< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/24

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 قلنا إن هناك فرقاً عَقْلِيّاً بين باب الأمر وباب النَّهْي، باعتبار أن العقل يفرّق بين وجود الطَّبِيعَة وبين انعدامها، فإِنَّهُ يرى أن الطَّبِيعَة يوجد بوجود فرد واحد لٰكِنَّهَٰا لا تنعدم إلاَّ بانعدام كل الأفراد. وفي ضوء هذا الفارق العَقْلِيّ الَّذي يدركه العقل بين جانبي الوجود والعدم فِي الطَّبِيعَة، يحصل فارق بين باب الأمر وباب النَّهْي، فارق من جهة الامتثال وفارق من جهة العصيان؛ ففي جانب الامتثال يتحقّق امتثال الأمر بالإتيان بفرد واحد، بينما فِي باب النَّهْي لا يتحقّق بالاجتناب عن فرد واحد، وقد تقدّم شرحه بالأَمْسِ. كما يحصل (فِي ضوء ذاك الفارق العَقْلِيّ المتقدّم) فارقٌ بين الأمر وَالنَّهْي فِي جانب العصيان أيضاً؛ فَإِنَّ عصيان الأمر إِنَّمَا يتحقّق بترك كل الأفراد والمصاديق، بينما عصيان النَّهْي يتحقّق بفرد واحد، فإِنَّهُ لو كذب كذبةً واحدة يكون قد عصى لحرمة النَّهْي.

 إذن، تحصَّل لدينا إلى الآن وجود فارقين بين الأمر وَالنَّهْي:

أحدهما: الفرق الَّذي ذكرناه فِي الجهة السَّابِقَة من البحث، وهو أن النَّهْي اِنْحِلاَلِيّ بخلاف الأمر الَّذي هو بدليّ؛ ففي النَّهْي توجد حرمات عديدة بعدد أفراد الْمُتَعَلَّق، أمّا فِي الأمر فلا يوجد إلاَّ وجوب واحد لا يتعدّد بعدد أفراد الْمُتَعَلَّق. ثانيهما: الفرق الَّذي ذكرناه الآن فِي هذه الجهة من البحث، وهو أن النَّهْي شُمُولِيّ بخلاف الأمر؛ فَإِنَّ العقل يرى أن امتثال الأمر يَتُِمّ بالإتيان بفرد واحد، بينما امتثال النَّهْي لا يَتُِمّ إلاَّ بترك جميع الأفراد، ويرى أن عصيان الأمر لا يتحقّق إلاَّ بترك جميع الأفراد، بينما عصيان النَّهْي يتحقّق بالإتيان بفرد واحد.

 فحتى لو غضضنا الطَّرْف عن الفرق الأوّل بينهما وافترضنا وحدة الحكم وعدم تَعَدُّده فِي باب الأمر وَالنَّهْي، لكن مع ذلك يوجد هذا الفرق الثَّانِي بينهما فِي عالم الامتثال والعصيان.

 وبهذا التمييز بين الجهة الثَّالثة من البحث والجهة الرَّابعة منه يَتَّضِحُ الخلطُ الموجود فيما يُنقل عن المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ رَحِمَهُ اللَهُ بين هَاتَيْنِ الجهتين، حيث يُحكى عنه أَنَّهُ ذكر نكتةً للفرق الَّذي نراه بين الأمر وَالنَّهْي، حيث نرى أن النَّهْي لا يسقط بالعصيان، بل يبقى مُسْتَمِرّاً، فمن كذب مثلاً لا تسقط عنه حرمة الكذب، بل تبقى ثابتة عليه حتّى وإن عصى مائة مرّةً، بينما الأمر ليس كذلك، فإِنَّهُ يسقط بالعصيان. والنُّكتة هي أن الطَّبِيعَة المنهي عن إيجادها (أي: المطلوب عدمها) لا تنعدم إلاَّ بانعدام كل أفرادها، فلذا لا يسقط النَّهْي بعصيان فرد واحد، ولكن الطَّبِيعَة المأمور بإيجادها توجد بوجود فرداً واحد.

 فإن هذا الكلام خلط بين جهتي البحث والفارقين الَّذين ذكرناهما فيهما؛ وذلك لأَنَّ «سقوط النَّهْي بالعصيان وعدم سقوطه به» مطلب، و«كون العصيان فِي النَّهْي بماذا يتحقّق؟» مطلب آخر؛ فَإِنَّ سقوط النَّهْي بالعصيان يتبع عدم انحلاله، بينما عدم سقوطه بالعصيان يتبع انحلاله، كما تقدّم فِي الجهة السَّابِقَة من البحث.

أما النُّكتة الَّتي ذكرها رَحِمَهُ اللَهُ فلا ربط لها بالانحلال، بل هي أعمّ منه؛ فَإِنَّ الطَّبِيعَة وإن كانت لا تنعدم إلاَّ بانعدام كل أفرادها، لكن هذا لا ينتج الاِنْحِلاَل وبالتَّالي عدم سقوطه بالعصيان، بل ينتج أن العصيان فِي النَّهْي يتحقّق بفرد واحد، أمّا أن النَّهْي لا يسقط بهذا العصيان، فهذا مِمَّا لا يثبت بهذه النُّكتة؛ إذ قد يكون النَّهْي نَهْياً عن ذات الطَّبِيعَة وعن تلوّث صفحة الوجود بها، فإذا عصي وأتي بفرد واحد منها فقد تلوّثت صفحة الوجود بها فيسقط النَّهْي، فلا بُدَّ (لإِثْبَات عدم سقوطه بالعصيان) من إثبات أن النَّهْي اِنْحِلاَلِيّ ومتعدد بعدد أفراد الطَّبِيعَة كما صنعناه نحن فِي الجهة السَّابِقَة.

 وَكَيْفَ كَانَ، فلنرجع إلى ما كُنَّا بصدده، حيث ذكرنا فِي هذه الجهة فارقاً آخر بين الأمر وَالنَّهْي وهو الفارق العَقْلِيّ بينهما فِي مقام الامتثال والعصيان، فامتثال الأمر يتحقّق بفرد واحد، بينما امتثال النَّهْي لا يتحقّق بترك فرد واحد، وإنَّما بترك الكل، وعصيان الأمر يتحقّق بترك الكل، بينما عصيان النَّهْي يتحقّق بفرد واحد، وهذا الفارق العَقْلِيّ مبنيّ كما قلنا على حكم العقل بأن وجود الطَّبِيعَة يتحقّق بوجود فرد واحد، أمّا عدمها فلا يكون إلاَّ بانعدام كل الأفراد.

 ومن هنا فقد وقع الإشكال فِي هذا الفرق بين الأمر وَالنَّهْي (كما أفاده سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ ونَسَبه إلى المحققين المتأَخِّرين عن صاحب الكفاية رَحِمَهُ اللَهُ([1] )) وهذا الإشكال قد تعرَّضنا له مع الجواب عليه فِي بحث دلالة الأمر على المرَّة أو التَّكرار.

وحاصل الإشكال هو أن الفرق المذكور بين الأمر وَالنَّهْي مبنيّ على القول بأن الطَّبِيعَة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاَّ بانعدام كل الأفراد، وهذا إِنَّمَا يصحّ بناءًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ نِسْبَةَ الْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيِّ إلى أفراده نِسْبَةُ الأَبِ الْوَاحِدِ إِلَى أَبْنَائِهِ (كما كان يقول به الرَّجُلُ الْفَيْلَسُوفُ الْهَمِدَانِيُّ الَّذي التقى به ابن سينا ونقل عنه هذه الفكرة، فاشتهرت بفكرة الرَّجُلِ الْهَمِدَانِيِّ عن الكلّي الطَّبِيعِيِّ، كما اشتهرت أيضاً بـ«الكلّي الْهَمِدَانِيِّ»)؛ فإِنَّهُ بناءًا على هذه الفكرة عن الكلّي، يكون لِلْكُلِّيِّ وجود واحد عدديّ سعيّ منتشر فِي جميع أفراده، فَكَمَا أَنَّ الأب الواحد له وجود واحد بالنسبة إلى وجودات أبنائه، كذلك الكلّي الطَّبِيعِيّ له وجود واحد بالنسبة إلى وجودات أفراده، يوجد مع أوَّل فرد، وتعرض عليه أعراض الفرد، فكل حالة للفرد هي حالة لِلْكُلِّيِّ. وعليه، فهذا الوجود الواحد يوجد بوجود فرد واحد، ولا ينعدم هذا الوجود الواحد إلا بانعدام كل الأفراد، فالفرق الْعَقْلِيّ المذكور بين الأمر وَالنَّهْي القائم على أساس القول بأنَّ الطَّبِيعَة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلا بانعدام كل الأفراد، مبنيّ على قبول فكرة «الرَّجُل الْهَمِدَانِيّ» المتقدّمة آنِفاً، بينما الصَّحِيح فَلْسَفِيّاً والمشهور هو بطلان الكلّي الْهَمِدَانِيّ وأن نسبة الكلّي الطَّبِيعِيّ إلى أفراده ليست نِسْبَة الأَبِ الْوَاحِدِ إِلَى أَبْنَائِهِ، بل هي نسبة الآباء العديدين الَّذي يفترض لكل واحد منهم ابن مستقلّ إلى الأبناء، فَكَمَا أَنَّ للآباء وجودات مستقلّة وعديدة بعدد الأبناء، فكذلك لِلْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيّ وجودات مستقلّة وعديدة بعدد أفراده، فهو فِي كل فردٍ له وجود مستقلّ عن وجوده فِي الفرد الآخر، وفي مقابل كل وجودٍ من هذه الوجودات عدم، وهذا هو الَّذي يقول عنه المُلاَّ هادي السبزواري رَحِمَهُ اللَهُ فِي منظومته:

 ليس الطَّبِيعِيّ مع الأفرادكالأب، بل آباء مع الأولادفبناءًا على هذه الفكرة الصحيحة عن الكلّي الطَّبِيعِيّ، يوجد الكلّي بوجود فرد واحد وينعدم أيضاً بانعدام فرد واحد؛ إذ كما أن هناك وجودات عديدة لِلْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيّ فهناك أيضاً أعدام عديدة له؛ فوجود كل فرد هو ناقض لعدم الطَّبِيعَة فِي ضمن ذاك الفرد لا مطلقاً، فلا يبقى معنى محصَّل لما اشتهر من أن الطَّبِيعِيّ يوجد بوجود فرد واحد ولا ينعدم إلاَّ بانعدام تمام أفراده؛ إذ لا نتصور أن تكون الطَّبِيعَة موجودة ومحفوظة فِي فردٍ واحد، ورغم هذا فهي لا تنعدم بانعدام ذاك الفرد وإنَّما تنعدم بانعدام جميع الأفراد. هذا غير معقول؛ لأَنَّ وجود الطَّبِيعِيّ فِي ضمن كل فرد لا يُحفظ إلاَّ فِي ضمن ذاك الفرد، ولا ينعدم أيضاً إلاَّ بانعدام ذاك الفرد.

 وعليه، فلا يبقى فرق بين الأمر وَالنَّهْي فِي عالم الامتثال والعصيان، ما دام قد فرضنا أن للطبيعة وجودات وأعداماً عديدة بعدد الأفراد؛ لأَنَّ الأمر طلب إيجاد الطَّبِيعَة، وَالنَّهْي زجر عن إيجاد الطَّبِيعَة.

 فحينئذٍ نتساءل هل أن الطّلب وَالزَّجْر تعلَّقا بوجود واحد من الوجودات العديدة للطبيعة، أم تعلّقا بوجوداتها العديدة؟

 فإن كان الأوّل (أي: أن الأمر هو طلب وجودٍ واحد من هذه الوجودات وَالنَّهْي زجر عن وجودٍ واحد منها) فهذا معناه تحقّق الامتثال (فِي كل من الأمر وَالنَّهْي) بفرد واحد؛ لأَنَّهُ وجود واحد من وجدات الكلّي الطَّبِيعِيّ الَّذي تعلّق به الأمر أو النَّهْي؛ فامتثال الأمر الْمُتَعَلَّق بكلي الصَّلاة يتحقّق بالإتيان بصلاة واحدة؛ لأَنَّهَا وجود واحد من وجودات هذا الكلّي، وامتثال النَّهْي الْمُتَعَلَّق بكلي الكذب أيضاً يتحقّق بترك كذل واحد والانزجار عنه؛ لأَنَّهُ انزجار عن وجود واحد من وجودات هذا الكلّي، فلا فرق بين الأمر وَالنَّهْي فِي جانب الامتثال، وكذلك لا فرق بينهما فِي جانب العصيان، فكما يتحقّق العصيان فِي النَّهْي بالإتيان بوجودٍ واحد من وجودات هذا الكلّي، كذلك يتحقّق العصيان فِي الأمر بعدم وجودٍ واحدٍ من وجودات هذا الكلّي وتركه.

 وأمّا إن كان الثَّانِي (أي: أن الأمر هو طلب الوجودات العديدة لِلْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيّ، وَالنَّهْي هو زجر عن وجوداته العديدة، فهذا معناه عدم تحقّق الامتثال (لا فِي الأمر ولا فِي النَّهْي) إلاَّ بجميع الأفراد؛ لأَنَّهَا الوجودات العديدة لِلْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيّ الَّذي تعلّق به الأمر أو النَّهْي؛ فامتثال الْمُتَعَلَّق بكلي الصَّلاة لا يتحقّق إلاَّ بالإتيان بجميع الصَّلَوَات، وامتثال النَّهْي الْمُتَعَلَّق بكليّ الكذب أيضاً لا يتحقّق إلاَّ بترك كل أفراد الكذب. فلا فرق بين الأمر وَالنَّهْي فِي جانب الامتثال، وكذلك لا فرق بينهما فِي جانب العصيان، فكما يتحقّق العصيان فِي الأمر بترك كل الوجودات، كذلك يتحقّق العصيان فِي النَّهْي بإيجاد كل الأفراد والوجودات العديدة لِلْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيّ.

 هذا هو حاصل الإشكال الَّذي نسبه سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ إلى المحققين المتأَخِّرين عن صاحب الكفاية حول الفرق العَقْلِيّ الَّذي ذكرناه بين الأمر وَالنَّهْي فِي الامتثال والعصيان، بعد ذلك - إن شاء الله - فِي يوم السبت نتعرض للجواب، أمّا غداً فمعطل بمناسبة استشهاد الإمام الصادق صلوات الله عليه.

[1] - الظَّاهِر أن المقصود هو المُحَقِّق الإصفهاني رَحِمَهُ اللَهُ، راجع نهاية الدِّراية: ج2، ص185.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo