< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/15

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 تقدّم كلام السيد الخوئي رحمه الله بالأَمْسِ حول المقياس الَّذي فِي ضوئه نعرف أَنَّهُ فِي أي مورد يكون الإِطْلاَق بَدَلِيّاً وفي أي مورد يكون الإِطْلاَق شُمُولِيّاً. إلاَّ أن هذا الكلام قابل للمناقشة من جهات عديدة نذكرها تباعاً:

أوَّلاً: يرد عليه بما أفاده سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ من أن كلامه رَحِمَهُ اللَهُ في باب الأمر لا يكفي للانتهاء إلى الإطلاق الْبَدَلِيّ وتعيّنه في مقابل الإطلاق الشُّمُولِيّ؛ وذلك بناءًا على مبناه هو رَحِمَهُ اللَهُ في «القدرة» حيث يرى أنَّها شرط في تنجّز التَّكليف لا في نفس التَّكليف، فلا مانع عقلي ولا محذور ثبوتي في توجه الأمر والتَّكليف وتعلقه بجميع أفراد الطَّبِيعَة، غاية الأمر أَنَّهُ لا يتنجَّز عليه إلاَّ المقدار المقدور من أفراده. إذن فالقرينة الْعَقْلِيَّة القائلة باشتراط القدرة على مُتَعَلَّق التَّكليف والأمر لا تنفي سوى تنجّز التَّكليف والأمر بجميع أفراد الطَّبِيعَة على المُكَلَّف؛ لأَنَّ الإتيان بجميعها غير مقدور له، لكن لا مانع من أن يكون نفس الأمر والتَّكليف متعلّقاً بجميع أفراد الطَّبِيعَة بنحو الإطلاق الشُّمُولِيّ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ بناء على هذا المبنى لنفترض أن قول المولى: «صلِّ» مثلاً أمر بمطلق وجود الصَّلاة (أي: بكل الصَّلوات)، رغم أن المُكَلَّف غير قادر عليها، غاية الأمر أَنَّهُ لا يتنجَّز عليه إلاَّ المقدار المقدور له، إذن فلا يتعيَّن الإطلاق الْبَدَلِيّ في مُتَعَلَّق الأمر، بل لعلّه شُمُولِيّ بمعنى أَنَّهُ مُكَلَّف بكل مصاديق الصَّلاة.

بل إن ما أفاده رَحِمَهُ اللَهُ في باب الأمر غير كافٍ للانتهاء إلى الإطلاق الْبَدَلِيّ وتعيّنه في مقابل الإطلاق الشُّمُولِيّ حتّى بناءًا على غير مبناه أيضاً في «القدرة»، فنحن إذا قلنا بأن «القدرة» شرط في نفس التَّكليف؛ فإِنَّهُ مع ذلك لا يَتَعَيَّنُ أن يكون الإطلاق في مُتَعَلَّقات الأوامر بَدَلِيّاً؛ إذ من الممكن أن يكون شُمُولِيّاً مقيَّداً بالمقدار المقدور؛ فَإِنَّ قيد «القدرة» قيد لُبِّيّ ارتكازيّ كالمتصل بالخطاب والتَّكليف والأمر، فلا ينعقد معه إطلاق في الخطاب لغير المقدور من أفراد الْمُتَعَلَّق، فتثبت الشُّمُولِيَّة في حدود هذا المقيِّد المتصل الَّذي يقيِّد دائرة الإطلاق الشُّمُولِيّ كسائر القيود الَّتي تقيِّد الإطلاقات الشُّمُولِيَّة، فتجب على المُكَلَّف في المثال جميع الصلوات المقدورة لا إحدى الصلوات على البدل، وبالتَّالي فلا يَتَعَيَّنُ أن يكون الإطلاق في قوله: «صلِّ» إطلاقاً بَدَلِيّاً.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ القرينة الْعَقْلِيَّة الَّتي أفادها رَحِمَهُ اللَهُ القائلة باشتراط القدرة على الْمُتَعَلَّق لا تقتضي سوى تضييق دائرة الإطلاق الشُّمُولِيّ، فبدلاً عن أن تكون دائرته واسعة تشمل جميع الصلوات تتضيَّق (بسبب القرينة الْعَقْلِيَّة المذكورة) فتشمل جميع الصَّلَوَات المقدورة، أمّا أن تكون هذه القرينة الْعَقْلِيَّة مقتضية لنفي الإطلاق الشُّمُولِيّ رأساً وتعيّن الإطلاق الْبَدَلِيّ فلا.

وثانياً: ما أفاده أيضاً سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ من أن كلامه رَحِمَهُ اللَهُ في باب النَّهْي غير كافٍ للانتهاء إلى الإطلاق الشُّمُولِيّ وتعيّنه في مقابل الإطلاق الْبَدَلِيّ في سائر الموارد الَّتي لا شكّ في فهم الإطلاق الشُّمُولِيّ فيها رغم عدم وجود القرينة الْعَقْلِيَّة الَّتي ذكرها رَحِمَهُ اللَهُ في مُتَعَلَّق النَّهْي لنفي الإطلاق الْبَدَلِيّ وتعيّن الإطلاق الشُّمُولِيّ؛ فنحن قد نحمل الإطلاق على الشُّمُولِيَّة مع عدم وجود قرينة عَقْلِيَّة تعيّنها وتنفي الْبَدَلِيَّة؛ وذلك كما في موضوع التَّكليف، مثل «العالم» في قوله: «أكرم العالم» مثلاً؛ فإِنَّهُ الإطلاق فيه شُمُولِيّ بلا إشكال عندهم، فيجب إكرام كل عالم، مَعَ أَنَّ هذه الشُّمُولِيَّة ليست نتيجة وضع المفرد الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ للعموم؛ إذ أنهم (ومن جملتهم السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ نفسه) لا يعترفون بوضع الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ وكذلك المفرد المحلى بها للعموم، ولا هي نتيجة وجود قرينة عَقْلِيَّة تعيّن الشُّمُولِيَّة (كالقرينة الْعَقْلِيَّة الَّتي عيّنت الشُّمُولِيَّة عنده رَحِمَهُ اللَهُ في مُتَعَلَّق النَّهْي)؛ لأَنَّ الإطلاق الْبَدَلِيّ أيضاً معقول في المقام، بمعنى أَنَّهُ يمكن أن يكون الواجب إكرام عالم على البدل، ولذا لو قال: «أكرم عالماً..» حمل على الْبَدَلِيَّة، فَالْبَدَلِيَّة في أمثال هذا المورد أيضاً معقولة. ثالثاً: أنَّ ما ذكره رَحِمَهُ اللَهُ من أن مُتَعَلَّق النَّهْي حيث يستحيل أن يكون إطلاقه بَدَلِيّاً (للزوم اللُّغَوِيَّة) يَتَعَيَّنُ أن يكون شُمُولِيّاً، غير صحيح؛ لأَنَّ من الممكن أن يكون الإطلاق فيه مجموعيّاً، فلا هو شُمُولِيّ ولا هو بدليّ، بمعنى أن هناك حرمة واحدة ثابتة على مجموع مصاديق الكذب مثلاً في قوله: «لا تكذب..» بحيث لو كذب مرّةً واحدة سقط النَّهْي بموجب العصيان، فلا يحرم عليه بعد ذلك أن يكذب؛ لعدم إمكان ترك مجموع أنواع الكذب بعد ذلك، بينما لا إشكال في أن الإطلاق في مُتَعَلَّق النَّهْي شُمُولِيّ اِنْحِلاَلِيّ لا مجموعيّ، فلا بُدَّ من وجود نكتة أخرى ومقياس آخر لاِنْحِلاَلِيَّة النَّهْي غير ما أفاده رحمه الله.

فإن قلت: كون النَّهْي مجموعيّاً يعني في الحقيقة تَقَيُّد حرمة كل كذب مثلاً بما إذا لم يكذب سابقاً، وهذا التَّقَيُّد منتفٍ بالإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة الجارية في كل حرمة، إذن يَتَعَيَّنُ أن يكون الإطلاق شُمُولِيّاً بعد أن انتفى الْبَدَلِيّ بالقرينة الْعَقْلِيَّة الَّتي ذكرها السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ وانتفى الْمَجْمُوعِيّ بمقدمات الحِكْمَة.

قلت: ثبت العرش ثم انقش؛ فَإِنَّ جريان الإطلاق في كل حرمة متوقّف على وجود حرمات عديدة بعدد مصاديق الكذب، وهذا متوقّف على كون النَّهْي اِنْحِلاَلِيّاً، وهو أوَّل الكلام، فلا يمكن إثبات الانحلال بهذا الإطلاق.

وبتعبير آخر: بعد أن انتفى احتمال تعلّق النَّهْي بكذب خاصّ بالإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة، وانتفى أيضاً احتمال أن يكون الإطلاق فيه بَدَلِيّاً بالقرينة الْعَقْلِيَّة الَّتي ذكرها السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ ولزوم اللَّغْوِيَّةِ، يبقى احتمالان آخران:

أحدهما: أن تكون هناك حرمة واحدة منصبّة على مجموع الأكاذيب، وهذا هو الإطلاق الْمَجْمُوعِيّ.

وثانيهما: أن تكون هناك حرمات عديدة بعدد الأكاذيب، وهذا هو الإطلاق الشُّمُولِيّ الاِنْحِلاَلِيّ.

وكلاهما ممكن ولا مُعَيِّن لِلثَّانِي في قِبَال الأوّل، كما هو واضح.

رابعاً: أَنَّنَا سوف نوضّح في الجهة الرَّابعة من جهات هذا البحث - إن شاء الله تعالى - أن النَّهْي يقتضي الشمول بِغَضِّ النَّظَرِ عن القرينة الْعَقْلِيَّة الَّتي ذكرها السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ؛ وذلك لأَنَّ النَّهْي إنّما هو نهي عن الطَّبِيعَة، وهي لا تنعدم إلاَّ بانعدام كل مصاديقها خارجاً، وإذا أردنا أن نتكلّم طِبْقاً لوجهة نظر السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ في مفاد النَّهْي قلنا: إن النَّهْي إنّما هو عبارة عن اعتبار الحرمان من الطَّبِيعَة، والحرمان من الطَّبِيعَة لا يكون إلاَّ بالحرمان من كل مصاديقها خارجاً.

إذن، فقد تبيَّن حتّى الآن أن المقياس الَّذي أفاده السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ في المقام لِبَدَلِيَّة الإطلاق أو شُمُولِيَّتِهِ وَاِنْحِلاَلِيَّته غير صحيح.

 وللبحث صلة تأتي إن شاء الله تعالى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo