< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

34/11/19

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: النظر واللمس
حكم النظر إلى المسلمة الأجنبية.
بعد هذا التوقف لعطلة شهر رمضان الكريم، نعود للدرس وكنا نبحث في كتاب النكاح عن الولايات، وكان أهمها بحث ولاية البكر على نفسها وفيه الكلام الكثير، وذهبنا هناك أن البكر الرشيدة المالكة أمرها حيث هي وليّة نفسها وليس لاحد معها شيء، أما إذا لم تكن مالكة أمرها تشترك في الولاية مع ولي أمرها. ثم انتقلنا إلى مسألة اللمس والنظر، بدأنا البحث بجواز نظر الرجل إلى المرأة التي يريد تزوجها، وذهبنا هناك إلى جواز النظر إلى كل ما يرفع الغرر والجهالة وليس النظر إلى مكان ما بعينه كشعرها ومحاسنها. وفي مسألة هل يجوز للمرأة أن تنظر إلى من يريد أن يتزوجها؟ ذهبنا إلى ذلك أيضا. ثم انتقلنا إلى مسألة جواز النظر إلى الكتابية، ووصلنا في القول إلى ما هو المشهور وهو جواز النظر إلى شعورهنَّ ورؤوسهنَّ بل قلنا إلى كل ما اعتدن عليه لأن التعليل عام وهو« إذا نهوا لا ينتهون » [1] وهذا يشمل كل ما اسقطن -أي النساء- حرمته، وذكرنا أن هذا الحكم يشمل نساء أهل الكتاب والمروي فيها ايضا العلوج وأهل البوادي، وذكرنا أن عموم العلّة يشمل كل أصناف غير المسلمات الكفار، بل انتقلنا إلى مسألة وهي محل ابتلاء كثير وهي المسلمات المتكشفات، هل يجوز النظر اليهنّ؟ وقلنا أن عموم العلّة يقتضي ذلك وهو " إذا نهين لا ينتهين " فكلما وجدت العلّة وجد المعلول، وذكرنا في محله أن العلّة كما توسع تضيق، فقد يقال حينئذ حتى نساء أهل الذمّة والكفار المحتشمات اللواتي إذا نهين لا ينتهين لا يجوز النظر إليهنَّ لأن المسألة أصبحت تدور مدار هذه العلّة. بعبارة اخرى: ذكرنا أن الله عز وجل جعل للمرأة حرمة، فكما يحرم عليك أن تخترق كرامتها بكلام وأن تخترق بدنها بضرب أو أذيّة أيضا يحرم عليك أن تخترق بدنها بنظر، فإذا اسقطت هي هذه الحرمة فلماذا أحترم هذه الحرمة وهي التي اسقطتها؟ وما الدليل على ذلك؟ ولا دليل عليه. ولذلك ذهبنا في هذه المسألة إلى جواز النظر كما هو المشهور إلى نساء أهل الذمة في ما اعتدن أن يكشفنه وبعموم العلّة ذهبنا إلى جواز النظر إلى النساء المسلمات المتكشفات في خصوص ما اعتدن أن يكشفنه، هذا الكلام ليس في مقام الفتوى والعمل بل هو في مقام البحث العلمي وإلا فعمليا نحن نحتاط، كما فعلنا في مسألة اشتراط الصيغة في عقد النكاح. وقلنا أن ما اعتدنا كشفه هل يختص بذلك الزمن في زمن الروايات التي وردت أم يشمل كل زمن؟ قلنا في حينه أنه يشمل كل زمن، لأن العلّة هي « إذا نهوا لا ينتهون » هي اسقطت حرمتها فيسقط احترامها.
ننتقل إلى مسألة حكم النظر إلى المسلمة الأجنبية.
والمراد هنا المسلمات المتدينات الذي إذا« نهين ينتهين »[2] [3]وهذا الأمر ثابت بالإجماع. والمحقق في الشرائع يرسلها إرسال المسلمات فيقول: «ولا ينظر إلى الأجنبية أصلا إلا لضرورة »[4].
ويقول صاحب الجواهر: «ولا ينظر إلى جسد الأجنبية ومحاسنها أصلا إلا لضرورة، إجماعا، بل ضرورة[5]من المذهب والدين. نعم يجوز عند جماعة أن ينظر إلى وجهها وكفيها من دون تلذذ ولا خوف ريبة أو افتتان ». [6]انتهى.
وهنا مسائل:
الأولى: في أدلة تحريم النظر إلى الاجنبية إجمالا.
الثانية: تحديد المحرّم النظر إليه.
الثالثة: في اشتراط عدم التلذذ والريبة.
المسألة الأولى: هي أدلة تحريم النظر إجمالا، وهي من المسلمات الثابتة عند جميع المسلمين. ويدل على ذلك أمور:
الأول: الآيات:
منها: قوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) .[7][8]
والاستدلال بالآية من وجوه:
الاول: أن معنى الغضَّ هو ترك النظر.
وفيه: أن الغضَّ من الشيء التخفيف منه لا تركه.[9]
يقول الشاعر: فغضّ الطرف إنك من نميرٍ**** فلا كعبا بلغت ولا كلابا
أي انظر نظرة الكسير الذليل الوضيع، لا نظرة العزيز. أيضا لاحظوا ماذا يقال عن امرأة إذا ارتكبت ذنبا، فيقولون: ارتكبته وهي تفتح عينيها بأوسعها. وفي بلاد جبل عامل يقولون في مقام طلب تخفيف الضوء: غُضّ الضوء أي خففه.[10]
والذي أراه أن معنى الغضَّ هو نفس المعنى المراد من قوله تعالى: ﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ ﴾ [11]. والمراد – والله العالم – هو كناية عن الانصراف التام عن كل ما يتعلق بالمرأة الاجنبية من الاستمتاعات الجنسية، ومنها النظر المتفحص الذي يكون مقدّمة للرغبة والاشتهاء، ويؤيده تتمَّة الآية حيث يقول تعالى: ﴿ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [12] وكأنه جعل طلب الغضَّ مقدّمة لحفظ الفرج، وكونوا على ذكر من هذا فإنه سينفعنا في المسألة الثانية وهي تحديد المحرّم الذي يحرم النظر إليه.
بل يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾ [13] وذلك بعد أمره تعالى لهنّ بغضَّ البصر، وكأن المراد من الطلب من النساء الانصراف عن الرجال وعدم فعل ما يجذبهم إليهنَّ، فالغضّ هو كناية عن هذا.
نعم أجمع الفقهاء على التمسك بالآية للاستدلال على حرمة النظر، فيكون هذا الإجماع دليلا على أن المراد من الغضَّ في الآية هو ترك النظر، استدلال بنحو الإن لا بنحو اللم.
والجواب: أن هذا الإجماع [14] ليس حجّة معتبرة، فهو ليس حكما شرعيا ليكشف عن رأي المعصوم، بل هو كاشف عن فهمهم للفظ، ولا علاقة للمعصوم (ع) بمفهومهم. ثم إن إجماعهم على الحرمة قد يكون بأدلة أخرى، وجعل الآية من باب تكثير الأدلة أو المؤيدات .
ثم إن قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ [15] أي اقرب للطهارة وأبعد عن الحرام، أي أن الغضَّ يبعده من ارتكاب الحرام، والنظر يقربه منه. هذا الوجه الاول للاستدلال بالآية.






[3] ذكرنا أنه ورد في الرواية " إذا نهوا لا ينتهون " الواو هي للجماعة وتكون للذكور أي أن الرجال لا ينتهون، وقلنا أن الامر بالنهي هنا متوجه إلى الرجال لانهم أولياء على النساء، فيكون النهي باللازم للنساء، وتوجيه الامر للرجال من باب توجيه الامر إلى السبب الواقعي.
[5] تذكير: قلنا في الفرق بين الاجماع والضرورة في المذهب والدين، أن في تطابق الآراء عدّة مراتب. المرتبة الاولى هي البديهي، ثم الضروري ثم التسالم ثم الاجماع ثم التطابق ثم لا خلاف. وكل تعبير يعبر عن قوة هذا التطابق. البديهي هو الذي لا يحتاج للبحث اصلا لوضوحه. والضروري ما كان إذا سلبته كأني سلبت المذهب أو الدين أو العقيدة أو الفقه. والتسالم بين الفقهاء إذا نفيته لا ينتفي أصل الشرع ولا بد في حجيته من الكشف عن رأي المعصوم (ع) ومع التسالم لا تكون هناك حاجة للبحث فيه من قبيل حفظ مصالح الناس مثلا. والاجماع ليس أمرا مسلما لكن اجماع الفقهاء يكشف عن رأي المعصوم. والاتفاق أو الاطباق هذا لا يكشف عن رأي المعصوم، كذلك التعبير بـ " لا خلاف ".
[7] سورة النور.، آية30 و31.
[8] يلاحظ أن هناك جو عام في الآيات والروايات، تشعر أن حقوق المرأة الجنسية كحقوق الرجل الجنسية، ويشير إلى الغضّ أيضا. .
[9] ذكرنا سابقا أن لكل لفظ ظهور ولا يوجد عندنا في الاصول ما نسميه بأصالة الحقيقة تعبدا وخصوصا إذا لم نعرف المعنى الحقيقي الموضوع له مثل: " غضَّ ".
[10] نعم لا يحتج بهذا لأن الاستعمال ليس دليلا على الوضع ولكن أصالة عدم النقل جارية هنا لان كل الاستعمالات واللهجات المختلفة بين البلدان قد نستكشف منها الموضوع له ويتبادر منه المعنى. ففي كلمة " عضَّ " لا يتبادر منه اطباق الجفن. وللتذكير: التبادر هو انسباق اللفظ إلى معنى من نفس اللفظ بسبب الوضع. والانصراف هو انسباق المعنى من حاق اللفظ فيؤدي إلى انسباق بعض افراد الكلي من اللفظ عند اطلاقه وذلك للقرينة العامة لا الخاصة، لانه حينئذ يصبح نوعا من المجاز أو الاستعمال الخاص. وقلنا أن هناك فرقا بين ذات اللفظ وحاقه، والمراد من حاق اللفظ القرينة العامة الملازمة المستمرة مع اللفظ وليس من ذات اللفظ.
[14] ذكرنا سابقا في بحث مختصر عن الاجماع اننا لا نسلم به كبرى ولا صغرى ولكننا لا نستطيع الخروج منه نفسيا لاختراق إطباق الفقهاء . .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo