< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

31/03/12

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الوجه الثَّالث: أن نفترض فِعْلِيَّة كل من «قصد الحكاية» و«نفس الأمر» دون «الْمَحْكِيّ عَنْهُ».

 وفي هذا الفرض يكون الْجَزَاء هو الْمَحْكِيّ عَنْهُ وهو المنوط والمرتبط بِالشَّرْطِ، لكن الحكاية عنه ليست منوطة ومرتبطة بِالشَّرْطِ، بل هي ثابتة بالفعل. فلو قال مثلاً: «إن جاء زيد صافحته» كان مقصوده الإخبار الفعلي المطلق عن خصوص تلك الْحِصَّة من المصافحة الَّتي هي منوطة ومشروطة بالمجيء. فلو لم يجيء زيد لكان هذا الشخص كاذباً؛ إذ سوف لا يصافح تلك المصافحة الَّتي تكون ثابتة عند مجيء زيد ولو لعدم المجيء. فَيَكُونُ مرجع الْقَضِيَّة إلى الإخبار بالجزاء عند تحقّق الشرط إخباراً حَتْمِيّاً. أي: أن مقصود الْمُتِكَلِّم هو الكشف والحكاية عن تحقّق الْجَزَاء فِي الخارج حتماً، بحيث يكون زمان تحقّق الشرط فِي الخارج ظَرْفاً لتحقّق الْجَزَاء فِي الخارج، مِنْ دُونِ أن يكون نفس الكشف والحكاية مشروطاً بوجود الشرط، فَيَكُونُ مرجع قوله مثلاً: «إذا جاء زيد جاء ابنه معه» إلى قوله: «سوف يجيء ابن زيد حتماً فِي ظرف مجيء أبيه»؛ فهي حكاية فِعْلِيَّة ثابتة بنحو التَّنْجِيز عن مجي الابن فِي المستقبل.

 ولذا فإن تحقّقَ الْجَزَاء عند تحقّق الشرط - فِي الخارج فِي وقت من الأوقات - كان الكلام صَادِقاً، وإلا فهو كذب، وهذا هو الفرق بين هذا الوجه وبين الوجهين السابقين، حيث لم يكن يلزم الكذب فيهما بصرف عدم تحقّق الشرط والجزاء، أَمَّا فِي هذا الوجه فيلزم الكذب فيما إذا لم يتحقّق الشرط؛ لأَنَّ له حكاية فِعْلِيَّة عن مجيء الابن عند مجيء الأب. فلو أن الأب لم يأت، كانت هذه الحكاية كاذبة؛ لأَنَّهَا حكاية عن أمر استقبالي لم يقع.

 وفي هذا الفرض من الواضح أيضاً (كالفرض الأوّل) عدم سريان الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ إلى مدلوله التَّصديقيّ؛ لأَنَّ المفروض هو أن الحكاية وإن كان مصبها هو الْجَزَاء، لٰكِنَّهَٰا ثابتة فعلاً وعلى نحو التَّنْجِيز كما قلنا. فَالْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ وإن كان مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ، لكن مدلوله التَّصديقيّ (وهو الإخبار والحكاية عن الجزاء) فعليّ وليس مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ.

 ولا يخفى أن هذا الفرض خلاف الظَّاهِر؛ لأَنَّ مصبّ الدِّلاَلَة التصديقية والدِّلالة التَّصوُّريَّة واحد وهو الْجَزَاء (كمجيء الابن مع الأب فِي المثال) وبالرغم من ذلك أصبحت الدلالتان مختلفتين من حيث الفعليّة والربط، فكانت الدِّلاَلَة التصديقية (أي: الإخبار عن الْجَزَاء) فِعْلِيَّة غير مرتبطة بِالشَّرْطِ، لكن الدِّلاَلَة التَّصوُّريَّة (أي: نفس الْجَزَاء) مرتبطة بِالشَّرْطِ وليست فِعْلِيَّة. وهذا خلاف ما تقتضيه أصالة التَّطَابُق بين الْمَدْلُول التَّصوُّريّ والمدلول التَّصديقيّ، فكون الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ ومدلوله التَّصديقيّ فعليّاً غير منوط بِالشَّرْطِ خلاف التَّطَابُق بينهما، فكان المفروض أن يسري الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّريّ إلى الْمَدْلُول التَّصديقيّ، مع أَنَّهُ لا سراية كما قلنا.

 فهذا دليل لمّيّ (أي: الاستدلال بالعلة على المعلول) على كون هذا الفرض خلاف الظَّاهِر؛ فَإِنَّ اتحاد مصبّ الدِّلاَلَتَيْنِ التَّصوُّريَّة وَالتَّصْدِيقِيَّة علّة تقتضي وتوجب ظهور الكلام فِي سريان الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّريّ إلى الْمَدْلُول التَّصديقيّ. وحيث أن هذا الفرض لا سريان فيه كما قلنا، إذن فهو خلاف الظَّاهِر.

 وهناك دليل إنّيّ (أي: الاستدلال بِالْمَعْلُولِ عَلَىٰ الْعِلَّةِ) أيضاً على كون هذا الفرض خلاف الظَّاهِر، وهو أن مَن تكلم بجملة شرْطِيَّة، فَسَوْفَ لا يكّذبه أحد بصرف عدم تحقّق طرفيها فِي الخارج إلى الأبد؛ فَإِنَّ العرف لو سمع هذه الجملة (كقولنا: «إن جاء زيد جاء ابنه معه») فَسَوْفَ لا يتّهم الْمُتِكَلِّم بالكذب فيما إذا لم يتحقّق الشرط ولم يأت الأبد، بينما على هذا الفرض يلزم الكذب كما قلنا، وليس عدم التكذيب عرفاً إلاَّ من جهة عدم ظهور الجملة الشَّرْطِيَّة فِي هَذَا الْفَرْضِ الثَّالث وعدم وفائها ببيان ما يقوله الوجه الثَّالث، فمن عدم التكذيب عرفاً نفهم أن ظاهر الجملة الشَّرْطِيَّة شيء آخر غير الوجه الثَّالث. وأن هذا الوجه خلاف الظَّاهِر.

 وعلى كل حال فَحَيْثُ أَنَّ هذا الوجه خلاف الظَّاهِر، إذن فهو بحاجة إلى قرينة.

 هذا تمام الكلام فِي النَّحْو الأوّل وهو أن يكون الْجَزَاء جملة خبرية، وقد اتَّضَحَ أن المناطَ فِي سراية الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ إلى مدلوله التَّصديقيّ فِي هذا النَّحْو من القضايا الشَّرْطِيَّة عبارة عن أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّة على نحو الوجه الثَّانِي من هذه الوجوه الثَّلاثة، أي: أَنْ يَكُونَ قصد الحكاية فعليّاً دون نفس الحكاية والمحكي عنه.

 وبعبارة أخرى: يكون الْمَدْلُول التَّصديقيّ مُوَازِياً لمفاد الْجَزَاء، لا مُوَازِياً لمفاد هيئة الجملة الشَّرْطِيَّة.

وأمّا فِي النَّحْو الثَّانِي (وهو ما إذا كانت جملة الجزاء فِي الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة جملة إنشائية كقولنا: «إن جاء زيد فأكرمه») فَحَيْثُ أَنَّ الْمَدْلُول التَّصديقيّ لِلْجَزَاءِ حينئذٍ عبارة عن الإنشاء (الَّذي هو الطّلب وإيجاب الإكرام فِي المثال) فبالإمكان هنا أيضاً تصوير الْقَضِيَّة بوجهين:

الوجه الأوّل: أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُول التَّصديقيّ للكلام مُوَازِياً وَمُطَابقاً لمفاد هيئة الجملة الشَّرْطِيَّة ككلّ، ومفادها عبارة عن الرَّبْط بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ، بِأَنْ يَّكُونَ المقصود الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ فِي المثال المذكور الإخبار عن الرَّبْط بين طلب الإكرام وإيجابه وبين المجيء، فحينئذٍ تكون جملة الْجَزَاء متمحّضة فِي الْمَدْلُول التَّصوُّريّ (وهو وُجُوب الإِكْرَامِ)، ولا يكون فِي عالم الْمَدْلُول التَّصديقيّ ما يوازي هذا الْمَدْلُول التَّصوُّريّ؛ لأَنَّ مصبّ القصد رأساً هو الكشف عن النِّسْبَة الثَّابِتَة بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ بما هي معنى حرفي.

 وبعبارة أخرى: يكون المقصود الكشف عن ذات الرَّبْط وبيان أن الْجَزَاء مرتبط بِالشَّرْطِ.

 وفي مثل هذا الفرض لا إِشْكَال فِي أَنَّهُ لا يسري الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ إلى الْمَدْلُول التَّصديقيّ؛ لأَنَّ الْمَدْلُول التَّصديقيّ عبارة عن الإخبار عن الرَّبْط، وليس عبارة عن ما يوازي الْجَزَاء المرتبِط بِالشَّرْطِ. أي: لَيْسَ المدلول التَّصديقيّ فِي المثال عبارة عن طلب الإكرام وإيجابه حقيقةً، بل هو عبارة عن أن طلب الإكرام ووجوبه مرتبط بالمجيء، فكيف يسري الرَّبْط إليه؟ فإن الرَّبْط إِنَّمَا يمكن أن يسري إلى المدلول التَّصديقيّ فيما إذا كان الْمَدْلُول التَّصديقيّ مُوَازِياً وَمُطَابقاً لمفاد الْجَزَاء الَّذي هو المرتبِط بِالشَّرْطِ؛ فَالْمَدْلُولُ التَّصديقيّ للجملة فِي هَذَا الْفَرْضِ غير مرتبِط بشيء، وبهذا اللِّحَاظ تكون الجملة حينئذٍ خبرية وتنسلخ عن كونها إنشائية رغم كون جملة الْجَزَاء إنشائية؛ لأَنَّ مرجع الجملة بلحاظ مدلولها التَّصديقيّ حينئذٍ إلى الحكاية عن ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ، فتكون خبرية، ولذا فَسَوْفَ يكون هذا الفرض خلاف الظَّاهِر؛ لأَنَّهُ يلزم منه سلخ الْقَضِيَّة عن كونها إنشائية حينما يكون الْجَزَاء إنشائيّاً، وهذا دليل على أَنَّهُ فِي النَّحْو السَّابِقَ (أي: فيما تكون جملة الْجَزَاء فِي الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة جملة خبرية) يكون الظَّاهِر الْعُرْفِيّ هناك أيضاً عبارة عن أن مصبّ القصد هو الكشف عن النِّسْبَة الثَّابِتَة فِي الْجَزَاء.

 وإن شئت قلت: إن الظَّاهِر عرفاً من الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة هو كون مصبّ القصد الكشف عن النِّسْبَة الثَّابِتَة فِي الْجَزَاءِ على تقدير الشرط، لا الكشف عن النِّسْبَة والربط بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ بدليل ما نراه من أن الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة تتبع (فِي كونها خبرية أو إنشائية) الجزاءَ، وليست دائمة خبرية، فحينما يكون الْجَزَاء إنشائيّاً تكون الْقَضِيَّة إنشائية لا تحتمل الصدق والكذب.

اللهم إلاَّ أن يناقش فِي هذا الدَّلِيل بأن تَبَعِيَّة الجملة الشَّرْطِيَّة لِلْجَزَاءِ فِي الإنشائية والإخبارية صحيحة حتّى لو افترضنا أن مصبّ الدِّلاَلَة التصديقية ومصب القصد عبارة عن الكشف عن الرَّبْط بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ وذلك لأَنَّ النُّكتة فِي الإنشائية الإنشاءَ والإخبارية الإخبارَ هي أن مفاد الخبر هو ما فِي النَّفس من قصد الكشف عن الواقع؛ فَإِنَّ طابَق الكشفُ الواقع كان صَادِقاً، وإلا كان كَاذِباً. وأمّا الإنشاء كالطلب، فبما أن نفس المنكشَف موجود فِي نفس الْمُتِكَلِّم، أصبح مفاده عرفاً نفس هذا المنكشف كالطلب، لا قصد الكشف عنه، ولذا لا يحتمل فيه الصدق والكذب. وأمّا الرَّبْط بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فهو حينما يكون الْجَزَاء خارجيا خارجي، فتكون الدِّلاَلَة التصديقية عبارة عن قصد الكشف عن ذاك الرَّبْط الخارجيّ، فتكون الْقَضِيَّة خبرية، وأمّا حينما يكون الْجَزَاء ثابتاً فِي النَّفس كالطلب فهو أيضاً ثابت فِي النَّفس، فتكون الدِّلاَلَة التصديقية عبارة عن نفس الرَّبْط لا قصد الكشف عنه، فتكون الْقَضِيَّة إنشائية.

 وعليه، فما ذُكر من «أن كون مصبّ الدِّلاَلَة التصديقية هو الرَّبْط بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ خلاف الظَّاهِر حينما يكون الْجَزَاء إنشائيّاً؛ إذ يلزم منه سلخ الْقَضِيَّة عن كونها إنشائية» غير تامّ؛ فَإِنَّ الظَّاهِر من الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة - كما سيأتي قَرِيباً إن شاء الله تعالى - هو كون مصبّ الدِّلاَلَة التصديقية فيها عبارة عن الرَّبْط بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَزَاء إنشائيّاً أم كان خَبَرِيّاً؛ وذلك لأَنَّ النِّسْبَة الموجودة فِي داخل الْجَزَاء (سواء كانت نسبة تصادقية كما لو فرض الْجَزَاء جملة خبرية، أم كانت نسبة إنشائية طَلَبِيَّة) حيث أنَّها بحسب عالَم الدِّلاَلَة التَّصوُّريَّة طرف لِلرَّبْطِ وَالنِّسْبَة الربطة بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فجعلُها محوراً فِي عالَم الدِّلاَلَة التصديقية والقول بأن «مصبّ هذه الدِّلاَلَة والقصد هو الكشف عن النسبة الثَّابِتَة فِي الْجَزَاءِ على تقدير الشرط لا النِّسْبَة والربط بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ» خلافُ أصالة التَّطَابُق بين العالَمين. فَالظَّاهِر أن مصبّ الدِّلاَلَة التصديقية هو الرَّبْط وَالنِّسْبَة الربطية، كي تبقى النِّسْبَة الجزائية الثَّابِتَة فِي داخل الْجَزَاء طرفاً لِلرَّبْطِ فِي كلا العالَمين: «عالم الدِّلاَلَة التَّصوُّريَّة» و«عالم الدِّلاَلَة التصديقية».

 وَكَيْفَ كَانَ، فلنرجع إلى ما كُنَّا بصدده وهو أن الْمَدْلُول التَّصديقيّ للكلام إذا كان مُوَازِياً لمفاد هيئة الجملة الشَّرْطِيَّة وَالَّذِي هو عبارة عن الرَّبْط بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ لم يكن لِلْجَزَاءِ فِي عالَم الْمَدْلُول التَّصديقيّ ما يوازي مدلوله التَّصوُّريّ بل يكون الْجَزَاء مُتَمَحّضاً فِي مدلوله التَّصوُّريّ الَّذي هو إنشائي حَسَبَ الْفَرْضِ.

 وحينئِذٍ فقد يقال: إن هذا ينافي أصالة التَّطَابُق بين الْمَدْلُول التَّصوُّريّ والمدلول التَّصديقيّ الَّتي تقتضي فِي المقام أن يكون الْمَدْلُول التَّصديقيّ أيضاً إنشائيّاً. أي: أَنْ يَكُونَ ما يُفاد بهذا الكلام عبارة عن إيجاب الإكرام (فِي المثال)، لا عبارةً عن الرَّبْط بين إيجاب الإكرام ومجيء زيد.

إلاَّ أَنَّهُ يرد على هذا الكلام أن أصالة التَّطَابُق هذه إِنَّمَا تكون فيما إذا كان الْمَدْلُول التَّصديقيّ مُوَازِياً لمفاد جملة الْجَزَاء وَمُطَابقاً للمدلول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ، وهذا عكس فرض محلّ الكلام.

الوجه الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُول التَّصديقيّ للكلام مُوَازِياً وَمُطَابقاً لمفاد جملة الْجَزَاء، الَّذي هو عبارة عن الطّلب، بِأَنْ يَّكُونَ المقصود الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ فِي المثال المذكور هو إيجاب الإكرام وطلبه (لا الرَّبْط بين إيجابه وبين مجيء زيد كما كان يُفترض فِي الوجه الأوّل). فمصبّ القصد هنا ذات الطّلب. فحينئذٍ تكون جملة الْجَزَاء ذات مدلول تصديقي أيضاً بالإضافة إلى مدلولها التَّصوُّريّ المرتبِط بِالشَّرْطِ، وفي مثل هذا الفرض حيث أن الْمَدْلُول التَّصديقيّ للكلام عبارة عن الطّلب والوجوب، وبما أن الوجوب له مرحلتان: مرحلة الجعل ومرحلة المجعول:

فتارة يقصد الْمُتِكَلِّم ربط الجعل والمجعول معاً بِالشَّرْطِ وتقييدهما به، فإن هذا أمر ممكن وله أن يقصده، بحيث ما لم يتحقّق مجيء زيد فِي المثال لا يوجد حكم وجعل وإنشاء أصلاً. وهذا معناه أن الرَّبْط سارٍ من الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ إلى مدلوله التَّصديقيّ، فَيَكُونُ الْمَدْلُول التَّصديقيّ وهو الحكم والجعل والإنشاء مرتبِطاً بِالشَّرْطِ ومنوطاً به كما أن الْمَدْلُول التَّصوُّريّ مرتبط ومنوط به.

وأخرى يقصد ربط المجعول بِالشَّرْطِ دون الجعل؛ فإِنَّهُ أيضاً ممكن وله أن يقصده، بحث يكون الجعل ثابتاً بالفعل غير مرتبط ومقيّد بِالشَّرْطِ. أي: أَنَّهُ حتّى قبل تحقّق المجيء فِي المثال يكون الحكم والإنشاء وجعل الوجوب ثابتاً، لكن المجعول وهو نفس الوجوب مرتبط ومنوط بالمجيء ومقيّد به، وهذا معناه أن الرَّبْط غير سارٍ إلى الْمَدْلُول التَّصديقيّ لِلْجَزَاءِ؛ لأَنَّ المفروض أن الْمَدْلُول التَّصديقيّ (وهو الجعل والإنشاء والحكم) ثابت فِعلاً قبل تحقّق الشرط، فهو غير مرتبط وغير مقيَّد بِالشَّرْطِ، وإنَّما المجعول (وهو نفس الوجوب) مقيَّد ومرتبط بِالشَّرْطِ.

 نعم بما أن المجعول لَيْسَ له وجود آخر وراء الجعل (لما تحقّق فِي محلّه من أن المجعول عين الجعل) فلا محالة يكون الرَّبْط والتقييد بِالشَّرْطِ صُورِيّاً وليس رَبْطاً حقيقيّاً، بمعنى كَوْن الشَّرْط سبباً حقيقةً لوجود المجعول؛ إذ لا وجود ولا ثبوت للمجعول حقيقةً عند ثُبُوت الشَّرْطِ؛ لأَنَّهُ لا وجود للأحكام وراء عالم الجعل.

والحاصل أن ربط المجعول وتقييده بِالشَّرْطِ إِنَّمَا هو ربط وتقييد صوريّ. أي: أن مرجع ربط المجعول وتقييده بِالشَّرْطِ إلى التحصيص، بمعنى أن الثَّابِت فعلاً هو جعل خاصّ ومجعول خاصّ متخصِّص بخصوصية ناشئة من اعتبار الشرط.

هذا بِالنِّسْبَةِ إلى القضايا الحقيقيَّة الَّتي يكون للوجوب فيها مرحلة جعل ومرحلة مجعول، والقضايا الحقيقيَّة هي الَّتي تشكل أغلب القضايا فِي أحكام الشّريعة، وقد عرفت أن المتعيَّن فيها هو النَّحْو الثَّانِي الَّذي يرجع إلى التحصيص، فلا الجعل مقيَّد ومرتبِط بِالشَّرْطِ، ولا المجعول له وجود آخر (وراء الجعل) يكون مسبَّباً حقيقةً عن وجود الشرط، بل الثَّابِت فعلاً جعل خاصّ كما قلنا.

وأمّا بِالنِّسْبَةِ إلى القضايا الخارجية فكما يمكن فرض كون الجعل والمدلول التَّصديقيّ غير مرتبط وغير مقيِّد بِالشَّرْطِ (كما هو الغالب) كذلك يمكن فرض كونه مُرْتَبِطاً ومقيدا به، بحيث لا جعل أصلاً قبل وجود الشرط.

هذا تمام الكلام فِي النَّحْو الثَّانِي وهو أن يكون الْجَزَاء جملة إنشائية، وقد اتَّضَحَ أن المناط فِي سراية الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ إلى مدلوله التَّصديقيّ عبارة عن كون الْقَضِيَّة على نحو الوجه الثَّانِي وهو أن يكون الْمَدْلُول التَّصديقيّ للقضية مُوَازِياً وَمُطَابقاً لمفاد جملة الجزاء الَّذي هو عبارة عن الطّلب، على أن يكون المقصود ربط الجعل والمجعول معاً بِالشَّرْطِ وتقييدهما به بحيث لا يكون هناك طلب وجعل أصلاً قبل تحقّق الشرط كما تقدّم، لا أن يكون الْمَدْلُول التَّصديقيّ لكلامه مُوَازِياً لمفاد هيئة الجملة الشَّرْطِيَّة.

 إذن، تلخص من جميع ما ذكرناه أن ربط الْمَدْلُول التَّصديقيّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وعدم ربطه به كليهما ممكن ومعقول، والأمر بيد الْمُتِكَلِّم، بِأَنْ يَّكُونَ الْمَدْلُول التَّصديقيّ لكلامه مُوَازِياً وَمُطَابقاً لمفاد جملة الْجَزَاء (سَوَاءٌ كَانَ الْجَزَاء جملة خبرية أو إنشائية) لا أن يكون مُوَازِياً وَمُطَابقاً لمفاد هيئة الجملة الشَّرْطِيَّة.

وإن شئت قلت: عندما يكون الْمَدْلُول التَّصديقي للقضية مُوَازِياً وَمُطَابقاً لمفاد هيئة الجملة الشَّرْطِيَّة لا يسري الرَّبْط إلى الْمَدْلُول التَّصديقيّ، وعندما يكون مُوَازِياً لمفاد الْجَزَاء فَالظَّاهِر السريان.

 يبقى علينا أن نبحث عن أن أيّهما هو الظَّاهِر من الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة؟ هل الظَّاهِر منها أن مدلولها التَّصديقيّ موازٍ ومطابق لمفاد هيئة الجملة الشَّرْطِيَّة، أم أن الظَّاهِر منها هو أن مدلولها التَّصديقيّ موازٍ ومطابق لمفاد الْجَزَاء؟

 قد يقال: إن الظَّاهِر هو الثَّانِي؛ لأَنَّهُ الَّذي تقتضيه أصالة التَّطَابُق بين الإثبات والثُّبوت؛ وذلك لأَنَّ الأوّل يخالف مقتضى أصالة التَّطَابُق بين عالَم الثُّبوت (أي: الْمَدْلُول التَّصديقيّ الْجِدِّيّ للكلام) وبين عالَم الإثبات (أي: الْمَدْلُول التَّصوُّريّ للكلام) وذلك لأَنَّنَا بحسب عالَم الإثبات نرى أن الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ مرتبط ومنوط بِالشَّرْطِ (لما تقدّم من دلالة الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة على ربط الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ) ونرى أيضاً بحسب عالَم الإثبات أن الْمَدْلُول التَّصوُّريّ لِلْجَزَاءِ (فيما إذا كان الْجَزَاء جملة إنشائية) عبارة عن «النِّسْبَة الإِرْسَالِيَّة».

 وعليه فمقتضى أصالة التَّطَابُق بين الإثبات والمدلول التَّصوُّريّ وبين عالَم الثُّبوت والمدلول التَّصديقيّ الْجِدِّيّ للكلام هو أن يكون الْمَدْلُول التَّصديقيّ مُوَازِياً لمفاد نفس الْجَزَاء. أي: أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُول التَّصديقيّ الْجِدِّيّ للكلام عبارة عن الإرسال وَالطَّلَب المنوط والمرتبِط بتحقّق الشرط، لا أن يكون مُوَازِياً لمفاد هيئة الجملة الشَّرْطِيَّة؛ إذ لو كان كذلك، بحيث كان الْمَدْلُول التَّصديقيّ الْجِدِّيّ للكلام عبارة عن الرَّبْط بين الطّلب والشرط، لم يكن حينئذٍ مرتبِطا ومنوطا بِالشَّرْطِ؛ لوضوح أن الرَّبْط بين الْجَزَاء والشرط لَيْسَ مَنُوطاً ومرتبِطاً بِالشَّرْطِ، وكان الْمَدْلُول التَّصديقيّ حينئذٍ مخالفاً للمدلول التَّصوُّريّ المذكور، وهذا ما ينافي وتنفيه أصالة التَّطَابُق بين الْمَدْلُول التَّصوُّريّ والمدلول التَّصديقيّ.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo