< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/04/04

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الغاية/المفاهيم/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كان الكلام في مفهوم الغاية وقلنا إن الغاية لا مفهوم لها حتى إذا كانت غايةً للحكم نفسه (في القسم الثالث والرابع)، خلافاً للمحقق النائيني ره وخلافاً للسيد الأستاذ الخوئي ره حيث قالا: إن الغاية إن كانت غايةً للحكم نفسِه فيثبت لها المفهوم؛ وذلك لأن الضابط في المفهوم أمران:

أن تكون الغاية علّة منحصرة. أن يكون الحكم المغيَّا بالغاية عبارة عن مطلق الحكم وسنخه ونوعه.

 وقد تقدّم أن الشرط الأوّل متوفر دون الشَّرْط الثَّاني، حيث لا يمكن إثبات أن المغيَّا طبيعي الحكم؛ لأن إثبات ذلك متوقف على إجراء الإطلاق وهو بدوره متوقف على أن يكون الحكم مرتبطاً بالغاية بنسبةٍ تامَّة (لا بنسبة ناقصة)، والحال أن الحكمَ المرتبطَ بالغاية مرتبطٌ بها بنسبة ناقصةٍ، وكلما كانت النِّسبة ناقصةً لا يجري الإطلاق.

 ثم أردفنا الحديثَ بمطلبين يمثِّلان الصغرى والكبرى لاستدلالنا، وكانت الصغرى عبارة عن نقصان النِّسبة، وقد أثبتناها بدليلين لِمّيٍّ وإِنِّيٍّ. ريثما كانت الكبرى عبارة عن عدم جريان الإطلاق في كل مورد كانت النِّسبة فيه ناقصةً، وهذا ما يمكن إثباته عن طريقين نقدمهما إليك كالتالي:

الطريق الأوّل (= طريق اللِّمِّ): هو أن السَّبب في عدم جريان الإطلاق في النِّسبة الناقصة عدمُ وجود مفهومين قائمين في ذهن المتكلِّم حتى يجري الإطلاق في أحدهما بالقياس إلى الآخر. أي: الرجوع إلى سبب عدم جريان الإطلاق، والسبب (كما أكدنا عليه مراراً وتَكراراً) هو أن النِّسبة الناقصة تُدمج الكلمتينِ في كلمةٍ واحدة، وتجعل المفهومينِ مفهوماً واحداً، وهذا (أي: عدم وجود ربط حقيقي بين مفهومين قائمين في الذهن) ما يمنعنا عن إجراء الإطلاق؛ إذ الإطلاق عبارة عن أن المتكلِّم لاحظ هذا المفهوم القائم في ذهنه بما هو هو، من دون لحاظ شيء زائد عليه.

 فيجب أن يكون هناك مفهومان في ذهن المتكلِّم يلاحظهما المتكلِّم بما هما مفهومان ثم ينتقل إلى أحد المفهومين ليُجري فيه الإطلاق ويقول: إن المتكلِّم لاحظ هذا المفهومَ بما هو هو. وذلك مثل: «الربا حرام» أو «البيع حلال» أو «البيع نافذ وصحيح»، فإن الإطلاق إنّما يجري في «الربا» ليُشمل كلَّ مصاديق الربا؛ وذلك باعتبار وجود مفهومين قائمين في ذهن صاحب هذا الكلام، فبما أنَّه لاحظ مفهومَ الربا ولم يأت بقيدٍ (أي: لم يقل «الربا الفلاني») فالأصل فيه هو أنَّه لاحظ هذا المفهوم بما هو هو، ومن دون مؤونة زائدة.

 ولكن الأمر هذا غير متوفرٍ في النِّسب الناقصة؛ لأنَّه لا يوجد هناك مفهومان في ذهن المتكلِّم ولا يوجد ربط حقيقي ذهني بين مفهومين، فلا يأتي الإطلاق في المقام كما لا يأتي التقييد أيضاً؛ إذ الإطلاق والتقييد كليهما من شؤون النِّسبة التَّامَّة الَّتي تدلّ عليها الجملُ التَّامَّة، وأمّا النِّسب الناقصة الَّتي تدلّ عليها الجمل الناقصة فلا معنى للإطلاق والتقييد فيها؛ إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه لأنه يوجد في مواردها مفهومان قائمان في ذهن المتكلِّم، بل القائم في ذهنه هو مفهوم واحد يفهمه من «غلامُ زيدٍ» أو «عِلمُ علِيٍّ»؛ لأن النِّسب الناقصة تحصص المفهوم في مفهوم واحد وتكون النتيجة عبارة عن حصّةٍ من هذا المفهوم. فلا يوجد لدينا نسبة تامَّة يصحّ السُّكوت عليه حتى نقول إن مقصود المتكلِّم هو الإطلاق أو هو التقييد.

الطريق الثَّاني (= طريق الإِنِّ): ويتم هذا الطريق من خلال الرجوع إلى النتائج والآثار الَّتي تترتب على عدم جريان الإطلاق فيما موارد النِّسب الناقصة، فإن عدمُ ثبوت المفهوم أثر من تلك الآثار، فإن من آثار عدم جريان الإطلاق فيما نحن فيه (من النِّسبة الغائية) عدمُ ثبوت المفهوم لهذه النِّسبة، بخلاف ما إذا كانت النِّسبة تامَّة، حيث يثبت المفهوم لجواز جريان الإطلاق.

 والشاهد على ذلك إحساسُنا الوجداني والعرفي الواضحُ بالفارق بين قولنا: «وجوب الصوم مُغَيّاً بالليل» وبين قولنا «وجوبُ الصومِ المغيَّا بالليلِ مجعولٌ»؛ فإن من الممكن إجراء الإطلاق في الوجوب في الجملة الأولى؛ لأن مفهوم الوجوب أصبح طرفاً لمفهومٍ آخرَ وهو مفهوم المغيَّا (فهي جملة تامَّة متكوّنة من مبتدأ وخبر). فإن المتكلم قد لاحظ مفهوم الوجوب، إلا أننا شككنا في أن لاحظه كان مقيداً بقيد أم لا؟ فنجري الإطلاق ونقول: إن الأصل في المتكلِّم هو أنَّه «إن أراد شيئاً يقوله وما لم يقله لم يرده»، وحيث أنه لم يقل: «الوجوبُ الخاصُّ والحكمُ الفلاني مُغَيّاً»، فمقتضى كلامه أنَّ مطلقَ وجوب الصوم مُغَيّاً بالغاية. فإذا جاء الليل وتحققت الغاية ينتفي مطلق وجوب الصوم.

 ونظيره ما كنا نقوله في القضية الشَّرْطِيَّة (= إن جاء زيد فأكرمه) بأن وجوب إكرام زيد موقوف على مجيئه، فيجري الإطلاق في وجوب إكرام زيد، أي: مطلقُ وجوب إكرام زيد وطبيعيُّه متوقف على مجيئه.

 هنا أيضاً لو قال القائل: «وجوب الصوم مُغَيّاً بالليل» فيجري الإطلاق. أما إن قال «وجوب الصوم المغيَّا بالليل مجعولٌ وثابت من قِبَل الشارع» فهنا لا يمكن إجراء الإطلاق في الوجوب؛ لأن الوجوبَ هذا قد ارتبط بالغاية من خلال نسبة ناقصة (فإن الوجوب أضيف إلى الصوم ووُصِف الوجوب بالمغيا. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه فمن خلال نسبة الصفة والموصوف الناقصة - وجوب الصوم المغيَّا بالليل -) وهي الحِصَّةُ المغيَّاةُ بالوجوب، فيدل الكلام على أن هذه الحصة مجعولة في الشّريعة، فإذا جاء الليل تنفي هذه الحِصَّة المجعولة الخاصّة. أمّا مطلق وجوب الصوم فلا ينتفي بحلول الليل ولا يكون الكلام دالاً على أن كل وجوب صومٍ مُغَيّاً بالليل. ومن هنا فلا يدلّ على المفهوم (= لا يدلّ على انتفاء سنخ الوجوب عند تحقّق الغاية).

فالصحيح لا مفهوم للغاية في كل الأقسام الأربعة الَّتي ذكرناها (بما فيها القسمين الثالث والرابع حيث كانت الغاية فيها غايةً للحكم) سواء بالمعنى الاسمي (= القسم الثالث) أو بالمعنى الحرفي (= القسم الرابع).

 بقي في المقام أمران نستعرضهما فيما يلي:

الأمر الأوّل: وهو أن قاعدة احترازية القيود (الَّتي هي قاعدة عرفية عقلائية قائمة على أساس أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثُّبوت) تقول بأن ما قاله المتكلِّم قد أراده، والغاية قيد ذكره المتكلم إثباتاً فلا بد أن يكون مراده ثبوتاً، ومعنى هذا أن يكون القيد المذكور في هذا الخطاب مقيَّد بهذه الغاية. فانتفاء شخص الحكم المذكور في الخطاب عند حصول الغاية مسلم وثابت ولا كلام لنا فيه؛ لأنه ثابت على أساس قاعدة احترازية القيود، حيث كنا نقول فيها بانتفاء شخص الوجوب عند انتفاء الوصف.

الأمر الثَّاني: وهو أن للجملة الغائية مفهوم بمقدار السالبة الجزئية (أي: نفي الموجبة الكلّيّة)، كالجملة الوصفية واللقبية والعددية الَّتي تقدّم الحديث عنها سابقاً. فعندما نقول: «صم حتى تصبح شيخاً» يدلّ الكلام على أن وجوبَ الصوم ليس ثابتاً على كل إنسان بنحو الموجبة الكلّيّة بحيث يجب الصوم على كل إنسان سواء كان شيخاً أو غير شيخ، بل يدلّ على أن بعض الشيوخ لا يجب عليهم الصوم.

 والنكتة في دلالة الكلام على المفهوم بنحو السالبة الجزئية هي النُّكتة نفسها الَّتي ذكرناها في باب الوصف واللقب وغيرهما، بأَنَّهُ المفهوم لو كان ثابتاً بنحو السالبة الكلّيّة فإما أن يُفرض أن هذا الوجوب المجعول بنحو الموجبة الكلّيّة قد جُعل من خلال جعلين، أو جُعل من خلال جعل واحد.

أما فرض الجعلين (الجعل الأوّل: جعلٌ لوجوب الصوم لغير الشيخ في «حتى تصبح شيخا». الجعل الثَّاني: جعلٌ لوجوب الصوم للشيخ) فيلزم منه محذورُ اللغوية؛ فإن من اللغو أن يجعل المولى جعلين فيما إذا يريد جعلَ الصوم لكل إنسان؛ إذ بإمكانه أن يقول للإنسان رأساً: «صم» ليصل بذلك (بالجعل الواحد) إلى الموجبة الكلّيّة الَّتي يريدها. واللغو مستحيل على المولى الحكيم.

أما فرض جعل واحد (وهو هذا الجعل والخطاب: «صم حتى تصبح شيخاً»، فإنه يريد إثبات الصوم لكل إنسان شيخاً أو غير شيخ) فيلزم منه محذورُ مخالفة ظاهر الخطاب؛ لأن الخطاب ظاهر (على أساس أصالة التطابق بين عالم الإثبات والثُّبوت) في أن هذه الغايةَ (=الشيخوخةَ) الَّتي ذُكرت في الكلامِ مرادٌ جديٌّ للمتكلِّم. أي: عدم الشيخوخة دخيلة في هذا الجعل، لأنه قال: «حتى تصبح شيخاً».

 فيلزم من كل من الفرضين محذور، وبالتالي نجزم بأَنَّهُ لا توجد موجبةٌ كلية في المقام مفادها وجوب الصوم على كل إنسان، وهذا معناه أن «صم حتى تصبح شيخاً» يدلّ على أن بعض الشيوخ لا يجب عليهم الصوم قطعاً، وهذا معناه ثبوت المفهوم بنحو الموجبة الجزئية.

 هذا تمام الكلام في البحث الأوّل وهو البحث عن مفهوم الجملة الغائية، بأنها هل تدلّ على انتفاء سنخ الحكم عندما تتحقّق الغاية أم لا.

أما البحث الثَّاني: وهو البحث عن منطوق هذه الجملة، وأَنَّ هذا المنطوق هل هو واسع أم ضيّق؟ وهذا البحث مختص بما إذا كانت الغاية غايةً لمتعلق الحكم (أي: القسم الثَّاني) أو إذا كانت الغاية غاية لموضوع الحكم (أي: القسم الأوّل).

 مثلاً في قوله «صم إلى الليل» فإن الليل الَّذي جُعل غاية للمتعلق (للصوم) - وليس غاية لوجوب الصوم - نبحث عن أنَّ الليل (وهو الغاية) هل هو داخل في المغيَّا من حيث الحكم (أي: هل يجب صوم الليل أيضاً كما يجب صوم النهار؟ هل حكم الليل هو حُكم ما قبل النهار؟ وهذا معناه أن الغاية داخلة في المغيَّا، أو أنَّه خارجة عنه حكماً كما أنَّها خارجة عنه حقيقة) أم لا. طبعاً بعد وضوح أنَّه ليس داخلاً في المغيَّا حقيقة؛ فإن حقيقةَ الصوم غيرُ حقيقة الليل.

 وكذلك بالنسبة إلى غاية الموضوع (أي: متعلق المتعلّق، وهو القسم الأول) كما في قوله تعالى: «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» حيث قلنا إن «إلى الكعبين» غاية للأرجل، والأرجل موضوع (متعلق المتعلّق)، فإن الأرجل متعلقُ الغَسل، والغسلُ متعلق الوجوب. فيأتي النزاع هنا أيضاً بأن الغاية (الكعب مثلاً) هل هي داخلة في المغيَّا (=الأرجل) فيجب مسح الكعبين أيضاً أو خارجة. وهذا ما نبحثه إن شاء الله يوم السبت.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo