< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

38/05/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة النهي عن الضد.

ذكرنا امس تعريف موضوع التزاحم وهو: الحكمان المجعولان في عرض واحد، غير المقدور على امتثالهما معا المجتمعان اتفاقا لا دائما. هذا التعريف لم أجده في كتاب، ولكنه مستنتج من الكتب والدراسات، وتعريف الموضوعات ينفعنا في التمييز بينه وبين بقية الابواب كباب التعارض واجتماع الامر والنهي وغيرها. مع العلم أن لكل باب آثار وكيفية علاج خاصة به.

وقلنا ان التزاحم تارة يكون في الملاك، وتارة في فعلية الحكمين.

التزاحم في الملاكات ليست من شأن المكلّف ان يبحث في الملاكات، نحن لا نعرف مصالح ومفاسد الاحكام غالبا، وبهذا فسّر قوله: " ان دين الله لا يصاب بالعقول "، نعم التزاحم في عالم التشريع والاحكام هو هذا من شأننا.

التزاحم بين الاحكام: بعد التعريف، بدأنا ببيان فقراته واحدة تلو الاخرى.

وامس ذكرنا لماذا قيد " اتفاقا لا دائما "، لأنه إذا كان اجتماع دائمي حينئذ " لا يطاع الله من حيث يعصى " ليس هناك أي فرد إلا وهو منهي عنه. ونحن اشترطنا وقلنا في المقدمات حتى يكون فعليا لا بد ولو احتمالا من وجود ولو فرد واحد لان الاحكام مأخوذة على نحو القضايا الحقيقية [1]

اما قيد " في عرض واحد"، الاحكام تارة يكون بعضها في طول بعض، وتارة في عرضه.

إذا كانت في طول واحد ليس هناك اشكال بل يدخل فيها المتقابلان والضدان والمتخالفان والمتماثلان، لأنه عندما يكونا في طول واحد يكون موضوع أحدهما مختلفا عن الآخر فلا يشتركان زمنا ولا يطرد أحدهما الآخر، مثلا: يجب عليك كذا فان عصيت فهذا، أو ان لم تقدر فهذا. ولذلك عند الذين قالوا بصحة الترتب ارجعوه إلى المشروط كأنك قلت: انقذ الغريق فان لم تنقذ أي عصيت فصلّ. ارجعوا الحكمين إلى المشروط. فالذي يقول بصحة الترتب هو يقول بطولية الحكمين وان لم يصرح بذلك، ولكن قلنا ان الحق مع صاحب الكفاية في عدم تصحيح الترتب لان الحكمين فعليين. عنده وعند معظم الأصوليين وإن خالفناهم في ذلك.

والاول يكون أحدها مشروطا بعدم القدرة على الآخر كالكفارات المرتبة في طول واحد، أو بعدم امتثال الآخر وعصيانه [2] ، وذلك تخريج الذي تمّ فيه الترتب على قول من صححه، فالأمران: " انقاذ الغريق " و " صلّ " يتزاحمان، فيقدّم الأهم وهو انقاذ الغريق، ومع العصيان يصح الأمر بالمهم أي بالصلاة فعليا، وكأن الشارع قال: " انقذ الغريق فان عصيت فصلّ.

وبغض النظر عن الترتب وصحته، مع كون الامرين في طول واحد ، فلا مانع من ذلك، للقدرة على الامتثال حينئذ، والسرّ في ذلك ان سبب التنافي راجع إلى كون القدرة محدودة بفعل أحد الامرين، فإذا صرف قدرته في أحدهما عجز عن الآخر، فإذا عجز عن الآخر انتفى بانتفاء موضوعه وهو القدرة عليه.

وعليه فلو كان الأمران في طول واحد كان المطلوب أمرا واحدا، ولا مانع من ذلك لأنه مقدور عليه، أما لو كانا في عرض واحد فاحدهما غير مقدور عليه.

اما قيد " الحكمان ": إنما قلنا الحكمان ليشمل الأمرين كإنقاذ الغريق والصلاة، والنهيين كما لو دار الأمر بين قطع إصبع وقطع اليد، أو الأمر والنهي كما لو توقف انقاذ الغريق على المشي في أرض مغصوبة. ويشمل ايضا الامرين الإستحبابيين والامرين المكروهين، في الإستحبابيين كزيارة الحسين في عرفة واستحباب الحج، ايهما مقدّم؟ وايضا في المكروهين امر مكروه اكثر من الآخر يتزاحمان طالما هناك تناف في عالم الامتثال، لذلك قلت " الحكمان " فهو يشمل الامر والنهي والمستحب والمكروه والواجب والحرام، ويشمل كل اقسام الاحكام اذا تنافت في عالم الامتثال في عرض واحد بشرط ان يكون اتفاقا لا دائميا. هذا باب التزاحم وفي التزاحم يقدم الاهم، وليس يقدم الاقوى سندا والاقوى مرجحا أو غير ذلك فإن هذا في باب التعارض.

واما قيد " المجعولان ": إن التزاحم بين الحكمين إنما يكون بعد جعلهما وإلا اصبح التزاحم من باب الملاك، فلا يكون في مرحلة الانشاء والجعل، بل في مرحلة الامتثال، وبهذا يخرج من باب التعارض، لان التعارض هو التنافي في مقام الجعل، وهذا التنافي إما أن يكون بالتكاذب المباشر بالدلالة المطابقية، أو غير المباشر بالدلالة الالتزامية، أو بعدم امكن الجعل لعدم إمكان الامتثال ولو بفرد واحد، اي بحسب المنتهى كما مرّ معنا. [3]

 


[1] الفات نظر مهم: عندما نقول الحكم مأخوذ على نحو القضية الحقيقية يعني انه محكوم على المفهوم لكن بلحاظ افرادها الخارجية لأن الآثار هي لها، أي إذا وجد الموضوع وجد الحكم، وليس معناه ابدا انه يتدخل في الموضوعات من قبيل: " اكرم العالم "، مفهوم العالم، والحكم ليس منصبا على المفهوم بذاته بل بلحاظ افراده، لا بمعنى انه يتدخل في الافراد، لا يمكن للخطاب نفسه ان يتدخل في الموضوعات، نعم ورد دليل آخر وتدخل في موضوع الدليل نفيا أو إثباتا سعة أو ضيقا، فلا مانع من ذلك لعدم التنافي، إذ لا يتدخل في الحكم الاول بل في موضوعه، ولذا يكون حكما او واردا.
[2] " او بعدم الامتثال " وهذا لا يكون إلا في الفعلية وان خالفنا الكثيرين او الكل فيها. قلنا ان للحكم مراحل كما هو المعروف: الاقتضاء الانشاء الفعلية التنجيز. في عالم الانشاء ثم ينتقل إلى الفعلية وهي التحريك. فعند عصيان الامر الفعلي تسقط فعليته ويبقى انشائيا. وليس بمعنى العود للإنشاء، اي تسقط الفعلية ويبقى الحكم انشائيا من قبيل: " ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا " هذا انشاء، ولو فرضنا انه ليس في الدنيا ولا مستطيع واحد، يبقى الحكم انشائيا لاحتمال وجود في المستقبل ولو فرد واحد ويصبح على نحو القضية الحقيقية. لكن في حال عدم وجود اي فرد دائما فليس فقط الفعلية تنتفي بل حتى الانشاء يصبح لغوا من الحكيم، لان الحكيم لا يمكن ان يصدر عنه هكذا انشاء حتى ولو كان الانشاء خفيف المؤونة ومجرد اعتبار محض كإذهب ولا تذهب. فانتفاء كل الافراد يؤدي إلى انتفاء الحكم ليس فقط في عالم الفعلية بل حتى في عالم الانشاء. نعم في حال العصيان تسقط الفعلية دون الانشاء، وليس هذا معناه أن الحكم بيد المكلف. نعم فعلية الحكم بيد المكلف، لأن بعض شروط الفعلية بيده مثل ايجاد الموضوع ونفيه، نعم انشاء الحكم ليس بيد المكلف بل بيد الشارع هو يجعله.
[3] استطراد: الفرق بين النكرة والعلم: عرّف العلم في قطر الندى بانه: وضع اللفظ لشيء بذاته غير متناول ما اشبهه. كتسمية فلان بزيد، ولا تشمل التسمية نفسها شخصا آخر ولو كان نسخة عن زيد. هذا العلم. اما إذا سميت اللفظ لكل من له اوصاف معينة فكل نسخة تسمى زيد. لذلك اول ما نزل آدم (ع) وقلنا رجل انحصر هذا الاسم بهذا الفرد الواحد، مازال هذا الاسم نكرة لأن لانحصار هو في وجود المفهوم خارجا، الموضوع له لصفات معينه ولكلي وجنس معيّن.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo