< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/23

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن هناك قرينةً عُرْفِيَّةً فِي باب النَّهْي بالخصوص توجب ظهور النَّهْي فِي الاِنْحِلاَل بلحاظِ متعلّقه (أي: توجب أن يكون الإِطْلاَق فِي النَّهْي بلحاظ متعلّقه إطلاقاً شُمُولِيّاً، يعني: يكون النَّهْي مُنْحَلاًّ إلى نواه عديدة بعدد أفراد ذاك الشَّيْء الْمَنْهِيّ عَنْهُ). والقرينة الْعُرْفِيَّة الَّتي توجب هذا الظُّهُور الْعُرْفِيّ هي الَّتي تقدمت بالأَمْسِ، فكانت عبارة عن غلبة نشوء النَّهْي عن شيء من المفسدة فِي ذلك الشَّيْء، بالإضافة إلى غلبة أخرى هي أن المفسدة غالباً اِنْحِلاَلِيَّة (أي: إذا كانت هناك مفسدة فِي شيء مّا فالغالب هو أَنْ تَكُونَ هذه المفسدة موجودة فِي كُلّ فرد فردٍ من أفراد ذاك الشَّيْء). وَالنَّتِيجَة أن هَاتَيْنِ الغلبتين تولِّدانِ ظُهُوراً عُرْفِيّاً لِلنَّهْيِ فِي الاِنْحِلاَل.

 وتقدم أن السيد الخوئي اعترض على هذه القرينة (طبعاً، على ما يبدو فِي الدورات الأخيرة من بحثه الشريف، رغم أَنَّهُ اعترف بهذه القرينة فِي الدورات المتقدّمة، على ما فِي دراسات فِي علم الأصول، دون ما ورد فِي محاضرات الشَّيْخ الفياض حفظه الله)، وقد تقدّم الاعتراض الأوّل بالأَمْسِ، وإليك الاعتراض الثَّانِي:

الثَّانِي: أَنَّهُ لا طريق لنا إلى إحراز كون المفسدة اِنْحِلاَلِيَّة إلاَّ النَّهْي نفسه؛ فإِنَّهُ إذا كان النَّهْي اِنْحِلاَلِيّاً عرفنا أن المفسدة اِنْحِلاَلِيَّة، ومن دونه لا طريق لنا إلى إحراز ملاك الحكم، إذن، فلا يصحّ أَنْ نَّسْتَدِلَّ على اِنْحِلاَلِيَّة النَّهْي بِانْحِلاَلِيَّةِ المفسدة؛ فَإِنَّ اِنْحِلاَلِيَّةَ المفسدة لا طريق لنا إلى إحرازها إلاَّ خطاب المولى ونهيه؛ إذ لا نعرف ملاكات خطابات الشَّارع إلاَّ من خلال خطاباته نفسها، فالاستدلال على اِنْحِلاَلِيَّة النَّهْي والخطاب بِانْحِلاَلِيَّة المفسدة والملاك يستلزم الدّور، لتوقف كل منهما على الآخر. وهذا الاعتراض أيضاً اتَّضَحَ جوابه من الجواب على الاعتراض الأوّل؛ لأَنَّ المُدَّعى ليس عبارة عن غلبة اِنْحِلاَلِيَّة ملاكات النَّواهي الشَّرعيَّة، فلا نريد الاستدلال على اِنْحِلاَلِيَّة النَّهْي الشَّرْعِيّ عن طريق اِنْحِلاَلِيَّة المفسدة الَّتي نشأ النَّهْي الشَّرْعِيّ منها، كي يقال: إِنَّنّا لا طريق لنا إلى إحراز ملاك الحكم وَالنَّهْي الشَّرْعِيّ ومعرفة اِنْحِلاَلِيَّة الملاك والمفسدة إلاَّ النَّهْي والخطاب الشَّرْعِيّ نفسه، بل المُدَّعى عبارة عن غلبة اِنْحِلاَلِيَّة ملاكات النَّواهي العرفية الْعُقَلاَئِيَّة، فنريد الاستدلال على اِنْحِلاَلِيَّة النَّهْي الشَّرْعِيّ عن طريق اِنْحِلاَلِيَّة المفسدة الَّتي ينشأ النَّهْي الْعُرْفِيّ الْعُقَلاَئِيّ منها، ونقول: إن الغالبَ فِي نواهي النَّاس هو نشوؤها من مفاسدَ اِنْحِلاَلِيَّةٍ، وهذه الغلبة تستوجب ظهور النَّهْي الْعُرْفِيّ الْعُقَلاَئِيّ فِي كونه اِنْحِلاَلِيّاً، وهذا الظُّهُور حجّة، فإذا صدر النَّهْي من الشَّارع فهم العرف منه أيضاً الاِنْحِلاَل كما يفهمه من نواهي النَّاس؛ إذ لم يخترع الشَّارع لنفسه طريقاً خاصّة (فِي نواهيه) غير الطَّرِيقَة الْعُرْفِيَّة، ويكون هذا الفهم والظهور حجّة. وحاصل الجواب على كلا الاعتراضين الَّذَيْن ذكرهما السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ هو أَنَّنَا لا نقصد التَّمسُّك باِنْحِلاَلِيَّةِ المفسدة فِي نهي الشَّارع لإثبات أنَّ نهيه اِنْحِلاَلِيّ، كي يقال: إن هذا يتوقَّف على القول بِتَبَعِيَّة نهي الشَّارع للمفسدة، ويقال أيضاً: إِنَّه لا طريق لنا إلى معرفة اِنْحِلاَلِيَّةِ المفسدة فِي نهي الشَّارع إلاَّ نفس النَّهْي، فما لم يثبت كون النَّهْي نفسه اِنْحِلاَلِيّاً لا تثبت اِنْحِلاَلِيَّة المفسدة، بل إِنَّنّا نقصد بالتمسك بغلبة نشوء النَّهْي الْعُقَلاَئِيّ عن وجود مفسدة عُقَلاَئِيَّة فِي متعلّقه، وغلبة كون المفسدة الْعُقَلاَئِيَّة اِنْحِلاَلِيَّةٌ، نقصد التَّمسُّك بهذه الغلبة الاِرْتِكَازِيَّة لإثبات أن النَّهْي عند العقلاء ظاهر (بالظهور السياقي المتولِّد من الغلبة المذكورة) فِي الاِنْحِلاَلِيَّة، وبالتَّالي فهذا الظُّهُور يتحكّم فِي نهي الشَّارع أيضاً ويسري إليه قهرا، باعتباره نَهْياً مُلقى إلى العرف والعقلاء.

 إذن، اتَّضَحَ وجه الفرق بين الأمر وَالنَّهْي وأنه لماذا يسقط الأمر بالعصيان أو الامتثال مرّةً، ولا يسقط النَّهْي بل يبقى حتّى بعد الامتثال أو العصيان؟ فحرمة شرب الخمر مثلاً إذا اِمْتَثَلَهَا المُكَلَّف مرّةً ولم يشرب الخمر لا تسقط عنه فِي المرَّة الثَّانية بعد الامتثال فِي المرَّة الأولى، بل تبقى مُسْتَمِرَّةً، وكذلك إذا أعصاها المُكَلَّف مرّةً وشرب الخمر لا تسقط عنه فِي المرَّة الثَّانية بعد العصيان فِي المرَّة الأولى، بل تبقى مُسْتَمرَّة، وهذا معناه وجود خطابات عديدة بحرمة شرب الخمر وحرمات متعدّدة تنتظر امتثالها أو عصيانها، بخلاف الأمر حيث لا يوجد إلاَّ أمر وتكليف واحد لا يبقى بعد العصيان الأوّل أو الامتثال الأوّل، والنُّكتة عبارة عمَّا قلناه من اِنْحِلاَلِيَّةِ النَّهْي بلحاظ الْمُتَعَلَّقِ وتعدده بعدد مصاديق الْمُتَعَلَّق، وعدم اِنْحِلاَلِيَّة الأمر بلحاظ الْمُتَعَلَّق وعدم تَعَدُّده بعدد مصاديق الْْمُتعَلَّق.

 هذا تمام الكلام فِي الجهة الثَّالثة، وقد اتَّضَحَ أن النَّهْي اِنْحِلاَلِيّ، بخلاف الأمر.

وَأَمَّا الجهة الرَّابعة: ففي البحث عن كون النَّهْي شُمُولِيّاً وَنَهْياً عن الطَّبِيعَة، وفي هذا البحث نركّز على فارق آخر بين الأمر وَالنَّهْي، فنحن حتّى إذا غضضنا النَّظَر عن الفارق المتقدّم ذكره وهو كون النَّهْي اِنْحِلاَلِيّاً بموجب القرينة الَّتي ذكرناها فِي الجهة الثَّالثة، وفرضنا أَنَّهُ كالأمر، فَكَمَا أَنَّ الأمر أمر واحد بالطبيعة ووجوب واحد ولا يَنْحَلُّ إلى أوامر ووجوبات عديدة بعدد أفراد الطَّبِيعَة، كذلك النَّهْي نهي واحد عن الطَّبِيعَة وحرمة واحدة متعلّقة بها ولا يَنْحَلُّ إلى نواهٍ وحرمات عديدة بعدد أفراد الطَّبِيعَة. مع ذلك نجد فرقاً آخر بينه وبين الأمر فِي عالم الامتثال والعصيان، وهو فرق عقلي (خلافاً للفرق المتقدّم فِي الجهة السَّابِقَة حيث كان فرقاً لفظيّاً فِي ظهور الكلام ودلالته، حيث استظهرنا من النَّهْي كونه اِنْحِلاَلِيّاً بلحاظ متعلّقه بموجب القرينة الَّتي ذكرناها، بينما لم نستظهر من الأمر ذلك).

 وهذا الفرق العَقْلِيّ عبارة عمَّا كان هو المشهور بين الأُصُولِيِّينَ إلى عصر صاحب الكفاية رَحِمَهُ اللَهُ من أن العقل يرى فارقا بين وجود الطَّبِيعَة وبين عدمها، والفارق هو أو وجود الطَّبِيعَة يتحقّق بوجود فرد واحد من أفرادها، بينما عدمها لا يكون إلاَّ بانعدام جميع أفرادها، وعليه فالأمر حيث أَنَّهُ طلب للطبيعة، فالمقصود إيجادها، والعقل يرى أن إيجادها يتحقّق بإيجاد فرد واحد من أفرادها، فلذا يتحقّق الامتثال فِي باب الأمر بالإتيان بفرد واحد من أفراد متعلّقه، بينما النَّهْي زجر عن الطَّبِيعَة، فالمقصود عدمها، والعقل يرى أن عدمها لا يكون إلاَّ بانعدام جميع أفرادها، فلذا لا يتحقّق الامتثال فِي باب النَّهْي إلاَّ بترك كل أفراد متعلّقه، والاجتناب عن جميع مصاديق الطَّبِيعَة، أمّا الاجتناب عن مصداقٍ وفرد واحدٍ فقط فهو ليس امتثالا للنهي. هذا هو الفرق العَقْلِيّ بينهما فِي جانب الامتثال.

 وكذلك يوجد فرق عقلي بينهما فِي جانب العصيان؛ فَإِنَّ الأمر حيث أَنَّهُ طلب للطبيعة، إذن فالمقصود إيجادها، فعصيان الأمر إِنَّمَا يتحقّق بعدم إيجاد الطَّبِيعَة، والعقل يرى أن عدمها لا يكون إلاَّ بانعدام جميع أفرادها وترك كل مصاديقها، فلذا لا يتحقّق العصيان فِي باب الأمر إلاَّ بترك كل أفراد متعلّقه، أمّا ترك فرد واحد فهو ليس عصيانا للأمر، بينما النَّهْي زجر عن الطَّبِيعَة، فالمقصود عدمها، والعقل يرى أن عدمها لا يكون إلاَّ بعدم وجود أي فرد من أفرادها، فمادام يوجد ولو فرد واحد من أفرادها إذن فهي غير معدومة، فلذا يتحقّق العصيان فِي باب النَّهْي بإيجاد فرد واحد من أفراد متعلّقه.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ العقل ما دام يرى أن الطبيعي يوجد بوجود فرد واحد من أفراده، ولا ينعدم إلاَّ بانعدام جميع أفراده، لذا فالأمر يُمتثل بالإتيان بفرد واحد من أفراد الطبيعي الَّذي تعلّق الأمر به، ولا يُعصى إلاَّ بترك جميع أفراده، بينما النَّهْي لا يُمتثل إلاَّ بترك جميع أفراد الطبيعي الَّذي تعلّق النَّهْي به، ولٰكِنَّهُ يُعصى بالإتيان بفرد واحد من أفراده.

 هذه بَدَلِيَّة وشمولية أخرى غير الْبَدَلِيَّة وَالشُّمُولِيَّة الَّتي كُنَّا نراها فِي الجهة السَّابِقَة؛ فتلك شمولية وبدلية فِي مرحلة فِعْلِيَّة الحكم وانطباق الحكم، وهذه بَدَلِيَّة وشمولية فِي مرحلة الامتثال.

 وللبحث توضيح وشرح أكثر يأتي غداً إن شاء الله تعالى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo