< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

35/07/16

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: النظر إلى الأجنبي

مسألة في حكم نظر المرأة إلى المرأة.
قلنا انه إذا كان الدليل لبيا نقتصر على القدر المتيقن وكان الباقي تحت الأصل العملي إما البراءة أو الاحتياط. وإن كان الدليل لفظيا كان المشكوك تحت الأصل اللفظي فيشمله الحكم، من قبيل بعض الكذب اشك في جوازه. الكذب ثلاثة اقسام: قسم حرام وهو الكذب الإستهتاري والعبثي والمؤذي، وقسم واجب كما إذا كان لحفظ النفس أو لدفع فتنة، وقسم مشكوك كالكذب في بعض المعاملات الإدارية لمصلحة شخص محتاج فقير في بلد يغلب عليه الفوضى من دون أن يؤثر على الصالح العام. في الحالة المشكوكة يمكن أن نقول إن كان دليل الكذب القبح العقلائي أي دليلا لبيا فاقتصر على القدر المتيقن، فالحرمة تختص بالمعلوم والمشكوك يبقى تحت أصل البراءة. وإن كان دليل الكذب لفظيا من أدلة حرمة الكذب المنصوصة والمطلقة، صار للدليل إطلاق يشمل حتى الفرد المشكوك، فيكون الكذب المشكوك حراما.
وهنا في مسألة النظر إلى العورة في الحاجات الإنسانية والاجتماعية والعقلائية ولم تصل إلى مرحلة الضرورة من قبيل الوضع الصحي والشهادات بحيث يحكم بجواز النظر، فنفس الكلام إن كان الدليل لبيا نقتصر على القدر المتيقن وهو الحرمة بخصوص المتيقنات وهو الاستهتار والعبثي، أما المشكوك فيذهب إلى البراءة أو غيرها من الأصول العملية. أما إذا كان الدليل هو إطلاق اللفظ الاطلاق يشمل كل الافراد فيشمل المشكوك فتشمله الحرمة ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي لان الأصل اللفظي مقدّم على الأصل العملي.
نكمل الكلام في بحثنا لقد استعرضنا الأدلة اللبية، واستعرضنا الرواية الأولى، وقلنا ان هذه الرواية لو كانت وحدها يمكن الاطلاق فيها، ولكن مع ملاحظة الروايات الأخرى نجد ان الرواية في بيان أصل الموضوع أي أن النظر إلى عورة الآخرين امر قبيح وعبثي فلا يكون هناك إطلاق. نعم لو كان النظر في الرواية إلى افراد الموضوع فنستفيد أنها مطلقة لكن الإطلاق يحتاج إلى ان يكون المتكلم في مقام بيان أي مع ملاحظة الهيئات والافراد. ومقام البيان تارة يحرز بالوجدان وإما يحرز بالأصل، فالأول لوجود الظهور انه في مقام البيان كـ " اوفوا بالعقود " هو في مقام بيان كل الافراد. والثاني لا يكون هناك وضوح انه في مقام بيان الافراد كما في مسألتنا هل هو في مقام بيان حرمة أصل الموضوع بغض النظر عن الافراد. إذا شككت أن المتكلم في مقام البيان، فالمتكلم على نحوين:
تارة المتكلم العادي فلا يعلم هنا أن الأصل أن يكون في مقام البيان، وتارة المتكلم هو الشارع الذي من شأنه التشريع، والاصل في التشريع أن لا يكون في مقام اهمال، ولذلك ذهب أكثر الأصوليين على اننا إذا شككنا ان الشارع في مقام بيان فالأصل أن يكون في مقام البيان. لذلك المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة بعد انطباق العنوان وهي أن يكون المولى في مقام البيان نحتاج إلى اثباتها، وتثبت تارة بالوجدان وبالظهور والقرائن الحالية، وتارة عند الشك تثبت بالأصل، والمراد من الأصل ان الشارع كشارع الأصل في كلامه ان يكون في مقام بيان التشريعات. فإذا شككنا انه في مقام إطلاق أو لا، الأصل ان يكون في مقام الاطلاق.
إذن الرواية الأولى الأصل فيها إي الأصل بحسب الحال ان تكون في مقام الاطلاق، لكن نرى ان هناك روايات أخرى قد تمنع من هذا الاطلاق، بعضها ضعيف نستفيد منها ما يفسر الرواية الأولى، وطرحنا نظريتنا في الروايات الضعيفة الساقطة عن الاعتبار هل يمكن أن يستفاد منها في مقام الاستنباط؟
قلنا انه يمكن أن يستفاد في مقام الاستنباط في المفردات التي استعملها الراوي الضعيف الكاذب، هنا نستفيد ان هذه المفردات كانت موجودة في اللغة العربية وموجودة في المجتمع وذكرنا بعض الأمثلة. هنا إذا لاحظنا مفردات الرواية في حديث المناهي الضعيف السند بشعيب بن واقد والحسين بن زيد، في الرواية: قال: إذا اغتسل أحدكم في فضاء الأرض فليحاذر على عورته. ظاهرها ان هناك تحريم في كل المفردات، لكن مع التعليق بانه في فضاء الأرض تشير إلى ان لا يكون مستهترا. ثم قال: لا يدخل أحدكم الحمام إلا بمئزر. الظاهر أن هذا الامر كان مستشريا عندهم. ونهى أن ينظر الرجل إلى عورة أخية المسلم. هذه العبارة يمكن الاطلاق فيها، لكن بملاحظة النص نرى أنه لم يلاحظ الافراد. وقال: من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك. أي ليس مجرد النظر بل المقصود النظر الاستهتاري. ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة، وقال: من نظر إلى عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمدا، مع وجود قيد التعمد، كل هذا يوحي أن المقصود ليس النظر كنظر مطلقا ولا ملاحظة كل الافراد، بل انه إشارة إلى ان قبح أصل الموضوع وحرمته، نستفيد أن هناك حالة كانت مستشرية وهي النظر إلى عورات الآخرين نظرا تافها سخيفا، متعمدا مستهترا، بلا كرامة ولا خجل، فالرواية الأولى أيضا من باب بيان اصل قباحة الموضوع وحرمته.
الحديث الثالث نفس المصدر: قال وسئل الصادق (ع) قول الله عز وجل: } قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك ازكى لهم { [1] فقال: كل ما كان في كتاب الله من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنى إلا في هذا الموضع فإنه للحفظ من أن ينظر إليه.
من حيث السند: الرواية مرسلة. قلنا أن الشيخ الصدوق (ره) أحيانا يقول: وقال الصادق (ع)، وتارة يقول: روي عن الصادق (ع). اللسان يختلف بين قوله " قال " التي تشير إلى انه يتكفل هذه الرواية، أما في قوله " روي" أي انه لا يتكفلها. فهل يوجد فرق بين الطريقتين في التعبير بحيث تؤدي إلى اختلاف في اعتبار السند؟
من حيث الدلالة: دلالتها مطلقة على ما هو عليه المشهور، إلا أننا ذكرنا انا لا نوافق على دلالتها على الإطلاق بلحاظ القرائن الاخرى.
الرواية الرابعة: في الوسائل في ثواب الاعمال: عن محمد بن علي ماجيلويه عن عمه محمد بن أبي القاسم عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي الأنصاري، عن عبد الله بن محمد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) قال: من دخل الحمام فغضّ طرفه عن النظر إلى عورة أخيه آمنه الله من الحميم يوم القيامة. [2]
من حيث السند: السند معتبر.
من حيث الدلالة: ليست صريحة في حرمة النظر، إذ الثواب على غضّ النظر، ثم إنها وردت في من دخل الحمام وهذا يؤيّد أن المراد منها النظرة العبثية، فلا إطلاق في الرواية بحيث يشمل النظرة عن حاجة. هل هناك تقييد بعبارة " من دخل الحمام "؟ قد يقال انها خاصة بالحمام بينما } يغضوا من ابصارهم { أو الرواية الأولى " لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه " مطلقا، فهل المقيّد هنا يقيّد المطلق؟ ذكرنا أن المطلق والمقيّد إن كانا إيجابي وسلبي يحمل المطلق على المقيّد. أما إذا كانا إيجابيين أو سلبيين كما لو قلت: لا تشرب اللبن، ثم قلت: لا تشرب اللبن الحامض. أو قالت: اشرب اللبن، اشرب اللبن الحامض. هل تبقى اللبن على اطلاقها؟ فتشمل كل لبن. هنا محل كلام لكن الظاهر أن الأول لا يقيّد بل يكون الثاني في مقام أبرز وأكمل الافراد.
فهنا في روايتان كصناعة أصولية لا يحمل المطلق على المقيّد، لكن نقول كذوق من اللسان إذا لاحظنا الروايات نستطيع أن نقول أن الرواية الأولى لا اطلاق لها لانها غير ناظرة للأفراد ولا إلى كل الحالات، بل ناظرة إلى اصل الموضوع انه قبيح.
الرواية الخامسة: نفس المصدر: علي بن الحسين المرتضى في رسالة ( المحكم والمتشابه) نقلا من تفسير النعماني بسنده الآتي عن علي (ع) في قوله عز وجل } قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم { معناه لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن، أو يمكنّه من النظر إلى فرجه. ثم قال: } قل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن { أي مما يلحقهن النظر كما جاء في حفظ الفروج، فالنظر سبب إيقاع الفعل من الزنى وغيره. [3]
وهذه الرواية كالرواية الأولى، فلا إطلاق لها.
بتعبير أخر: إذا استفدنا الإطلاق من الرواية الأولى الصحيحة أو من الآية } يغضوا من ابصارهم { حينئذ يحرم النظر في الحالات العبثية وفي الحالات الإنسانية والاجتماعية أيضا ويخرج مقدار الضرورات التي منها الضرورة الصحية. وإذا قلنا انها لا إطلاق لها بل في مقام أصل بيان قباحة الموضوع دون النظر إلى الحالات والافراد حينئذ نستطيع أن نقول أن الأدلة على التحريم تقتصر على القدر المتيقن، والقدر المتيقن هو خصوص النظر العبثي المستهتر الذي كان مستشريا، أما في المشكوك والحاجات الإنسانية والعقلائية فتصل النوبة إلى الأصل العملي الذي هو البراءة من المشكوك " كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام ". فإذا قلنا انها لبيان الموضوع فيكون التلقيح الاصطناعي جائزا، وكذا اللولب وهو آلة تركبّ في رحم المرأة لمنعها من الحمل، ولو احتاج التركيب إلى النظر للعورة طبعا بغض النظر عن اصل الكلام في اللولب بتحريم أصل فعله [4] وإذا قلنا أن الأدلة فيها إطلاق يحرم النظر في المشكوكات حينئذ.
وهناك مسائل أخرى تلحق بمسألتنا كالنساء التي تذهب إلى البحر ولا تأمن الناظر غير العادي كمن نظر من خلال آلة من الطائرات المارة أو من بعض الأقمار الاصطناعية. كل هذه المسائل من تطبيقات وفروع هذه المسألة يفرض بحثها، هل يجب التحفظ من الناظر إلى هذه الحدود، أم يكون تحفظ عادي طبيعي فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها؟
إلى هنا ننتهي من مسألة نظر المرأة إلى عورة المرأة وغدا إن شاء الله نكمل البحث بنظر المرأة إلى جسد المرأة، لأننا قلنا ان العورة على قسمين: العورة بالمعنى الأخص، والعورة بالمعنى الاعم الجسد. فهل يجوز للمرأة أن تنظر إلى جسد المرأة؟



[3] المصدر السابق ح5. .
[4] من وجهة كون عدم تمكين النطفة من الاستقرار في جدار الرحم بعد تلقيحها في القناة وهي الموضع التي تلقح فيه عادة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo