< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

31/01/18

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 انتهينا إلى هذه النَّتِيجَة وهي أن القول بثبوت الْمَفْهُوم (فِي أية قَضِيَّة من القضايا كالشرطية أو الوصفية أو..) لا يتوقَّف على أن نلتزم بالشروط الَّتي ذكرها المُحَقِّق النائيني، فإن القائل بأن الجملة الشَّرْطِيَّة لها مفهوم لَيْسَ ملزماً بالذهاب إلى أن الرَّبْط بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ربط عِلِّيّ توقفيّ اِنْحِصَارِيّ. هذا ما تقدّم بالأَمْسِ، وسيأتي مزيد توضيح وشرح وتفصيل له في أثناء البحوث الآتية.

 وقد اتَّضَحَ أن الرَّأْي الْمَشْهُور حول ضَابِط الْمَفْهُوم (وهو أن الضّابط منحصر فِي أن يكون الرَّبْط عِلِّيّاً اِنْحِصَارِيّاً) غير تامّ.

 ونأتي الآنَ إلى رأي المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ الَّذي قلنا بأَنَّهُ يمثل اتجاهاً معاكساً للاتجاه الْمَشْهُور فيما يلي:

يرى المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ رَحِمَهُ اللَهُ أن الضَّابِطَ فِي اِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ لَيْسَ عبارة عن كون الرَّبْط رَبْطاً عِلِّيّاً اِنْحِصَارِيّاً، فهذا مسلم عِنْدَ الْجَمِيعِ، فإن من الواضح لدى الجميع (بما فيهم المنكر لِلْمَفْهُومِ) - ولو ارتكازاً - فِي أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ. فاختلاف منكري الْمَفْهُوم مع مُثبتيه فِي أنّ الأمر الثَّانِي الَّذي ذكرناه فِي اليوم الأوّل، وهو ما هو الْجَزَاء؟ فإن خفاء الأذان علّة منحصرة لوجوب القصر، لكن هل المقصود من وجوب القصر هو كليّ وجوب القصر أو شخص وجوب القصر؟

 فيقول المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ أن الخلاف بين النائيني والمشهور هو فِي أنَّ كون الْمُعَلَّق عَلَىٰ الشَّرْطِ سنخ الحكم فِي الْجَزَاء لا شخصه بعد فرض مُسَلَّمِيَّةِ (النُّقْطَة الأولى وهي) كَوْن الشَّرْط علّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ. فهذا الرَّأْي يَنْحَلُّ فِي الحقيقة إلى دعاوي أربع:

الدَّعْوَىٰ الأولى: توقّف الْمَفْهُوم على الرَّبْط اللُّزُومِيّ الْعِلِّيّ الاِنْحِصَارِيّ كما قال به الرَّأْي المشهور أيضاً، وهذا ما يقبل به المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ.

الدَّعْوَىٰ الثَّانية: أن هذا الرَّبْط اللُّزُومِيّ الْعِلِّيّ الاِنْحِصَارِيّ مسلَّم عِنْدَ الْجَمِيعِ حتّى عند منكري الْمَفْهُوم ولو ارتكازاً، فكون الشرط مثلاً علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ أمر يراه حتّى منكر مفهوم الشرط أمراً ثابتاً ويعترف به ولو ارتكازاً.

الدَّعْوَىٰ الثَّالثة: أن هذا الرَّبْط اللُّزُومِيّ الاِنْحِصَارِيّ فِي الْقَضِيَّة لو كان رَبْطاً قَائِماً بين شخص الحكم وبين طرفه (شرطاً كان أم وصفاً أم أيّ شيء آخر) لما كان للقضية مفهوم ولم يكن هناك مجال لادّعائه؛ لأَنَّ غاية ما تقتضي الجملة حينئذٍ عبارة عن انْتِفَاء شخص الحكم عند انتفاء طرفه بعد أن فرضنا أن الرَّبْط بين الحكم وطرفه ربط لُزُومِيّ عِلِّيّ اِنْحِصَارِيّ، فبانتفاء طرف الحكم يَنْتَفِي شَخْص الحكم، وهذا لَيْسَ مفهوماً؛ لأَنَّ الْمَفْهُوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم بانتفاء طرفه.

الدَّعْوَىٰ الرَّابعة: أن هذا الرَّبْط اللُّزُومِيّ الْعِلِّيّ الاِنْحِصَارِيّ فِي الْقَضِيَّة لو كان رَبْطاً قَائِماً بَيْنَ سِنْخِ الْحُكْمِ وَطَرَفِهِ (الَّذي هُوَ الشَّرْطُ) كانت الْقَضِيَّة ذات مفهوم؛ لأَنَّ المفروض أن الرَّبْط بين الحكم وطرفه ربط لُزُومِيّ عِلِّيّ اِنْحِصَارِيّ، فبانتفاء طرف الحكم يَنْتَفِي سِنْخ الحكم، وهذا هو الْمَفْهُوم.

أما الدَّعْوَىٰ الأولى: فقد اتَّضَحَ من خلال بحثنا بالأَمْسِ عندما كُنَّا نناقش الرَّأْي الْمَشْهُور بأن الْمَفْهُوم لا يتوقَّف إثباتُه على إثبات أن الرَّبْط ربط لُزُومِيّ عِلِّيّ اِنْحِصَارِيّ، بل يكفي أن نثبت أن ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ، وبيّنّا حالات يختلف فيها أحد الأَمْرَيْنِ عن الآخر، فليست القضيتان متساويتين، فإن كَوْن الشَّرْطِ عِلَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ لا يساوي ما نقوله من أن ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ، فقد يحصل الأوّل مع الثَّانِي، وقد يحصل الأوّل ولا يحصل الثَّانِي. فالمفهوم الَّذي نبحث عنه فِي الْمَفَاهِيم لَيْسَ هذا الَّذي قالوه.

 فهذه الدَّعْوَىٰ الأولى يأتي فيها ما قلناه، كما يأتي فيها ما سنقوله فِي ثنايا البحث - إن شاء الله تعالى- من ضرورة الالتزام بالربط الْعِلِّيّ اللُّزُومِيّ الاِنْحِصَارِيّ أو عدم ضرورته.

أما الدَّعْوَيان الثَّالثة والرّابعة: فنوافق عليهما كما سوف يأتي - إن شاء الله تعالى -، أي: نحن نقبل بأن أية الجملة (كالجملة الشَّرْطِيَّة مثلاً) إذا دلت حقيقة على أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ ودلّت على أن الْجَزَاء شَخْص الْحُكْمِ لا سنخه، هكذا جملة لا مفهوم لها، كما قال الْعِرَاقِيّ (أي: لا يكون الرَّبْطُ اللُّزُومِيُّ الْعِلِّيُّ الاِنْحِصَارِيُّ بين الشرط وبين شَخْص الْحُكْمِ منتجاً للمفهومِ).

أما الدَّعْوَىٰ الثَّانية: فهي مركز الخلاف بين الْمَشْهُور والمُحَقِّق الْعِرَاقِيّ، حيث يقول الأخير: إن كون الرَّبْط لُزُومِيّاً عِلِّيّاً اِنْحِصَارِيّاً مسلم عِنْدَ الْجَمِيعِ، حتّى عند منكري الْمَفْهُوم، وإنَّما الخلاف بين المنكرين وَالنَّافِينَ فِي نقطة أخرى. فالسؤال هو: ما الَّذي جعل الْعِرَاقِيّ يتأكد من أن الخلاف لَيْسَ فِي كون الرَّبْط رَبْطاً لُزُومِيّاً عِلِّيّاً اِنْحِصَارِيّاً؟

دليل العراقي للدَّعْوَىٰ الثانية: هو ما أفاده فِي وجه كون الرَّبْط اللُّزُومِيّ الْعِلِّيّ الاِنْحِصَارِيّ مُسْلَّماً ولو ارتكازا عِنْدَ الْجَمِيعِ سواء القائلون بالمفهوم والمنكرون له: أن الجميع قالوا فِي باب المطلق والْمُقَيَّد المثبِتين كقوله: «أعتق رقبة» وقوله: «اعتق رقبة مؤمنةً» بحمل المطلق على المقيَّد فيما إذا عُلم بأن الحكم المجعول فِي كلا الدَّلِيلَيْنِ واحد ولم يُحتمل تَعَدُّده، فيحكم بوجوب عتق خصوص الرقبة المؤمنة، ولا وجه لذلك سوى أن انْتِفَاء القيد (كالإيمان فِي المثال) موجب لانتفاء الحكم المذكور فِي الدَّلِيل المقيَّد، وبما أن المفروض هو العلم بوحدة الحكم المذكور فِي الدَّلِيل المطلق والحكم المذكور فِي الدَّلِيل المقيَّد، وعدم احتمال وجود حكمين أحدهما مطلق والآخر مقيَّد بالإيمان، إذن فهذا يعني أَنَّهُ بِانْتِفَاءِ الْقَيْدِ المذكور فِي الدَّلِيل المقيَّد يَنْتَفِي الحكم المذكور فِي الدَّلِيل المطلق، وهذا هو حمل المطلق على المقيَّد، ولا وجه لانتفاء الحكم المذكور فِي الدَّلِيل المقيَّد عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَيْدِ بعد أن نكروا مفهوم الوصف سوى أن القيد علّة تامَّة منحصرة لِشَخْصِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الدَّلِيل المقيَّد.

 وبهذا تصحّ حينئذٍ دعوى استحالة ثبوت الحكم بعد انْتِفَاء موضوعه، وإلا فلا يكفي فِي ثبوت حمل المطلق على المقيِّد مجرّد دعوى انْتِفَاء الحكم بِانْتِفَاءِ الْقَيْدِ نظراً إلى أن استحالة ثبوت الحكم مع انْتِفَاء موضوعه عقلاً؛ وذلك لأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْضُوعُ علّة منحصرةً للحكم لما استحال ثبوت الحكم عند انْتِفَاء الْمَوْضُوعِ؛ لإمكان قيام علّة أخرى مقامه. فيثبت الحكم رغم انْتِفَاء ذاك الْمَوْضُوع، وبالتَّالي لم يكن هناك وجه لحمل المطلق على المقيَّد، بل كان لا بُدَّ من أن نأخذ بالمطلق والْمُقَيَّد معاً.

 إذن، فقد اتَّضَحَ أن القيد والشرط والغاية ونحوها إِنَّمَا هي من قبيل العلّة المنحصرة، فلا محالة يثبت الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ([1] )؛ فَإِنَّ كان الْمُعَلَّقُ عليه سنخ الحكم ثبت الْمَفْهُوم؛ لانْتِفَاءِ سنخ الحكم بانتفاء العلّة المنحصرة، وإن كان الْمُعَلَّق عليه شخص الحكم فلا يلزم من انْتِفَاء العلّة المنحصرة سوى انْتِفَاء شخص الحكم، ولا يثبت الْمَفْهُوم.

 وبالجملة فَالْعِلِّيَّةُ المنحصرة مسلَّمة عندهم كما يظهر منهم فِي باب المطلق والْمُقَيَّد، فلا يبقى فِي ما نحن فيه (أي: فِي بحوث الْمَفَاهِيم) ما نبحث عنه سوى أن الْمُعَلَّق هل هو شخص الحكم أم سنخه؟

 هذا ما أفاده المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ رَحِمَهُ اللَهُ. وسوف يأتي نقاشه غداً إن شاء الله تعالى.

[1] - لا يخفى أن ما نحن بصدد إثباته بناءًا على ضَابِط الْمَفْهُوم فِي الرَّأْي المشهور هو كون الوصف مثلاً علّة منحصرة للحكم، وحينما نبحث عن أن الوصف هل هو علّة منحصرة للحكم أم لا؟ نقصد بالحكم (طبعاً) ذات الحكم من دون أخذ الوصف فيه، أي: ذات وجوب عتق الرقبة المذكور فِي قوله مثلاً: «اعتق رقبةً مؤمنةً»، لا وجوب عتق الرقبة المؤمنة؛ إذ لولا تجريد الحكم عن وصف الإيمان لا معنى للبحث عن أن الإيمان هل هو علّة منحصرة للحكم أم لا؟ كما هو واضح. وأمّا مقصودهم من الحكم فِي باب المطلق والْمُقَيَّد حيث قالوا: إِنَّه مع العلم بوحدة الحكم يقع التَّنَافِي بين المطلق والْمُقَيَّد المثبتين ويحمل المطلق على المقيَّد؛ فهو الحكم بكل ما له من قيود الْمَوْضُوع أو الْمُتَعَلَّق، فلا يجرد من قيد الإيمان مثلاً، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الحكم الواحد إما هو متقوّم بقيد الإيمان كما هو الْمُسْتَفَاد من الدَّلِيل المقيِّد (أي: قوله مثلاً: «اعتق رقبةً مؤمنةً») ولا يمكن التقوّم به وعدم التقوّم به فِي آنٍ واحد، فيقع التَّنَافِي بين الدَّلِيلَيْنِ، إذن فمسألة حمل المطلق على المقيِّد لا ربط لها بما نحن فيه أصلاً.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo