< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

34/12/01

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.
 المختار في المسألة:
  تلخص مما مضى أن دليل من قال بجواز الاستعمال في أكثر من معنى: أن الوضع عبارة عن علامة على المعنى، بل أمر واقع، واستُشهد بالأشعار وبكلام البلغاء، ولا مانع من التكثر.
  ودليل من قال بعدم جواز الاستعمال، بأن الاستعمال وجود تنزيلي للمعنى فلا يتكثر.
  إذن نحتاج لتحقيق أمرين:
  الاول: في الفرق بين الوجود التنزيلي والعلامة، وتحقيق الاستعمال.
  الثاني: في إمكان تعدد الوجود التنزيلي في آن واحد.
  أما الأمر الأول: فالعلامة مبيّنٌ لوجود شيء كاشف عنه، مثل إشارات المرور، فتوضع اللوحات والشاخصات والأضواء بمختلف الالوان لبيان معان، من عدم جواز المرور أو وجوب الانتظار، أو التوقف، أو المرور على حذر أو .... أو... وهذه المعاني موجودة في كل شارع وفي ذهن كل مارّ، ولكن تحتاج إلى تبيان وليس لإيجاد، فاخترع العقلاء العلامات لحاجاتهم.
  إذن العلامة هي للبيان لا للإيجاد.
  وللتوضيح أكثر: لو قلت " جاء زيد " ودار أمر زيد بين أكثر من شخص كلهم مسمى لزيد، فأحتاج إلى قرينة لرفع الإبهام، فأقول " جاء زيد العالم "، أو " جاء زيد التاجر "، فكلمة " العالم " قرينة على أن المراد الشخص الفلاني، فهي بيَّنت المراد، ولم تؤسس وجودا لزيد، لأن زيدا قد تأسس وجوده بلفظ " زيد " في " جاء زيد ". وهكذا أيضا القرينة الصارفة إلى المعنى المجازي، فعندما أقول: " رأيت أسدا " وأردت من الأسد الرجل الشجاع فإن هذا المعنى المجازي موجود، لكني أردت أن أبيِّنه وأعينّه وأصرف اللفظ عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، فاستعنت بالقرينة الصارفة.
  من هنا نفهم وظيفة حركات الإعراب من ضمّة أو فتحة أو غيرها، فعندما أقول " ضرب زيدٌ عمروا " فإن الضمة كشفت لي عن أن زيدا ضارب، والفتحة كشفت لي عن أن عمرو مضروب، ولولاهما لبقي الفاعل والمفعول مبهمين، إذ لو قلت " ضرب زيد عمرو " دون التحريك بالضمة أو الفتحة لبقي تعيين الفاعل أو المفعول مبهما، ولذلك سميت هذه الحركات بحركات الإعراب، فإن كلمة " أعرب " أي أظهر وكشف وبيّن ولهذا قالوا: " إن الأصل في الاسماء الإعراب "، فإن الأسماء لا تتغير صيغها بتغير معانيها، لاحظ أن كلمة " زَيْد " بفتح الحرف الأول وسكون الثاني هي نفسها إما فاعلا أو مفعولا أو غير ذلك، فنقول: " جاء زيدٌ "، " رأيت زيدا "، " مررت بزيدٍ "، فاحتاجوا إلى الحركات وسمّوها علامات الاعراب.
  أما الحرف فهو ثابت من حيث المعنى واللفظ، وأما الفعل فيتغير بتغير المعاني فتقول في الماضي " ضرب " وإذا أردت المستقبل تقول " يضرب " فلا حاجة للحركات، ولا حاجة للإعراب.
  العلامات تكشف ولا تؤسس، بخلاف الوجود التنزيلي، واللفظ يوجد المعنى [1] ، ولولاه لما وجد المعنى، وقد ذكرنا سابقا بما لا مزيد عليه من أن الحكمة من الوضع هو سدّ حاجة العقلاء للتعبير عن مراداتهم، وأن الأصل في القضية الحمليّة هي وجود عين الموضوع إي الطبيعة العامة وهو يختلف عن الاصول في الفقه ومعناه المرجع. وإذا أردت أن أخبر عن " زيد " فالأصل فيه أن احضر نفس زيد في الخارج لأحمل عليه وأخبر عنه، ولمّا كان هذا محالا غالبا أو شبه محال استعاض العقلاء عن الوجود العيني الحقيقي الخارجي بوجود تنزيلي يوجد اللفظ. وقلنا سابقا إن هذه هي حقيقته، ويتفرع عن ذلك معنى الاستعمال، فإن الاستعمال تفعيل لهذه العملية، فيكون استعمال اللفظ موجدا للمعنى وجودا تنزيليا، وليس كاشفا عما في النفس. وأما قول الشاعر:
  إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
  نقول: إن ما في الفؤاد هو من دواعي التكلم، وليس هو نفس الكلام، إن الإنسان يحتاج أن يعبِّر عما في نفسه، فيوجد المعاني تنزيليا بواسطة الكلام، أما الكلام فليس مبينا.
  وبعبارة مختصرة: إن ما في الفؤاد دافع مسبب للتكلم وليس موجدا للمعنى في الذهن، والموجد للمعاني في الذهن هو الكلام لا ما في النفس.
  وبهذا أصبح واضحا الفرق بين الوجود التنزيلي والعلامة ولذلك لاحظوا الفرق بين تاء الضمير المرفوع المتحرك، وتاء التأنيث، وحركة الرفع. فإن تاء الضمير لفظ موضوع لمعنى مستقل فكان اسما كـ " ضربتُ "، وتاء التأنيث لفظ موضوع لمعنى رابط وهو تأنيث الفاعل، والضمة علامة للرفع في الفاعل المفرد. فنلاحظ كون تاء الضمير وتاء التأنيث لفظان موضوعان لأنهما يوجدان معنى، فتاء الضمير أوجدت الضارب الفاعل، وتاء التأنيث أوجدت التأنيث في الفاعل، أما الحركة فقد بيّنت أن " زيدا " فاعل الضرب، ولم توجد فاعليته، بل كان فاعلا ولو من دون الحركة. أما الفرق بين تاء التأنيث والضمة مثلا: " ضربت هندٌ " تاء التأنيث اعتبرت حرفا، أما الضمة في " هندٌ " لم تعتبر حرفا واعتبرت حركة، مع العلم ان الضمّة دلت على الفاعلية كما أن التاء دلت على التأنيث. الفرق انه إذا حذفنا تاء التأنيث ينتفي التأنيث أي أن معنى التأنيث غير موجود فلا يجوز إسناد الفعل إلى مؤنث، أما إذا حذفنا الضمة من هند في " ضربت هندٌ " يبقى الفاعل هو " هند " لكن يقع الابهام فقط الذي كانت تزيله العلامة.
  ولذا اعتبر النحاة حركة الضمة علامة، ولم يعتبروها حرفا، بخلاف تاء التأنيث فإنهم اعتبروها حرفا وليس علامة، وقلنا أن هذا من باب التأييد وليس من باب الدليل.
  والنتيجة: إن استعمال اللفظ هو وجود تنزيلي ألقي من قبل المخاطب بواسطة اللفظ، وليس مجرد علامة. فالتفتوا إلى هذه المعاني فإنها دقيقة، ولا أدري بحسب إطلاعي القاصر إن كان هناك سبق إلى بيانها.
  الأمر الثاني: إن الوجود التنزيلي لا يتكثر، وهذا هو الحق، ولذا عبرّوا عنه بالفناء، أو باللحاظ، أو بالمرآة أو بغير ذلك: عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
  هي عبارات مختلفة لكنها تعبر عن أمر واحد، وهو ان مجرد استعمال اللفظ قد أنهى ، فلا يمكن وجوده مرّة أخرى إلا باستعمال آخر، وبهذا نؤيد ما ذكره صاحب الكفاية " ره"، وما ذكره المحقق الأصفهاني حيث قال ما قلناه سابقا عن نهاية الدراية: {إن حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ، لأن اللفظ وجود حقيقي لطبيعي اللفظ بالذات ووجود تنزيلي للمعنى بالجعل والتنزيل، وحيث إن الموجود الخارجي بالذات واحد، فلا مجال لأن يقال: بأن وجود اللفظ وجود لهذا المعنى خارجا ووجود آخر لمعنى آخر حيث لا وجود آخر ينسب إلى الآخر بالتنزيل }. [2]
  إذن إلى هنا يكون المختار في المسألة ان استعمال اللفظ في أكثر من معنى غير ممكن عقلا.
  ويقبى بحث ثلاثة أمور وهي:
  ان نعود لكلام صاحب الكفاية " ره" حيث يذكر كلام صاحب المعالم (ره) وصاحب القوانين، نذكر الثمرة في المسألة وان ما ذكروه من عدم وجود ثمرة فيه نقاش، سينفعنا هذا في كثير من مباحث الالفاظ خصوصا في مسألة جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ثم الكلام في رواية نزول القرآن على سبعة أحرف.
 
 
 
 
 
 
 


[1] لهذا ذهبنا إلى النسبة الإيجادية في العقود وليس الابرازية، لان اللفظ يوجد المعنى.
[2] نهاية الدراية، ج 1 ص 152.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo