< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

36/07/29

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: اثبات نسب طفل الانبوب، هل الأم هي الحامل أو صاحبة البويضة؟
الفرق بين أصالة عدم النقل العرفي اللغوي إلى العرف الخاص، وبين أصالة عدم النقل المتداولة.
نكمل الكلام في الاستدلال بأصالة عدم النقل على أن أم طفل الانبوب هي صاحبة البويضة وليست الحامل،
وقلنا أن أصالة عدم النقل هذه تختلف عن أصالة عدم النقل المتداولة.
والاختلاف يقع في أن أصالة عدم النقل المتداولة التي هي عبارة عن جرّ الحاضر إلى الماضي مع إنتفاء الماضي، وذكرنا مثلا كلمة " عصابة "، في هذه الايام لها معنى فأشك أن لها نفس المعنى في السابق مع العلم بانتفاء المعنى السابق حاليا.
أما أصالة عدم النقل التي نتكلم عنها فهي اصالة عدم النقل من عرف إلى عرف، من العرف اللغوي إلى عرف خاص مع استمرار وجود المعنى اللغوي، مثلا الأم عند اختصاصيي علم الاحياء [1] هي صاحبة النطفة، هل استطيع أن أقول: أن أهل علم الاحياء عندما يكون لديهم اصطلاح خاص، أن هذا الاصطلاح هو نفس الاصطلاح اللغوي، هل الأصل تطابق الاصطلاحين، بأن نجرّ المعنى العرفي الخاص إلى المعنى اللغوي العام؟
هذا هو الفرق بين الأصالتين.
الاصالة الاولى نقطع بحجية هذه الاصالة، ويقع الكلام في الاصالة الثانية، وقلنا انها إذا تمّت لها ثمار كثيرة ومهمّة، ولم اجد من بحثها.
إذن في النقطة الاولى ذكرنا الفرق بين الاصالتين، والنقطة الثانية في حجية هذه الاصالة.
هل أصالة عدم النقل من العرف العام اللغوي إلى العرف الخاص، أصالة ثابتة تامّة أو لا؟ هل يمكن أن أجرّ الحاضر إلى الماضي؟ ولولا هذه الاصالة العقلائية لا يمكن فهم كلام الماضين، لأن كثير من الكلمات اشك في انها باقية على نفس المعنى السابق.
فلنر ما هو دليل اصالة عدم النقل المتداولة، وهل هذا الدليل ينطبق على اصالة عدم النقل التي هي من العرف العام إلى العرف الخاص؟
نتيجة ما سيقال: أنه إذا قلنا بأن أصالة عدم النقل ترجع إلى استصحاب القهقرى، هذا يمكن تطبيقه هنا أيضا، لأن اللغة سابقة على العرف الخاص، فالعرف الخاص يأخذ اللفظ من اللغة وبعلاقة مجازية أو مصححة يقع النقل إلى خصوص المعنى الخاص. في هذه النقطة إذا تمّ استصحاب القهقرى يمكن أن نقول بالحجية وإلا فلا، وسنبيّن أن من توهم أن أصالة عدم النقل يعود إلى استصحاب القهقرى، هذا توهم خاطئ غير تام. بل أصالة عدم النقل هي أمارة عقلائية مستقلّة كالعمل بالشهرة والخبر الواحد والقياس، وليست أصلا يرجع إلى الاستصحاب.
والسرّ في عدم كونها من باب استصحاب القهقرى نقول: إن الاستصحاب اصل مستفاد إما من الحديث الشريف " لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر "؛ أو من سيرة العقلاء من جرّ السابق إلى اللاحق.
ولابأس قبل إكمال البحث بأن نتطرق لكلام الشيخ الانصاري (ره) حين قال: إن كان دليل الاستصحاب هو سيرة العقلاء، كان الاستصحاب أمارة. وإن كان دليل الاستصحاب هو الاخبار، كان الاستصحاب أصلا عمليا.
وهكذا تم التقريب بين الاخباريين والاصوليين في مسألة الاستصحاب، لأنه جعل الدليل الأساس هو الأخبار.
ومبنى هذا القول على انه ليس هناك شيء اسمه اصل عملي عند العقلاء بل كل ما عند العقلاء امارات كاشفة، لأن الاصل العملي عبارة عن مرجع عند الشك وعدم وجود أي دليل، أي ان الاصل العملي هو عبارة عن تعبد محض ليس فيه كشف، وهو وظيفة عملية محضة. لذلك يقولون " ومن يتعبد العقلاء؟! ". المتشرعة هناك من يتعبدهم، الله عز وجل امرهم بوظائف عملية فإذا انتهى العلم والعلمي والامارات وفقدت الادلّة، الله امرنا بالوظيفة العملية، أي ان هناك جهة تتعبدهم. العقلاء كعقلاء بصرف النظر عن المعبود عملوا بخبر الواحد والشهرة والقياس بسبب الحاجة والدواعي، لا أنها تعبدته فإذا انتهت الادلة من عقلية ونقلية عند العقلاء فمن يتعبدهم، والاصل العملي هو عبارة عن تعبّد، لذلك قالوا إن العقلاء ليس عندهم أصل عملي.
مثال على ذلك: عند العقلاء هناك قاعدة البراءة " كل متهم بريء حتى تثبت ادانته " هذه القاعدة مأخوذة على نحو الكاشفية امارة عند العقلاء، لا على نحو الاصل العملي. في الشرع هذه القاعدة يقرب منها اصالة البراءة أو اصالة عدم الاتهام، هناك اصالة العدم واستصحاب السابق.
الفرق ان هناك مقابلة، هنا مأخوذة على نحو الاصل العملي وعند العقلاء مأخوذة على نحو الامارة. لذلك جلّهم قال بان العقلاء ليس لديهم أصل عملي، باعتبار أن الأصل العملي يحتاج إلى من يتعبدهم، ومن يتعبد العقلاء؟!.[2]
ان كان دليل الاستصحاب كما هو مشهور المتأخرين الاخبار الصحاح من جملتها صحيح زرارة " لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر ". هذا الاستصحاب هو عبارة عن جرّ اليقين السابق إلى الشك الاحق، وهذا الاستصحاب على ثلاثة أقسام:
أ‌-أن يكون المتيقن حاليا والمشكوك في المستقبل. فأثبت المتيقن في المستقبل، وهذا هو الاستصحاب الاستقبالي، وهو ليس أصلا معتبرا أي لم يثبت إجماعا. كما لو كنت على طهارة الآن وأشك أنني بعد ساعة سأكون طاهرا أو لا.
ب‌-أن يكون المتيقن في الماضي والمشكوك في الحاضر فحينئذ أسحب الماضي إلى الحاضر، وهو الاستصحاب المتداول. وهو الذي عرّفه الشيخ مرتضى الأنصاري (ره) هو " إبقاء ما كان " وهو أصل معتبر ومنصرف اليه، مثاله: كنت متطهرا وشككت الآن في طهارتي .
ج - أن يكون المتيقن في الحاضر والمشكوك في الماضي، ويسمى استصحاب القهقرى، فأجرّ المتيقن إلى المشكوك، كما لو تيقنت الآن بطهارتي وشككت فيها قبل ساعة. وهذا الاستصحاب لم يثبت ولم يقل بحجيته أحد لانصراف الادلة عنه.
هنا بعضهم طبق هذا الاستصحاب على اصالة عدم النقل فقال: إن أصالة عدم النقل عبارة عن استصحاب القهقرى، اي انني اعلم الآن المعنى اللغوي للكلمة واشك انه قبل الف عام هل كانت على نفس المعنى، فأجرّ المعنى الجديد إلى المعنى القديم، وحينئذ استطيع أن أعرف معنى الكلمة التي وردت في كلمات الائمة (ع).[3]
إلا أنه ليس هو الدليل، بل الدليل هو أصالة عدم النقل، وهو أصل عقلائي مستقل ثبت عمل العقلاء به، إذ لولاها لإنبَهم كثير من النصوص الماضية. فهي حاجة عقلائية، والعقلاء على ذلك ومستمرون عليها ولم يأت ردع من الشارع عنها فهي حجة، نعم لو ورد ردع من الشارع عنها لانتفت حجيتها وذلك كالقياس.
إذن أصالة عدم النقل أمر عقلائي وامارة كاشفة عن واقع، وسيرة لم يثبت الردع عنها مثلها مثل خبر الواحد والشهرة .فإذن لا ترجع إلى استصحاب القهقرى.
ثم إن تطبيق استصحاب القهقرى عليها يجعل أصالة عدم النقل اصلا عمليا محرزا، وهذا يؤدي إلى انها تصبح اصلا مثبتا، وليس امارة مع العلم اننا نتعامل معها معاملة الامارات، وقد ذكر الشيخ المظفر (ره) هذه المسألة.
هل أصالة عدم النقل من العرف اللغوي إلى العرف الخاص حجة؟ نقول: إذا كانت من استصحاب القهقرى وهو ليس حجة تكون غير حجة. لكن هل نستطيع ان نقول ان عند العقلاء اصل عقلائي هو اصل عدم النقل من اللغة إلى الاعراف الخاصة كالطب والفلك والهندسة والفقه والاصول وغير ذلك؟.
نحن بعد ان ميّزنا بين الاصالتين، ارى ان المتداول وجود أصالة، عدم النقل من الماضي إلى الحاضر، لكن لا أرى عندهم أصالة عدم النقل من عرف عام إلى عرف خاص، أو من عرف إلى عرف، ليس هناك شيء يدعو إلى ذلك ولا وجود حاجة لذلك عند العقلاء، وليست هي اصلا امارة عقلائية مستقلّة.
غدا ان شاء الله نكمل هذه النقطة ونرى حجيتها او عدم حجيتها وبعض المؤيدات.

والحمد لله رب العالمين.





[1] اختصاصيي علوم الاحياء ليسوا حجة علينا والاحكام ليس مصبها العنوان الموجود في هذه العلوم، بل مصبها العنوان اللغوي، لأن القرآن الكريم والنبي (ص) والامام (ع) يتكلمون مع الناس بلغتهم وليس بلغة اهل العلوم الخاصة إلا إذا قام دليل على ذلك. .
[2] هناك من يقول انه يمكن ان يكون عند العقلاء تعبد فيما بينهم من قبيل عندما هدم السيل الكعبة المكرمة اختلفوا في من يضع الحجر السود مكانه، ثم لما اشتد الخلاف اتفقوا فيما بينهم على ان يكون اول الداخلين من هذا الباب يكون هو من يحلّ النزاع، فدخل النبي محمد (ص) إلى آخره. وهذا يعتبر نوع من الاصل العملي، لأن الغاية هي حل النزاع، وليس النظر إلى الواقع ومصلته. ولاحظ ذلك في الكلام عن القرعة: هل ان القرعة أصل أم امارة عند العقلاء. .
[3] ومن الغريب قول بعضهم أن استصحاب القهقرى لا يجري إلا في أصالة عدم النقل بالرغم من إطلاق الرواية!!، وقالوا ان لولا هذا المورد لما علمنا معظم المفاهيم السابقة التي هي مصب الاحكام. والجواب: ان هذا التبرير لا يؤدي إلى استصحاب نطبقه، بل يؤدي إلى ان العقلاء يعتبرون بعض الامارات لسد حاجاتهم.
وللتذكير: الامارة هي كاشف عقلائي عن واقع يكون لسد حاجة، فخبر الواحد كاشف عقلائي لسد حاجة، سنّة وسيرة ومسلك عقلائي كاشف عن واقع، وليس أصلا ولا وظيفة عمليّة وإن كان على نحو الظن " وان الطن لا يغني من الحق شيئا "، ولكن لسد الحاجات وهي تبادل المعلومات للضرورة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo