< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/16

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كُنَّا نبحث عن المقياس والضابط لِلْبَدَلِيَّةِ أو الشُّمُولِيَّة للإطلاق، فقد عرفنا لحد الآنَ أن المقياس الَّذي ذكره السيد الخوئي رحمه الله لا يمكن المساعدة عليه لوجود ملاحظات وإيرادات عليه قد تقدمت مفصَّلاً.

وأفاد المُحَقِّق الخُراسانيّ صاحب الكفاية رَحِمَهُ اللَهُ في وجه اِنْحِلاَلِيَّة النَّهْي أن متعلّقه مطلق يشمل إطلاقه ما بعد الإتيان ببعض الأفراد أيضاً. فمثلاً «الكذب» في قوله: «لا تكذب» مطلق يشمل إطلاقه الكذب الثَّانِي، إذن فهو أيضاً حرام، ويشمل إطلاقه الكذب الثَّالث، إذن فهو أيضاً حرام، وهكذا.. وهذا هو الانحلال وتعدُّد الحكم. ويرد عليه: أن الإطلاق الَّذي تُثبته مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ في الْمُتَعَلَّق لا يقتضي سوى تعلّق النَّهْي بذات الطَّبِيعَة بما هي هي، من دون قيدٍ من القيود، وأمّا أن هذا النَّهْي الْمُتَعَلِّق بذات الطَّبِيعَة هل هو اِنْحِلاَلِيّ لا يسقط بالعصيان في الفرد الأوّل، أم هو غير اِنْحِلاَلِيّ فيسقط به؟ فهذا أمر آخر لا يرتبط بإطلاق الْمُتَعَلَّق.

وبتعبير آخر: كما كُنَّا نقول في باب الأمر أن سقوطه بالامتثال أو العصيان لا ينافي إطلاق الْمُتَعَلَّق، كذلك هنا نقول: إن سقوط النَّهْي بالامتثال أو العصيان لا ينافي إطلاق الْمُتَعَلَّق. فالمهم إثبات الانحلال وتعدُّد الحكم، وهذا مِمَّا لا يَتَكَفَّلُهُ إطلاق الْمُتَعَلَّق.

إذن، فما هو المقياس الصَّحِيح لِبَدَلِيَّة الإطلاق أو شُمُولِيَّته؟ وما هي نكتة كون النَّهْي اِنْحِلاَلِيّاً؟

الصَّحِيح: هو أنَّ هناك نكتة أخرى (غير ما ذكر) تقتضي الْبَدَلِيَّة أو الشُّمُولِيَّة في موارد الإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة، وأن هناك ضَابِطاً كُلِّيّاً للانحلال وعدمه، وقد شرحناه مفصَّلاً في بحث دلالة الأمر على المرَّة أو التَّكرار، ونذكره هنا بإيجاز، وهو أن الأصل دائماً في موضوع الحكم هو الانحلال (سواء في باب الأمر أو النَّهْي)؛ وذلك لأَنَّ الموضوع مأخوذ دائماً مفروض الوجود في مقام جعل الحكم. فمثلاً «العالِم» في قوله: «أكرم العالِم» أخذ مفروض الوجود، ثم انصبّ عليه الحكم بوجوب إكرامه، ومن هنا ترجع الْقَضِيَّة الحملية إلى قضية شرطية، وهي «إن وجد عالِم فأكرمه». وكذلك مثلاً «الخمر» في قوله: «لا تشرب الخمر» أخذ مفروض الوجود ثم انصبّ عليه الحكم بحرمة شرمه، ولو لم يكن «العالم» في المثال الأوّل و«الخمر» في المثال الثَّانِي مَفْرُوضَيِ الوجود، لَوَجَبَ إيجاد «العالِم» في المثال الأوّل ثم إكرامه، وَلَوَجَبَ إيجاد «الخمر» في المثال الثَّانِي ثم الاجتناب عن شربها، وهذا خُلف كونهما موضوعين للحكم وأنا لحكم لا يحرّك نحوهما.

 فإذا كان الموضوع مفروض الوجود دائماً، فمع تَعَدُّدِه تَتَعَدَّدُ فعليّة الموضوع، وبالتَّالي تَتَعَدَّدُ فعليّة الحكم؛ لأنَّها تابعة لها، وتعدُّد فعليّة الحكم هو معنى الانحلال. هذا في الموضوع.

وأمّا مُتَعَلَّق الحكم فالأصل دائماً فيه عَدَم الاِنْحِلاَل (سواء في باب الأمر أو النَّهْي)؛ لأَنَّهُ لم يؤخذ مفروض الوجود، بل الحكم بَعث نحو إيجاده (إذا كان الحكم عبارة عن الأمر) وزجر عن إيجاده (إذا كان الحكم عبارة عن النَّهْي)، فلا ترجع الْقَضِيَّة بلحاظه إِلَى قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ. فمثلاً الإكرام في قوله: «أكرم العالِم» لم يؤخذ مفروض الوجود، بحيث يرجع الكلام إلى قوله: «إن وجد إكرام فأكرم العالم» بحيث تكون فعليّة الحكم تابعة لِفِعْلِيَّةِ متعلّقه، فإنّ هذا لغو وتحصيل للحاصل، بل الحكم هو الَّذي يبعث نحو إيجاده، وحينئِذٍ فلا نكتة ولا دليلَ لتعدُّد الحكم وانحلاله بعدد المصاديق المتصوَّرة لِلْمُتَعَلَّقِ؛ إذ ليست فِعْلِيَّة الحكم تابعة لِفِعْلِيَّة الْمُتَعَلَّقِ - كما أشرنا إليه - كي يتعدّد الحكم بتعدده، بل هو حكم واحد ثابت على الطَّبِيعَة بَعْثاً نحو إيجادها أو زجراً عن إيجادها.

 إذن، فالأصل في الموضوع انحلال الحكم وشموليته بلحاظه، والأصل في الْمُتَعَلَّق بَدَلِيَّة الحكم وعدم انحلاله بلحاظه.

 فَالْبَدَلِيَّةُ وَالشُّمُولِيَّة الثَّابِتَتَانِ للحكمِ في باب المطلقات ليستا من شؤون الإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة، خلافاً لِلْبَدَلِيَّةِ وَالشُّمُولِيَّةِ الثَّابِتَتَيْنِ للحكم في باب العمومات، حيث أنهما من شؤون العموم نفسه، حيث أن العموم والاستيعاب الَّذي يوضع اللَّفظ له تارةً يكون استيعاباً بنحو الشمول والاستغراق فيكون العامّ عامّاً شُمُولِيّاً، كما في لفظة «كل» في قوله: «أكرم كل عالِم» الموضوعة لهذا النَّحْو من الاستيعاب، وأخرى يكون استيعاباً على نحو البدل فيكون العامّ عامّاً بَدَلِيّاً، كما في لفظة «أيّ» و«أحد» في قوله: «أكرم أيّ عالمٍ» أو «أكرم أحد العلماء»، فإِنَّهُمَا مَوْضُوعَتَانِ لهذا النَّحْو من الاستيعاب.

 أما في باب المطلقات فالأمر ليس كذلك؛ فَإِنَّ الْبَدَلِيَّة وَالشُّمُولِيَّة ليستا من شؤون الإطلاق نفسه (وإن تُوهّم ذلك وقيس باب المطلق بباب العموم)؛ فَإِنَّ الإطلاق لا يُثبت سوى أن الحكم ثابت على الطَّبِيعَة من دون قيد زائد، وأمّا بَدَلِيَّة الحكم أو شُمُولِيَّته فهما من شؤون تطبيق الحكم وفعليته، لا أنهما مدلولان لمقدمات الحِكْمَة أو للوضع؛ فَإِنَّ الحكم على الطَّبِيعَة لو كان غير قابل للانطباق على جميع أفرادها فهو بدليّ، وإلا فَشُمُولِيٌّ؛ ففي جانب الموضوع وإن كان الموضوع عبارة عن طبيعي العالم مثلاً، لكن الحكم قابل للانطباق على جميع أفراد العالم، أي: هو قابل لِتَعَدُّدِهِ وانحلاله بعدد أفراد العالم، لما قلناه من أن فِعْلِيَّة الحكم تابعة لِفِعْلِيَّته، فكُلَّما صار الموضوع فعليّاً صار الحكم فعليّاً، وهو معنى الانحلال والشمول.

 وأمّا في جانب الْمُتَعَلَّق فأيضاً الحكم ثابت على الطَّبِيعَة، لكن هنا ليس الحكم قابلاً للتعدد والانحلال بعدد أفراد هذه الطَّبِيعَة؛ إذ ليست فِعْلِيَّة الحكم تابعة لِفِعْلِيَّة الْمُتَعَلَّق كما قلنا؛ ففي عالم تطبيق الحكم وفعليته لا موجب لتعدُّد الحكم، وهو معنى الْبَدَلِيَّة وعدم الانحلال.

 إذن، فَمُقَدَِّمَاتُ الْحِكْمَةِ إنّما تُثبت أن الطَّبِيعَة بذاتها وقعت موضوعاً أو مُتَعَلَّقاً للحكم من دون قيد زائد عليها؛ لأَنَّ المولى في مقام البيان، فلو أراد قيداً زائداً على ذات الطَّبِيعَة لَبَيَّنَهُ، وحيث لَمْ يُبَيِّنْهُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ موضوعَ حكمه أو مُتَعَلَّق حكمه هو ذات الطَّبِيعَة، هذا ما تُنتجه مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ في جميع الموارد.

 غاية الأمر أن هذا الحكم المنصبّ على ذات الطَّبِيعَة قد يكون قابلاً للانحلال في مقام تطبيقه نظراً إلى أن الطَّبِيعَة أصبحت موضوعاً للحكم، والموضوع يُفرض في مرتبة سابقة على الحكم، لتوقّف الحكم على الموضوع، وَالطَّبِيعَة المفروغ عنها قبل الحكم تستتبع لا محالة انطباقها على جميع مصاديقها وسريانها إليها، فلذا يتعدّد الحكم كُلَّمَا تعدّدت مصاديق الطَّبِيعَة الَّتي هي موضوع الحكم؛ لأَنَّ الحكم قد أنيط بالموضوع، وهذا هو معنى قولنا: «إن الأصل العامّ في طرف الموضوع دائماً هو انحلال الحكم وتعدُّدِهِ بتعدُّد الموضوع» فيصبح الإطلاق شُمُولِيّاً؛ لأَنَّ الشُّمُولِيَّة حينئذٍ من شؤون الطَّبِيعَة وقعت موضوعاً للحكم.

 وقد لا يكون الحكم قابلاً للانحلال في مقام تطبيقه نظراً إلى أنَّ الطَّبِيعَة أصبحت متعلّقاً للحكم، وَالْمُتَعَلَّق لا يُفرض وجوده قبل الحكم، وإلا لكان طلبه تحصيلاً للحاصل، بل هو من تبعات الحكم، وهذه الطَّبِيعَة الَّتي وقعت متعلّقاً للحكم وإن كانت منطبقة على جميع مصاديقها وسارية إليها، إلاَّ أن الحكم لا يتعدّد بتعدُّد مصاديقها؛ لأَنَّ الحكم ليس تابعا لها (خلافاً للموضوع)؛ إذ لم يُنَط الحكم بها، وإنَّما هي في طول الحكم ومن تبعاته، وتوجد بعد وجود الحكم، والحكم واحد. فإذا وجد الحكم ووُجدت الطَّبِيعَة ضمن أحد مصاديقها، انتهى الأمر، ولا موجب حينئذٍ لأَنْ يتعدّد الحكم ويوجد حكم ثانٍ بلحاظ مصداق ثانٍ لهذه الطَّبِيعَة؛ فَإِنَّ الحكم إنّما يتعدّد بعدد فِعْلِيَّاتِ شيء آخر لم يُنط الحكم به (وهو الْمُتَعَلَّق الَّذي هو في الواقع جزاء في الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة)، وهذا هو معنى قولنا: «إنَّ الأصل العامَّ في طرف الْمُتَعَلَّقِ إنّما هو عدم انحلال الحكم وتعدُّدِهِ بعدد المصاديق الْمُتَصَوَّرَة لِلْمُتَعَلَّقِ» فَيَصِحُّ الإطلاق بَدَلِيّاً حينئذٍ؛ لأَنَّ الْبَدَلِيَّة من شؤون الطَّبِيعَة الَّتي وقعت متعلّقاً للحكم. هذان هما الأصلان الْعَامَّانِ في جميع الموارد.

 ولكل من الأصلين استثناء بموجب قرينة سنذكرهما غداً إن شاء الله تعالى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo