< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/03/18

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الأدلة المحرزة/الدليل الشرعي/الدليل الشرعي اللفظي/دلالة الدليل/المفاهيم/مفهوم الوصف

 كان الكلام في التقريب الثاني فتقدم أنه بناء على هذا التقريب أن المولى العرفي حينما يبتلي بتشريع من هذا القبيل (بحيث يرى أن كل واحد من صنفي الفقير - أعني: صنف العادل وصنف غير العادل - له ملاك خاصّ لجعل وجوب الإكرام له) فسوف لا يجعل جعلين، بل يكتفي بجعل واحد على نهج القضية الكلّيّة ويقول: «أكرم الفقير»؛ لأن الجعل المتعدد لغو حينئذٍ عرفاً، فدفعاً لمحذور اللغوية العرفية يكتفي بجعل واحد كلي؛ لأنه سوف يصل بذلك إلى نفس النتيجة العملية التي يتوخاها من الجعل المتعدد.

 إذن، فباعتبار هذه القرينة العرفي يُنفى احتمال ثبوت الحكم على ذات الفقير بنحو الموجبة الكلّيّة، وتكون الجملة الوصفية القائلة «أكرم الفقير العادل» دالةً بالدلالة التصديقة على عدم كون وجوب الإكرام ثابتاً بنحو الموجبة الكلّيّة لذات الفقير، وبالتالي (تقرير وإعداد: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه) دالة على المفهوم بنحو السالبة الجزئية. أي: على أن بعض الفقير غير العادل لا يجب إكرامه.

والنكتة في كون وجوب الإكرام ثابتاً لكل فقير بنحو الموجبة الجزئية هي أن هذا الوجوب:

 إما أن يكون بنحو الجعل المتعدّد (بأن يُجعل وجوبٌ لإكرام الفقير العادل، ويُجعل وجوب آخر لإكرام الفقير غير العادل) فيلزم محذور اللغوية العرفية التي ذكرناها.

 وإما أن يكون بنحو الجعل الواحد الذي أُبرز بالخطاب من خلال الجملة الوصفية القائلة: «أكرم الفقير العادل». فيلزم محذور مخالفة ظهور الخطاب من خلال الجملة الوصفية القائلة: «أكرم الفقير العادل»، فيلزم محذور مخالفة ظهور الخطاب في دخل الوصف المذكور إثباتاً في الجعل المبرَز به ثبوتاً.

فدفعاً لكلا المحذورين وبقرينة أن المتكلم لا يلغو وبقرينة تطابق كلامه إثباتاً مع مراده ثبوتاً، تدل الجملة الوصفية على عدم كون وجوب الإكرام ثابتاً بنحو الموجبة الكلّيّة، وبالتالي تدل على المفهوم بنحو السالبة الجزئية، كما هو واضح.

 إذن، فالمفهوم بنحو السالبة الجزئية يمكن إثباته للوصف على مستوى المدلول التصديقي.

 وأما المفهوم بنحو السالبة الكلّيّة، أي: عدم ثبوت الحكم في جميع موارد انتفاء الوصف بحيث يدل قولنا: «أكرم الفقير العادل» على أن كل فقير غير عادل لا يجب إكرامه - وهو المفهوم المطلوب في هذا البحث - فلا يمكن إثباته للوصف على مستوى الدلالة التصديقية أيضاً، كما لم يمكن إثباته على مستولى الدلالة التصورية كما رأينا؛ وذلك لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم في بعض موارد انتفاء الوصف أي محذور، لا محذور اللغوية العرفية، ولا محذور مخالفة ظهور الخطاب في دخل الوصف المذكور إثباتاً في الجعل ثبوتاً، ففي مثالنا المتقدم لو فرضنا أن وجوب الإكرام (تقرير وإعداد: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه) ثابت أيضاً لبعض الفقراء غير العدول، بأن نفترض أن هناك جعلين:

أحدهما: جعل وجوب الإكرام للفقير العادل، وهو الجعل المبرَز بالجملة الوصفية القائلة: «أكرم الفقير العادل».

ثانيهما: جعل وجوب الإكرام للفقير الهاشمي غير العادل.

 فسوف لا يلزم من ذلك لا محذور لغوية هذا الجعل المتعدد؛ لوضوح أن كل جعل له ملاك خاصّ، فملاك الأول العدالة، وملاك الثاني السيادة. ولا يمكن للمولى أن يتوصّل من خلال جعل واحد إلى نفس النتيجة العملية التي يتوخاها من هذين الجعلين، ولا محذور مخالفة ظهور الخطاب في دخل الوصف المذكور إثباتاً - وهو وصف العدالة في الجملة الوصفية المذكورة - في الجعل ثبوتاً، لفرض تعدد الجعل.

 فالجعل الذي أُبرز بالخطاب بالجملة الوصفية يكون وصف العدالة دخيلاً فيه ثبوتاً وفقاً لأصالة التطابق بين الإثبات والثبوت، والجعل الآخر الذي لم يُبرَز هنا يكون وصف السيادة دخيلاً فيه.

 إذن، فما دام لا يلزم من ثبوت الحكم في بعض موارد انتفاء الوصف شيء من المحذورين، فلا توجد قرينة تدل بموجبها الجملة الوصفية على عدم ثبوت الحكم في جميع موارد انتفاء الوصف، وهذا يعني أن الجملة لا تدل على المفهوم بنحو السالبة الكلّيّة.

 وهكذا نعرف أن الطريق الثاني لاقتناص المفهوم واستفادته - وهو أن يقال بدلالة الكلام دلالةً تصديقية على ما يستلزم المفهوم - أيضاً لا يمكن سلوكه في الجملة الوصفية كما رأينا.

 ومما ذكرناه نعرف أن ما قد يقال من أنه لو لم يكن للوصف مفهوم فذِكر الوصف يصبح لغواً، فقد اتضح جواب هذا التوهّم بأن قيد العدالة ليس لغواً فقد ذكره المتكلم لبيان مطلب لو لم يذكره لما كان المطلب واضحاً، لكن دفع محذور اللغوية لا ينحصر في أن نقول بأن الكلام يدل على المفهوم؛ لأنه يكفي أن يكون بعض الفقير غير العادل لا يجب إكرامه، وهو الفقير الفاسق غير الهاشمي؛ ولذلك قال: «أكرم الفقير العادل». فذكر هذا القيد (العدالة) ليس لغواً وفي نفس الوقت لا مفهوم له ولا يجب أن نقول: لا يجب إكرام كل فقير غير العادل.

 إذن، اتضح أن البيان الصحيح والمختار عندنا لإثبات أن الوصف لا مفهوم له هو هذا البيان الذي ذكرناه خلال هذه الأيام التي خلت. (تقرير وإعداد: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه) وكان يتلخص في أن الجملة الوصفية لا هي دالة بالدلالة التصورية على الربط التوقفي الذي ينتج المفهوم، ولا هي دالة بالدلالة التصديقية على أن الوصف علّة منحصرة للحكم. إذن، فلا دلالة للوصف على المفهوم.

 هذا تمام الكلام في البيان الصحيح عندنا لإثبات عدم دلالة الوصف على المفهوم.

 وأما الأصحاب فكل واحد منهم ذكر وجهاً لإثبات عدم المفهوم للوصف، نذكر في المقام أهمها:

الوجه الأول: ما جاء في كلمات المحقق العراقي ره من أن الجزاء والحكم في القضية الشرطية مطلق عند العرف، بمعنى أن مطلق وجوب إكرام الفقير مثلاً في قولنا «إن كان الفقير عادلاً فأكرمه» معلّق على الشرط (أي: العدالة)، فبانتفاء الشرط ينتفي مطلق الحكم، وهذا هو المفهوم.

 وأما في القضية الوصفية فليس الجزاء والحكم مطلقاً ولا مقيّداً، بل هو في نظر العرف مهمل، بمعنى أن ذات وجوب إكرام الفقير مثلاً - في قولنا: «أكرم الفقير العادل» - على إهماله مرتبط ومقيّد بالعدالة، ولا يوجد إطلاق يدل على أن مطلق وجوب إكرام الفقير مرتبط ومقيّد بالعدالة كي ينتفي مطلق الحكم بانتفاء الوصف.

والنكتة في كون الحكم - في القضية الوصفية - مهملاً وفي القضية الشرطية مطلقاً هي أن الحكم إذا لوحظ بالقياس إلى موضوعه (أي: متعلّقه) فهو لا يُلحَظ عند العرف وأبناء اللغة مطلقاً، ولا يُلحظ عندهم مقيَّداً، بل يُلحظ - بحسب البناء العرفي واللغوي مهملاً على نهج القضية المهملة، ولذا فلا يجري الإطلاق في الحكم بلحاظ متعلّقه؛ لأنه بلحاظ متعلّقه مهمل لا مطلق ولا مقيّد، وهذا هو السر في عدم ثبوت المفهوم للجملة اللّقبيّة، كقولنا: «أكرم زيداً» وقولنا: «إكرام زيد واجب»؛ فإن مقدمات الحكمة لا تجري في الوجوب (في هذه الجملة) بلحاظ متعلّقه (وهو إكرام زيد) ولا تدل على أن مطلق الوجوب وكلّ حصصه ثابتة لإكرام زيد، ولذلك لا تدل على المفهوم (أي: على انتفاء سنخ الوجوب عن غير إكرام زيد وعن إكرام غير زيد). فلا تدل الجملة المذكورة على أن غير الإكرام ليس بواجب ولا على أن إكرام غير زيد ليس بواجب، مع أن من الواضح أنه لو كانت تجري مقدمات الحكمة في الوجوب بلحاظ متعلّقه وكانت تدل على أن مطلق الوجوب ثابت لإكرام زيد، لكان للجملة مفهوم بلا إشكال، وكانت حينئذٍ بمثابة قولنا: «إكرام زيد كل الواجب».

 إذن، فالبناء العرفي واللغوي قائم على لحاظ الحكم والمحمول بالقياس إلى الموضوع مهملاً، وهذا البناء هو الذي دعى أرسطو واضع علم المنطق إلى عدم تقسيم القضية بلحاظ محمولها إلى كلّية وجزئية؛ وذلك تأثّراً بالوضع اللغوي والعرفي، وخلطاً بين اللغة والعرف وبين المنطق.

وفي ضوء ذلك فإذا لاحظنا الحكم (= الوجوب) في القضية الوصفية في المثال المتقدم (= أكرم الفقير العادل) بالقياس إلى الموضوع (وهو إكرام الفقير) نرى أنه مهمل عرفاً، فلا يجري فيه الإطلاق، كما لا يجري في القضية اللّقبيّة، فلا دلالة فيها على أن مطلق الوجوب مرتبط ومقيّد بالعدالة كي ينتفي مطلق الوجوب بانتفائها ويثبت المفهوم.

وأما النكتة في كون الحكم في القضية الشرطية مطلقاً، فهي أن الحكم إذا لوحظ بالقياس إلى غير موضوعه ومتعلّقه، كالشرط مثلاً فلا يوجد بناء نوعي عرفي ولغوي على لحاظه مهملاً، وبالتالي فلا مانع من إجراء مقدمات الحكمة فيه بلحاظ الشرط. فيقال: إن سنخ الحكم معلّق على الشرط؛ لأنه يوجد في الحقيقة في الجملة الشرطية - كقولنا: إذا كان الفقير عادلاً فأكرمه - نسبتان:

إحداهما: نسبة الحكم (وهو الوجوب) إلى موضوعه (وهو الفقير الواجب إكرامه).

والأخرى: نسبة الحكم إلى شرطه (وهو العدالة) وذاك البناء النوعي العرفي واللغوي الذي ذكرناه إنما كان يقتضي إهمال الحكم في النسبة الأولى، ولا يقتضي إهماله في النسبة الثانية.

 فيحكم بأن مطلق وجوب إكرام الفقير معلّق على الشرط، فينتفي بانتفائه، ويثبت المفهوم.

 وهذا بخلاف الجملة الوصفية (= أكرم الفقير العادل) فإنه ليس فيها بحسب النظر العرفي سوى نسبة واحدة وهي نسبة الحكم إلى موضوعه المقيّد بالعدالة.

وقد قلنا إنّه لا يمكن إجراء الإطلاق في الحكم بلحاظ موضوعه؛ لكونه مهملاً من هذه الناحية، وهذا هو السر في عدم ثبوت المفهوم للوصف[1]

).

 وسندرس مدى صحة هذا الكلام غداً إن شاء الله تعالى.

[1] - مقالات الأصول: ج1، ص142-143.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo