< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

32/11/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب النكاح \ الزواج المدني \ صحة العقد مع فساد الشرط

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين وعلى من تبعهم بصدق وإخلاص وإيمان إلى قيام يوم الدين. اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، اللهم افتح علينا أبواب رحمتك يا ارحم الراحمين ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

انتهينا من أدلة من قال بأن فساد الشرط يؤدي إلى فساد العقد، اليوم نتعرض للأدلة من قال بصحة العقد مع فساد الشرط، إذ فسد الشرط لا يفسد العقد.

الأدلة : يوجد دليلان

سأقدم في البحث الأصل اللفظي رغم أنه بحسب المنهجية التي قدمناها، فإن الخبر مقدم على الأصل اللفظي، الأخبار علميات، العلميات مقدمة. وذكرنا أن الأصل اللفظي يأتي في آخر سلم العلميات، قبل الأصل العملي مباشرة بعد الخبر، وذلك لطول الكلام على الأخبار وقصر الكلام في الأصل اللفظي.

الدليل الأول : عمومات " أوفوا بالعقود " وإطلاقات أدلة صحة العقود فإنها تستوجب صحة العقود مطلقا حتى مع فساد الشرط. عندما أقول " أوفوا بالعقود " يعني سواء كان الشرط صحيحا أم فاسدا أوفوا بهذا العقد. بعبارة اخرى: أن صحة العقود مع فساد الشرط لا تحتاج إلى دليل، بل الإفساد يحتاج إلى دليل. وقد صرح بذلك الشيخ الطوسي (اعلى الله مقامه) في كتاب الخلاف في مسألة الرهن حيث قال : { دليلنا أن فساد الشرط لا يتعدى إلى فساد الرهن ولا إلى فساد البيع، لأن تعديه اليها يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك}[1] . وهذا صريح بعمومات " أوفوا بالعقود ".

الدليل الثاني: الأخبار وهي كثيرة التي تدل على أن فساد الشرط لا يؤدي إلى فساد العقد، نصوص شبه صريحة أو صريحة في بعض الأخبار. وقلنا أن الأخبار مقدمة على الدليل الأول بحسب المنهجية، سنكرر هذا الكلام حتى لا يتوهم أنه متأخر، خصوصا أننا التزمنا في أبحاثنا غالبا بالمنهجية: علم، علمي، أصل لفظي، أصل عملي. حتى تترتب ذهنية الاستنباط وتترسخ.

الأخبار وردت كثيرة في عدة عقود منها عقد البيع وعقد الزواج، سنذكر هنا بعض الأخبار التي وردت في البيع.

الخبر الأول:

خبر شراء عائشة لبريرة (أمة) من أصحابها وقد شرطوا عند البيع شرطا فاسدا وهو أن يكون ولاؤها لمواليها لا للمعتق، فلما أعتقتها عائشة طالب مواليها بولائها، فقال لهم الرسول (ص) الولاء لمن اعتق. أي هذا الشرط فاسد، فأمضَ البيع وصحح العتق وأبطل الشرط. إذن بطلان الشرط لا يؤدي إلى بطلان عقد البيع، ولو أن عقد البيع كان فاسدا لما صح العتق لأنه ورد أن " لا عتق إلا في ملك ". والملك إنما جاء من عقد البيع.

هذا المضمون ورد في عدة نصوص نذكر منها:

أولا : روى الشيخ الكليني (أعلى الله مقامه) في الكافي علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن أمَة كانت تحت عبد فأعتقت الأمَة، قال: أمرها بيدها إن شاءت تركت نفسها مع زوجها وإن شاءت نزعت نفسها منه. وذكر أن بريرة كانت عند زوجها وهي مملوكة فاشترتها عائشة فأعتقتها، فخيرها رسول الله (ص) وقال إن شاءت أن تقر عند زوجها وإن شاءت فارقته. – هذا يعني أن الشراء صحيح وأن عقد بيعها صحيح وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أن لهم ولاءها، فقال رسول الله الولاء لمن اعتق." [2]

سند الرواية :

السند معتبر أعلائي وإن سمي باصطلاح المشهور إنها رواية حسنة. ابن أبي عمير من الأعلائيّن من الذين لا يروون إلا عن ثقة، من أصحاب الإجماع. الكلام أن علي بن إبراهيم، معظم رواياته عن أبيه، وأبوه لم يرد توثيق صريح به ولكنه رجل كان فاضلا جليلا وجيها إلى آخره.

دلالة الرواية :

يعنى الشرط فاسد والبيع صحيح. الشاهد هو في الفقرات الأخيرة فإن البائعين الموالي للأمة اشترطوا شرطا فاسدا، وهو أن ولاءها لهم فقال رسول الله (ص) الولاء لمن اعتق، أي أن شرطكم فاسد ولكن البيع صحيح، هذا يدل على أن فساد الشرط لا يستلزم فساد المشروط وهنا فساد العقد.

ثانيا : روى الكليني (أعلى الله مقامه) ثقة الإسلام في الكافي قضية بريرة ج 6 ص 198 ح 4 . أبو علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن عيسى بن القاسم عن أبي عبد الله (ع) قال: قالت عائشة لرسول الله (ص) أن أهل بريرة اشترطوا ولاءها، فقال رسول الله الولاء لمن اعتق. [3]

سند الرواية : الرواية معتبرة

دلالة الرواية : والاستدلال نفس الاستدلال بالرواية السابقة، يعني أن العتق صحيح، العتق فرع الملك، والملك نشأ من البيع، يعني البيع صحيح، رغم أن الشرط فاسد، هم اشترطوا الولاء لهم والرسول قال الولاء لمن اعتق، رسول الله (ص) أبطل الولاء لأنه ينافي حكم الله، الولاء لمن اعتق، هذا حكم ليس حقا وليس عطية، وقلنا أن الحكم إسقاطه بيد الجاعل، وذكرنا أن الحكم لا يسقط إلا بثلاثة أمور: إما أن الجاعل يسقطه وهذا في الشرع غير موجود لأنه بداء، إلا في النسخ، وإما لانتفاء موضوعه، وإما الامتثال، ثلاثة لا رابع لها. فالولاء للمولى ينافي حكم الله حتى أن الحكم هو أن الولاء للمعتق فما خالف ذلك إسقاط لحكم الله، وإسقاط الحكم غير صحيح، ورغم فساد الشرط لم يحكم رسول الله بفساد البيع، بفساد العتق، يعني أن فساد الشرط لا يؤدي إلى فساد المشروط، إلى فساد العقد.

ثالثا : روى الشيخ الصدوق (ره) في الخصال ص 190 ح 262. حديث محمد بن الحسن بن الوليد (ره) قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد وعبد الله أبي محمد – بن عيسى – عن محمد بن أبي عمير عن حماد بن عثمان الناب عن عبيد الله بن على الحلبي عن أبي عبد الله (ع) انه ذكر أن بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة فاشترتها عائشة وأعتقتها، فخيرها رسول الله (ص) إن شاءت أن تقر عند زوجها وإن شاءت فارقته، وكان مواليها الذين باعوها قد اشترطوا على عائشة أن لهم ولاءها، فقال رسول الله الولاء لمن اعتق "[4] .

سند الرواية :

السند معتبر، كلمة حدثنا تعني انها سماع لا وجادة، والأصل في حجية الحديث السماع، إشكال بعضهم على الوجادة، بل كثيرون أشكلوا، لكن لا تكون الوجادة دائما مبطلة للحديث، ولعله ذكرنا ذلك في بحث عن محمد بن سنان الذي كان من الأجلاء وأحاديثه متينة إلا أنه قال: ما رويته وجادة لا سماعا. وحماد بن عثمان الناب هو نفسه حماد بن عثمان الثقة الجليل -.

دلالة الرواية :

ومضمونا تدل أولا على فساد الشرط، وثانيا أن فساد الشرط لا يؤدي إلى فساد العقد المشروط، بقرينة أمره لعائشة بالعتق، ثم أن العتق صحيح بدليل تخييرها، لو لم يكن العتق صحيحا لما أصبحت حرة، وحريتها هي سبب تخيرها بين المفارقة والبقاء، وصحة العتق دليلا على صحة التملك، لأنه لا عتق إلا في ملك، والتملك دليل على صحة العقد، عقد البيع.

فإذن هذا المضمون قضية بريرة تدل على أن فساد الشرط لا يؤدي إلى فساد العقد.

الخبر الثاني :

روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد وعلي بن إبراهيم عن أبيه جميعا عن ابن محبوب عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل أراد أن يعتق مملوكا له وقد كان مولاه يأخذ منه ضريبة فرضها عليه في كل سنة، فرضي بذلك المولى ورضي بذلك المملوك، فأصاب المملوك في تجارته مالا سوى ما كان يعطي مولاه، فقال إذا أدى إلى سيده ما كان فرض عليه فما اكتسب بعد الفريضة فهو للملوك، ثم قال أبو عبد الله (ع) أليس قد فرض الله عز وجل على العباد فرائض فإذا أدوها إليه لم يسألهم عما سواها قلت له فما ترى للملوك أن يتصدق مما اكتسب بعد الفريضة التي كان يؤديها إلى سيده، قال: نعم واجب له ذلك – أي صحيح – قلت: فإن اعتق مملوكا مما اكتسب – أي عبد يحرر عبدا – سوى الفريضة لمن يكون ولاء المعتق، قال: يذهب فيتوالى من أحب فإذا ضمن جريرته وعقله كان مولاه وورثه، قلت له أليس قال رسول الله (ص) الولاء لمن اعتق، فقال: هذا سائبة لا يكون ولاؤه لعبد مثله، قلت: فإن ضمن العبد الذي اعتقه جريرته وحدثه، أيلزمه ذلك ويكون مولاه ويرثه، فقال: لا يجوز ذلك ولا يرث عبد عبدا"[5] .

في هذه الرواية عدة نقاط احببت أن اقرأها لما فيها من فوائد فقهية وتربوية، وهذا النص صريح في فساد الشرط وهو أن يكون ولاء العبد المحرر للعبد المملوك، ولا يرثه حتى ولو ضمن جريرته، لا يرث عبد حر، وهو صريح في صحة العتق التي تقتضي هذه الأعمال، كل ناشئ عن عتق، هذا العتق ناشئ عن شراء وبيع، يعني العتق صحيح، عقود البيع صحيحة، عقد شراء العبد صحيح، هذه كلها لوازم، إذن هو شبه صريح في صحة عقد البيع رغم فساد الشرط.

وايضا في السند قلنا هناك عمر بن يزيد وهو بياع السابري أو الصيقل لم يوثق ومجهول روي عنه كثيرا.

الخبر الثالث:

روى الكليني في الكافي عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن علي بن الحكم عن موسى بن بكر عن الفضيل قال: قال غلام لأبي عبد الله (ع) إني كنت قلت لمولاي بعني بسبع مئة درهم وأنا أعطيك ثلاث مئة، قال له أبو عبد الله (ع) إن كان لك يوم شرطت أن تعطيه شيء فعليك أن تعطيه وإن لم يكن لك يومئذ شيء فليس عليك شيء "[6] .

بعض الفقهاء قال هو صريح ببطلان الشرط وظاهر بصحة البيع، غايته أن الشرط كان من قِبَل طرف ثالث هو غير المشتري والبائع.

لكن إذا تأملنا في الرواية، هناك كلام في السند، وكلام في المضمون.

أما مضمون الرواية : الإنصاف أنها أجنبية عن كلامنا، وذلك لان الذي شرط على نفسه هو العبد، قال: بعني بسبع مئة ولك مني ثلاث مئة، العبد هو البضاعة هو الطرف الثالث، لا دخل له، لا بالبائع ولا بالمشتري، فما علاقته بصحة العقد.

هذا الإشكال الذي طرحه على نفسه هذا الفقيه قال: { غايته أن الشرط كان من قبل طرف ثالث هو غير المشتري والبائع } وكأن هذا شيء لا يخدش بالاستدلال. بل نعم يخدش في مسألتنا، نحن مسألتنا هي: هل فساد الشرط يؤدي إلى فساد العقد؟ أي شرط ؟ الشرط المأخوذ في متن العقد أو مضمونه، أما كما في الرواية العبد وعد بأن يعطي ثلاث مئة زيادة، ما علاقته بالبائع والمشتري؟ وما علاقته بالعقد؟ البائع والمشتري اجريا عقدا والعبد طرف ثالث. هذا أجنبي عن مسألتنا، هو وعد وعهد أو عقد آخر غير عقد البيع، من طرف ثالث، فهذا يخرجه عن مقامنا.

قد يقال لي انه هذه الرواية إذا كانت خارجة عن مقامنا، خارجة من مسألتنا فلماذا ذكرناها، نجيب: اننا ذكرناها تبعا لهم عندما يستدلون بها، وحتى نبين أولاّ أنها خارجة عن مسألتنا، وثانيا لما في أبحاث السند من أمور جيد أن نبحثها، أبحاث دقيقة وثمينة ومفيدة، في مسألة موسى بن بكر وكيفية توثيقه تأتي إن شاء الله.

 

والحمد لله رب العالمين.

 


[1] كتاب الخلاف ج3 ص254.
[2] الكافي ج5 ص485.
[3] الكافي ج6 ص198.
[4] - الخصال ص190 ح262.
[5] - الكافي ج6 ص190 ح1.
[6] - الكافي ج5 ص219.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo