أزلي كأزلية سائر الملازمات العقلية .

القول الرابع : أن معنى حجية القطع حكم العقل بوجوب موافقته والتحرك نحوه والاجتناب عن مخالفته ، وقد اختار هذا القول صاحب الكفاية (قده)[4] .

فإذن الأقوال في تفسير حجية القطع أربعة .

ولنا تعاليق على هذه الأقوال .

أما القول الأول ، وهو أن حجية القطع بمعنى الطريقية والكاشفية وهو مما لا يمكن المساعدة عليه لأمرين:

الأول : لا شبهة في أن المرتكز في أذهان العرف الثابت في أعماق نفوسهم أن الحجية أمر زائد على ذات القطع ، ومن هنا إذا قيل (( القطع حجة )) يرى أن هذا الحمل حمل شائع لا حمل الشيء على نفسه ، ولو كانت الحجية بمعنى الطريقية والكاشفية فلازم ذلك أن حجية القطع غير القطع لا أنها أمر زائد على ذات القطع ، فعندئذٍ معنى قولنا القطع حجة هو القطع قطع وهذا لا معنى له لأنه من قبيل حمل الشيء على نفسه كالإنسان إنسان وهو لغو ، ولا شبهة أن المرتكز في الأذهان أنه لا فرق بين قولنا القطع حجة وبين قولنا الظن حجة وخبر الثقة حجة ، فإن هذه الحمول من الحمل الشائع والمحمول أمر زائد على ذات الموضوع ، هذا هو المرتكز في الأذهان .

فإذن تفسير حجية القطع بالطريقية والكاشفية التي هي عين القطع في عالم الخارج لا معنى له ولا يرجع إلى معنى محصّل ، فتفسير حجية القطع بهذا المعنى غريب من شيخنا الأنصاري (قده) .

الثاني : أن لازم هذا القول أن القطع حجة مطلقا في الأمور التشريعية والأمور التكوينية ، فكما أنه حجة في الأحكام الشرعية كذلك هو حجة في الأمور التكوينية ، ومعنى حجية القطع في الأحكام الشرعية أن القاطع مسئول عن قطعه ، فإذا لم يعمل على طبقه استحق العقوبة من قبل المولى ، فإذا قطع بوجوب شيء أو بحرمة آخر فهذا القطع حجة عليه من قبل المولى وهو مسئول عنه بحيث لو لم يعمل به لاستحق العقوبة على المخالفة ، وأما القطع في الأمور التكوينية فليس كذلك ، فإن القطع بأن مسجد الكوفة مساحته عشرة آلاف متر لا معنى لحجيته فإن القاطع ليس مسئولا عنه ، فإذا لم يعمل على طبقه لم يستحق شيئا ، ولازم تفسير شيخنا الأنصاري (قده) لحجية القطع أن القطع حجة مطلقا .

فالنتيجة أن ما ذكره الشيخ الأنصاري (قده) لا يمكن المساعدة عليه ، بل هو غريب من مثله (قده).

وأما القول الثاني ، فالظاهر أنه لا شبهة في أن حسن العدل وقبح الظلم قضيتان واقعيتان ثابتتان في الواقع ويدركهما العقل ، وليستا من القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لحفظ النظام العام وإبقاء النوع البشري ، لأن صفة الحسن صفة ذاتية للعدل وليست مجعولة ببناء العقلاء وكذا صفة القبح بالنسبة للظلم ، ومن هنا العقل يدرك حسن العدل وقبح الظلم ولا يتوقف إدراكه لذلك على وجود العقلاء في الكرة الأرضية ، بمعنى أنّا لو فرضنا عدم وجود العقلاء على الكرة الأرضية غير عاقل واحد فلا شبهة في أن عقله يدرك حسن العدل وقبح الظلم .

فإذن إدراك العقل لحسن العدل وقبح الظلم لا يتوقف على وجود العقلاء في الأرض وبنائهم على ذلك حتى يدركوا وجود المصالح والمفاسد ويبنوا على التحسين والتقبيح العقليين على ضوء تلك المصالح والمفاسد ، فإنَّ من الواضح أن أرداك العقل لحسن العدل وقبح الظلم لا يتوقف على بناء العقلاء وجعلهم ، فإنَّ حسن العدل وقبح الظلم كإمكان الممكن ووجوب الواجب بالذات وامتناع الممتنع بالذات

وكزوجية الأربعة وفردية الثلاثة وما شاكل ذلك ، فلا يعقل انفكاك الحسن عن العدل والقبح عن الظلم .


[2] نهاية الدراية، الأصفهاني، ج3، ص18.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo