< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

31/01/26

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

ففي الفرض الأوّل يكون المربوط بالمجيء عبارة عن كل أفراد وجوب الإكرام، وحينئِذٍ يثبت الْمَفْهُوم بلا حاجة إلى الرُّكْن الأوّل (بأيّ صيغةٍ كان)، فَحَتَّى مع انْتِفَاء الرُّكْن الأوّل بصيغته المشهورة وعدم كونا لربط بين المجيء وبين طَبِيعِيّ الحكم رَبْطاً لُزُومِيّاً عِلِّيّاً اِنْحِصَارِيّاً، أي: عدم كون المجيء علّة تامَّةً منحصرة لطبيعي وجوب الإكرام، بل كان المجيء وطبيعي وجوب الإكرام معلولين لعلةٍ واحدة مثلاً، مع ذلك حيث أن المفروض هو أن الكلام يَدُلّ بالإطلاق على أن طَبِيعِيّ وجوب الإكرام بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ (أي: كل أفراد وجوب الإكرام) مربوط بالمجيء، فهذا لازمه انْتِفَاء هذا الطَّبِيعِيّ عند انْتِفَاء المجيء؛ إذ ثبوت فردٍ من أفراد وجوب الإكرام رغم عدم ثبوت المجيء خُلف فرض ارتباط كل أفراد وجوب الإكرام بالمجيء، كما أن الأمر كذلك حتّى مع انْتِفَاء الرُّكْن الأوّل بصيغته الَّتي ذكرناها نحن، فَحَتَّى إذا لم يكن الرَّبْط بين المجيء وبين طَبِيعِيّ الحكم رَبْطاً تَوَقُّفِيّاً، بل كان رَبْطاً اِسْتِلْزَامِيّاً إِيجَادِيّاً، بحيث يَدُلّ الكلام على أن المجيء موجِد ومستلزِم لطبيعي وجوب الإكرام، مع ذلك حيث أن المفروض هو أن الكلام يَدُلّ بالإطلاق على أن المجيء موجِد ومستلزِم لطبيعي وُجُوب الإِكْرَامِ بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ (أي: لِكُلِّ أَفْرَادِ وُجُوبِ الإِكْرَامِ) فهذا لازمه انْتِفَاء هذا الطَّبِيعِيّ وعدم وُجُوب الإِكْرَامِ عند انْتِفَاء المجيء؛ إذ لو وجب الإكرام حتّى مع عدم المجيء، فهذا فرد من أفراد وُجُوب الإِكْرَامِ لم يكن المجيء موجِداً ومستلزماً له، وَهَذَا خُلْف فرض أن المجيء موجِد لتمام أفراد وُجُوب الإِكْرَامِ.

وأمّا فِي الفرض الثَّانِي (وهو أن يكون المربوط بالمجيء طَبِيعِيّ وُجُوب الإِكْرَامِ بنحو صِرْف الْوُجُودِ) فمن المعلوم أن صِرْف الْوُجُودِ مساوق للوجود الأوّل، ويتحقق دائماً به؛ لأَنَّ صِرْفَ الْوُجُودِ هو الناقض للعدم المطلق، وذلك يساوق الوجود الأوّل، فَيَكُونُ مفاد قوله: «إن جاء زيد فأكرمه» أن أوَّل وجودٍ لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ مرتبط بالمجيء، وهذا لا يكفي لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم الَّذي نحن بصدد إثباته حتّى مع انضمام الرُّكْن الأوّل إليه، سواء بصيغته المشهورة أم بصيغته الَّتي ذكرناها نحن؛ لأَنَّ المفهوم الَّذي نحن بصدد إثباته عبارة عن نفي كل وجودات وُجُوب الإِكْرَامِ بانتفاء المجيء لا نفي خصوص الوجود الأوّل منه عند انْتِفَاء المجيء، فَحَتَّى إذا ضممنا الرُّكْن الأوّل بصيغته المشهورة وافترضنا أن الرَّبْط بين المجيء وبين طَبِيعِيّ وُجُوب الإِكْرَامِ ربط لُزُومِيّ عِلِّيّ اِنْحِصَارِيّ وأن المجيء علّة تامَّة منحصرة لطبيعي وُجُوب الإِكْرَامِ، مع ذلك حيث أن المفروض فِي الرُّكْن الثَّانِي هو أن الطَّبِيعِيّ عبارة عن صِرْف الْوُجُودِ المساوق للوجود الأوّل، إذن فهذا معناه أن المجيء علّة تامَّة منحصرة للوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ، وهذا وإن كان يَسْتَلْزِم انْتِفَاء الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ عند انْتِفَاء المجيء، فلا يثبت وُجُوب الإِكْرَامِ إذا لم يجيء زيد أصلاً.

 إلاَّ أن هذا معناه ثبوت نصف الْمَفْهُوم الَّذي نحن بصدد إثباته لا تمامه، أي: أَنَّهُ يثبت الْمَفْهُوم بِالنِّسْبَةِ إلى الوجود الأوّل، فما دام لم يجئ زيد بعدُ لا يثبت أوَّل وجودٍ لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ، لكون المجيء علّة منحصرة له حسب الفرض، لكن لو فرض أَنَّهُ جاء مرّةً فوجب إكرامه، فأكرمناه وامتثلنا الحكم، ثم بعد ذلك مرض مثلاً فشككنا فِي أَنَّهُ هل يجب أيضاً إكرامه بملاك كونه مريضا أم لا؟

 فلا يمكن حينئذٍ نفي احتمال وجوب إكرامه من خلال الْمَفْهُوم المذكور؛ فَإِنَّ هذا الْمَفْهُوم إِنَّمَا ينفي الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ وَالْمَفْرُوض أن الوجود الأوّل قد تحقّق خارجاً، فغاية ما يَدُلّ عليه هذا الْمَفْهُوم هو أن الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ لا يتحقّق إلاَّ بسبب المجيء، بينما ما فرضناه هو وجود ثانٍ لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ، وهذا الْمَفْهُوم لا يتكفَّل بنفي هذا الوجود الثَّانِي؛ لأَنَّ كون المجيء عِلَّةً مُّنْحَصِرَةً للوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ، لا ينافي أن يكون المرض مثلاً عِلَّةً مُّنْحَصِرَةً للوجود الثَّانِي لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ كما هو واضح.

 فكلا الركنين على هذا الفرض لا يُثبتان الْمَفْهُوم بالمعنى الَّذي هو محلّ الكلام وَالَّذِي هو عبارة عن نفي وجوب إكرامه قبل مجيئه، وأنه إذا جاء وأكرمناه فلا يوجد سبب آخر يقتضي وجوب إكرامه بعد ذلك.

 وكذلك إذا ضممنا الرُّكْن الأوّل بصيغته الَّتي نحن ذكرناها وافترضنا أن الرَّبْط بين المجيء وبين طَبِيعِيّ وُجُوب الإِكْرَامِ ربط توقفي تعليقي التصاقي وأن طَبِيعِيّ وُجُوب الإِكْرَامِ متوقّف ومعلق على المجيء وملتصق به؛ فإِنَّهُ مع ذلك حيث أن المفروض فِي الرُّكْن الثَّانِي هو أن الطَّبِيعِيّ عبارة عن صِرْف الْوُجُودِ المساوق للوجود الأوّل.

 إذن، فهذا معناه أن الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ معلّق ومتوقف على المجيء وملتصق به، وهذا وإن كان يَسْتَلْزِم انْتِفَاء الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ عند انْتِفَاء المجيء، فلا يثبت وُجُوب الإِكْرَامِ إذا لم يجئ أصلاً، إلاَّ أن هذا معناه ثبوت الْمَفْهُوم بِالنِّسْبَةِ إلى الوجود الأوّل، فمادام لم يجئ بعدُ لا يثبت أوَّل وجودٍ لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ، لِتَوَقُّفِهِ عليه حَسَبَ الْفَرْضِ، لكن لو فرض أَنَّهُ جاء وأكرمناه، ثم مرض واحتملنا وجوب إكرامه بملاك المرض، فلا يمكن نفي هذا الاحتمال بالمفهوم المذكور؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا ينفي الوجود الأوّل والمفروض أَنَّهُ قد تحقّق خارجاً، بينما ما فرضناه هو وجود ثانٍ لا يتكفَّل بنفيه الْمَفْهُوم المذكور؛ لأَنَّ كون الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِكْرَامِ معلقا ومتوقّفاً على المجيء، لا ينافي أن يكون الوجود الثَّانِي له مُعَلَّقاً وَّمُتَوَقَّفاً على شيء آخر غير المجيء كالمرض كما هو واضح.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ على أحد الفرضين يكفي الرُّكْن الثَّانِي وحده لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم، وعلى الفرض الآخر لا يكفي كلا الركنين لإثباته.

 وأمّا الجواب والرَّدّ على هذا الإشكال فهو أن الإِطْلاَق فِي الرُّكْن الثاني القائل باشتراط أن يكون المربوط بِالطَّرَفِ مُطْلَق الْحُكْمِ وَطَبِيعِيّه لا يُقصد به شيء من المعنيين المذكورين فِي الإشكال، فلا المقصود اشتراط أن يكون المربوط بِالطَّرَفِ مطلق وجود الحكم، ولا المقصود اشتراط أن يكون المربوط بِالطَّرَفِ صرف وجود الحكم؛ فعندما يقال: إِنَّه يشترط فِي اِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ من الجملة الشَّرْطِيَّة مثلاً أن يكون المرتبط بِالشَّرْطِ مُطْلَق الْحُكْمِ لا يُقصد بالإطلاق هنا الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ، ولا الإِطْلاَق الْبَدَلِيّ؛ فالإشكال المذكور غير تامّ؛ وذلك لأَنَّهُ مبنيّ على أَنَّ الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ الاستغراقيّ يرجع إلى ملاحظة تمام الأفراد (نظير العموم الاستغراقيّ) وأن الإِطْلاَق الْبَدَلِيّ بنحو صِرْف الْوُجُودِ يرجع إلى ملاحظة الوجود الأوّل، مَعَ أَنَّ هذا كُلّه غير صحيح.

توضيح ذلك يتوقَّف على التَّنبيه على أمر قد تقدّم تحقيقه سابقاً (فِي بحث دلالة الأمر على المرَّة أو التَّكرار) فِي مقام التفريق بين الأمر وَالنَّهْي من حيث أن الإِطْلاَق فِي مُتَعَلَّق الأمر بدليّ بنحو صِرْف الْوُجُودِ، والإطلاق فِي مُتَعَلَّق النَّهْي شُمُولِيّ اِنْحِلاَلِيّ بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ، حيث ذكرنا هناك أن المطلق يختلف عن العامّ، فالمنظور فِي «العامّ» عبارة عن الأفراد، بينما «المطلق» لا نظر فيه إلى الأفراد، وإنَّما النَّظَر فيه إلى ذات الطَّبِيعَة بما هي هي، مِنْ دُونِ لحاظ شيء زائد.

 غَايَة الأَمْرِ أَنَّ هذه الطَّبِيعَة إذا حُمل عليها محمول من المحمولات، فقد يكون حمله على الطَّبِيعَة مقتضياً لتأثيره فِي جميع أفراد الطَّبِيعَة، وَقَدْ يَكُونُ حمله عليها مقتضياً لتأثيره فِي أحد أفرادها.

 والمثال الواضح لذلك عبارة عن «الأمر» و«النَّهْي»، فإذا حُمل على الطَّبِيعَة محمول من قبيل «الأمر» كقوله: «صلِّ»، فحمله عليها يقتضي تأثيره فِي أحد أفرادها؛ لأَنَّ المحمول هنا (وهو الأمر) يقتضي إيجاد طبيعة الصَّلاة، وهذا يتحقّق بإيجاد فرد واحد منها، وهذا هو ما يُسَمَّى بالإطلاق الْبَدَلِيّ بنحو صِرْف الْوُجُودِ، لا من جهة أن الإِطْلاَق هنا معناه ملاحظة صرف وجود الطَّبِيعَة المساوق للوجود الأوّل من وجوداتها؛ فإِنَّ الإِطْلاَق معناه واحد فِي جميع الموارد وليس له معنيان: شُمُولِيّ وبدلي، بل معناه عبارة عن ملاحظة ذات الطَّبِيعَة بما هي هي، مِنْ دُونِ لحاظ شيء زائد عليها، بل من جهة أن المحمول على ذات طبيعة الصَّلاة فِي المثال سنخ محمول يقتضي التَّأثير فِي أحد أفراد الطَّبِيعَة؛ لأَنَّهُ أمر بإيجادها، وهو يتحقّق بإيجاد فرد واحد منها.

 وأمّا إذا حمل على الطَّبِيعَة محمول من قبيل «النَّهْي» كقوله: «لا تكذب»، فحمله عليها يقتضي تأثيره فِي جميع أفراده؛ لأَنَّ المحمول هنا (وهو النَّهْي) يقتضي إعدام الطَّبِيعَة، وهذا لا يكون إلاَّ بإعدام جميع أفرادها، وهذا هو ما يُسمى بالإطلاق الشُّمُولِيّ أو الاستغراقيّ بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ، لا من جهة أن الإِطْلاَق هنا معناه ملاحظة مطلق وجود الطَّبِيعَة الشامل لجميع أفرادها؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق لا نظر فيه إلى الأفراد كما قلنا بخلاف العموم، ومعناه واحد فِي جميع الموارد، وهو عبارة عن ملاحظة ذات الطَّبِيعَة بما هي هي، بل من جهة أن المحمول على ذات طبيعة الكذب فِي المثال سنخ محمول يقتضي التَّأثير فِي جميع أفراد الطَّبِيعَة؛ لأَنَّهُ نهي عن إيجادها، فهو يقتضي إعدامها، وهي لا تنعدم إلاَّ بانعدام جميع أفرادها.

 وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الإِطْلاَق دائماً معناه لحاظ ذات الطَّبِيعَة مِنْ دُونِ لحاظ أيّ شيء آخر غيرها، فلا الشُّمُول لجميع الأفراد مأخوذ فيه، ولا صِرْف الْوُجُودِ المساوق للوجود الأوّل، وإنَّما الَّذي يَتَعَلَّقُ بذات الطَّبِيعَة ويُحمل عليها يختلف من موردٍ إلى آخر، فطبيعة الصَّلاة فِي «صلِّ» وطبيعة الكذب فِي «لا تكذب» لوحظتا بما هي هي ومن دون قيد زائد، والملحوظ فيهما شيء واحد، ولكن مع ذلك يكفي فِي امتثال الأمر إيجاد فرد واحد، ولا يكفي فِي امتثال النَّهْي إلاَّ ترك جميع الأفراد؛ لأَنَّ المحمول على ذات الطَّبِيعَة وَالْمُتَعَلَّق بها يختلف كما قلنا.

 وبناءًا على هذا الفهم نقول فِي المقام: إن المقصود بالإطلاق فِي الرُّكْن الثَّانِي (القائل باشتراط كون المربوط بِالطَّرَفِ مُطْلَق الْحُكْمِ لا شخصه) لَيْسَ هو الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ بنحو مطلق وجود الحكم، ولا هو الإِطْلاَق الْبَدَلِيّ بنحو صِرْف الْوُجُودِ المساوق للوجود الأوّل للحكم، فكلاهما شيء زائد على ذات الطَّبِيعَة، بل المقصود به لحاظ طبيعة الحكم بما هي هي مِنْ دُونِ لحاظ شيء زائد عليها، فيعتبر (فِي ضوء الرُّكْن الثَّانِي لاقتناص الْمَفْهُوم) أن يكون المربوط بِالطَّرَفِ طَبِيعِيّ الحكم بما هو هو، مِنْ دُونِ لحاظ شيء آخر.

 وهذا الطَّبِيعِيّ قد وقع بحسب اللّبّ والمعنى فِي الْقَضِيَّة (كالقضية الشَّرْطِيَّة مثلاً) مَوْضُوعاً لمحمول، والمحمول عبارة عن الرَّبْط (فقوله مثلاً: «إن جاء زيد فأكرمه» يرجع لُبّاً ومعنىً إلى قوله: «طَبِيعِيّ وجوب إكرام زيد مرتبط بمجيئه»)، حيث رُبط طَبِيعِيّ الحكم بطرفٍ (كالشرط مثلاً فِي الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة)، وحينئِذٍ فلا بُدَّ من ملاحظة أن المحمول على ذات طبيعة الحكم ما هو؟ هل هو سنخ محمول يقتضي التَّأثير فِي جميع أفراد الطَّبِيعَة نظير النَّهْي أم هو سنخ محمول يقتضي التَّأثير فِي أحد أفرادها نظير الأمر؟

 وهذا ما يحدّده لنا الرُّكْن الأوّل؛ فإِنَّهُ هو الَّذي يحدد الرَّبْط الَّذي يجب أن تَدُلّ الْقَضِيَّة على توفّره بين الحكم وطرفه، كي تَدُلّ على الْمَفْهُوم.

 وقد تقدّم أن الرَّبْط بين الحكم وطرفه (أي: بين الْجَزَاء والشرط مثلاً فِي الجملة الشَّرْطِيَّة) يتصوّر على أحد نحوين:

الأوّل: الرَّبْط الَّذي يَسْتَلْزِم الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ وهو الرَّبْط التَّوَقُّفِيّ.

الثَّانِي: الرَّبْط الَّذي لا يَسْتَلْزِم ذلك وهو الرَّبْط الإِيجَادِيّ الاِسْتِلْزَامِيّ.

 وحينئِذٍ إن بنينا على ما ذكرناه فِي مقام التَّعْلِيق على الرُّكْن الأوّل من ركني الضّابط الْمَشْهُور من أن استفادة المفهوم على مستوى الْمَدْلُول التَّصوُّريّ ليست متوقّفة على الأُمُور الَّتي ذكروها (وهي اللُّزُوم والعلّيّة والانحصار) بل يكفي فيها إثبات كون الجملة موضوعة (هيئةً أو أداةً) للربط التَّوَقُّفِيّ الاِلْتِصَاقِيّ، وقلنا فعلاً بأن الجملة تَدُلّ على هذا النَّحْو من الرَّبْط، إذن فطبيعي الحكم قد حمل عليه الرَّبْط التَّوَقُّفِيّ، فيرجع قولنا: «إن جاء زيد فأكرمه» إلى قولنا: «طَبِيعِيّ وُجُوب الإِكْرَامِ متوقّف على مجيء زيد».

 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا المحمول (وهو التَّوَقُّف) سنخ محمول يقتضي التَّأثير فِي جميع أفراد طَبِيعِيّ الحكم، فهو نظير النَّهْي؛ لأَنَّهُ يقتضي انعدام الطَّبِيعِيّ عند انعدام الشرط وهو المجيء؛ فَإِنَّ معنى توقّف شيء على شيء لَيْسَ إلاَّ انعدامه عند انعدامه، فَتَدُلُّ الجملة على الْمَفْهُوم وانتفاء جميع أفراد طَبِيعِيّ الحكم عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، لا من جهة أن الأفراد ملحوظة ومنظور إليها فِي الإِطْلاَق (لِما عرفتَ من أن الأفراد غير ملحوظة ولا يُنظر إليها، وإنَّما النَّظَر إلى ذات الطَّبِيعِيّ بما هو هو)، بل من جهة أن المحمول على ذات طبيعة الحكم سنخ محمول يقتضي التَّأثير فِي جميع أفراد الطَّبِيعَة، فثبوت فردٍ من أفراد الطَّبِيعِيّ عند انعدام الشرط خُلف فرض انعدام الطَّبِيعِيّ عند انعدام الشرط، وعدم انعدام الطَّبِيعِيّ عند انعدام الشرط خُلف فرض توقّف الطَّبِيعِيّ عَلَىٰ الشَّرْطِ.

 إذن، فيثبت الْمَفْهُوم فِي هَذَا الْفَرْضِ، لكن بعد ضمّ الرُّكْن الأوّل بالصيغة الَّتي ذكرناها نحن إلى الرُّكْن الثَّانِي، فلا بُدَّ (لاِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ من الجملة الشَّرْطِيَّة مثلاً) من أن تَدُلّ الجملة عَلَى الرَّبْطِ التَّوَقُّفِيّ بين الْجَزَاء والشرط (أي: توقّف الْجَزَاء عَلَىٰ الشَّرْطِ) وهذا هو الرُّكْن الأوّل بالصيغة المتبنّاة عندنا، ولا بُدَّ أيضاً من أن تَدُلّ على أن الْجَزَاء الْمُتَوَقَّف عَلَىٰ الشَّرْطِ عبارة عن طَبِيعِيّ الحكم لا شخصه، وهذا هو الرُّكْن الثَّانِي.

 إذن، ففي هذا الفرض لم نستغنِ عن الرُّكْن الأوّل، ولم يكف الرُّكْن الثَّانِي وحده لاِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo