< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/04/08

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الغاية/المفاهيم/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 قلنا إن الاستثناء قد يكون استثناء من النفي فهذا يدلّ على المفهوم بلا إشكال، فإن الاستثناء من النفي إثبات. وقد يكون الاستثناء استثناء من الإيجاب، كما إذا قال: «أكرم العلماء إلا فُسَّاقَهم»، فهل يكون هذا الاستثناء (الاستثناء من الإثبات) نفياً كي يثبت المفهوم ويدلّ الكلام على عدم وجوب إكرام فساق العلماء، أم لا يدلّ على ذلك ولا يثبت المفهوم.

قد يقال: إن المستثنى منه لو كان يدلّ على ثبوت طبيعي وجوب الإكرام للعلماء، لكان الاستثناء من هذا الإثبات دالاًّ على إخراج فساق العلماء عن كونهم موضوعاً لطبيعي وجوب الإكرام. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه فيثبت المفهوم ويثبت انتفاء طبيعي الوجوب عن فساق العلماء. لكن لا ظهور للمستثنى منه في ثبوت طبيعي وجوب الإكرام؛ إذ قد يدلّ على ثبوت حصّةٍ من الوجوب، فالاستثناء يدلّ حينئذٍ على إخراج فساق العلماء عن كونهم موضوعاً لتلك الحِصَّة من الوجوب، فلا يثبت المفهوم، إذ لعلّ لفساق العلماء حصّة أخرى من وجوب الإكرام، غير هذا الوجوب، وهذه الحِصَّة.

إلا أن التحقيق هو أن الاستثناء من الإثبات (= النحو الثَّاني من الاستثناء) أيضاً له مفهوم. وبيان ذلك في ضوء الضوابط والموازين الَّتي ذكرناها سابقاً لإثبات المفهوم هو أن ثبوت المفهوم متوقف على ركنين كما تقدّم مراراً:

الأوّل: إثبات العليّة الانحصارية.

والثاني: إثبات أن المعلول سنخ الحكم وطبيعيه.

 وكلا الركنين متوفر في المقام.

أما الأمر الأوّل وهو إثبات العليّة الانحصارية، فمتوفر باعتبار أن الاستثناء معناه الاقتطاع والإخراج، أي: «أداة الاستثناء» تخرج المستثنى عن كونه موضوعاً للحكم المذكور للمستثنى منه.

 ففي مثالنا «أكرم العلماء إلا فساقهم»، تُخرج أداةُ الاستثناء (وهي «إلا») فساقَ العلماء عن كونهم موضوعاً لوجوب الإكرام، والموضوع هو العلّة، فقد تقدّم أكثر من مرّةً أن العليّة في باب الأحكام الشرعية لا تعني العليّة بمعناها الحقيقي الفلسفي العقلي, بل علّة الحكم تعني موضوع الحكم.

 فأداة الاستثناء تدلّ على أن موضوع الحكم (أو بعبارة أخرى علّة ومناط وجوب الإكرام) عبارة عن العلماء المُقتَطَع عنهم الفساق، والعلماء الخارج عنهم الفساق. أي: تدلّ أداة الاستثناء على أن العلّة المنحصرة (أو قل: الموضوع المنحصر) عبارة عن العلماء العدول، فتثبت العليّة الانحصارية (طبعاً العليّة بمعناها المتصور في باب الأحكام الشرعية وهو الموضوعية).

وأمّا الركن الثَّاني فثابت في المقام أيضاً؛ وذلك لأن النِّسبة الاستثنائية الَّتي تدلّ عليها أداةُ الاستثناء في المقام نسبةٌ تامَّة قائمةٌ بين المستنى منه والمستثنى في الذهن والتصوّر واللحاظ، لا في عالم الخارج عن الذهن؛ فإنه لا وجود للاستثناء والاقتطاع وإخراج شيء من شيء في عالم الخارج، فلا معنى للاستثناء في العالم الخارجي. فإن الملاحظ خارجاً هو أن هؤلاء العدول يجب إكرامهم وأولئك الفاسقون لا يجب إكرامهم، ولا نلاحظ إخراج شيء من شيء في عالم الخارج.

 فالاستثناء في الواقع من شؤون النِّسبة التَّامَّة الحقيقيَّة القائمة في الذهن بين مفهوم المستثنى منه ومفهوم المستثنى (بين مفهوم العلماء ومفهوم فساق العلماء). إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه فالموطن الأصلي لهذه هو الذهن. ونحن قلنا مرارا (في بحث معاني الحروف والهيئات وفي كثير من المناسبات) إنَّه كلما كان الموطن الأصلي للنسبة الذهن فالنسبة نسبة تامَّة، وإذا كان الموطن الأصلي للنسبة خارج الذهن فالنسبة ناقصة كنسبة الظرفية لأن الموطن الأصلي لهذه النِّسبة خارج عالم الذهن، وهي العلاقة القائمة خارج عالم الذهن بين الظرف والمظروف. بخلاف النِّسبة التَّامَّة في مثل «زيد قائم»، حيث أن النِّسبة قائمة بين مفهومين (زيد وعالم) متباينين في عالم الذهن، وهذه النِّسبة عبارة عن نسبة التصادق، أي: ما يصدق عليه المفهوم الأوّل يصدق عليه المفهوم الثَّاني وكذلك العكس، وهذه النِّسبة هي الَّتي سميناها بالنسبة التصادقية.

 فإذا كان الميزان كون النِّسبة نسبة تامَّة هو أن يكون الموطن الأصلي للنسبة عالم الذهن، فنقول: إن من الواضح أن موطن النِّسبة الاستثنائية (= النِّسبة الموجودة بين المستثنى منه والمستثنى) ليس هو الخارج؛ لأن الاستثناء هو الاقتطاع ولا يوجد في عالم الخارج عن الذهن اقتطاع وإخراج شيء من شيء. إنّما الاقتطاع من شأن المفاهيم الذهنية. يعني: مفهوم العلماء المقتطع منهم فساقُهم. فهذه النِّسبة الاقتطاعية الإخراجية نسبة تامَّة موجودة في الذهن بين هذين المفهومين.

 وإذا كانت النِّسبة تامَّة فيعقل إجراء مقدمات الحكمة في طرف هذه النِّسبة الاستثنائية وهو الحكم ووجوب الإكرام. أي: فساق العلماء اقتُطِعوا من العلماء بلحاظ وجوب الإكرام. أي: اقتطاع فساق العلماء من العلماء في وجوب الإكرام وبلحاظ وجوب الإكرام. فنجري الإطلاق في هذا الطرف ونقول: مقتضى الإطلاق هو أن طبيعي هذا الوجوب (وجوب الإكرام) هو طرف لهذه النِّسبة. كما كنا نجري الإطلاق في الجملة الشَّرْطِيَّة حيث كنا نقول: إن الجملة الشَّرْطِيَّة تدلّ على أن وجوب إكرام زيد معلّق ومتوقف على مجيئه، فنجري الإطلاق في وجوب الإكرام ونقول: إن مقتضى الإطلاق هو أن طبيعي وجوب إكرام زيد متوقف على مجيئه، لا شخص هذا الوجوب.

 فكما كنا نجري الإطلاق هناك لإثبات أن طبيعي الحكم موقوف ومعلق على الشَّرْط، كذلك هنا نجري الإطلاق في الحكم ونثبت أن طبيعي وجوب الإكرام اقتُطِع الفساق من العلماء بلحاظ طبيعي وجوب الإكرام، لا بلحاظ شخص هذا الوجوب. وهذا معناه أن فساق العلماء ليس لهم أية حصّة من وجوب الإكرام؛ لأن كل حصص وجوب الإكرام فيه اقتطاع فساق العلماء من العلماء. فلا توجد حصّة من إكرام العلماء لم يقتطع منها الفساق بلحاظ تلك الحِصَّة، وهذا هو المفهوم.

فإن قلت: كيف تقولون إن النِّسبة الاستثنائية نسبة تامَّة والحال أننا نرى أن الجملة المشتملة على المستثنى منه والمستثنى جملة ناقصة. مثل: «العلماء إلا الفساق»، فإن هذه الجملة ناقصة لا يصحّ السُّكوت عليها بشهادة الوجدان. فإذا كان ميزانكم المتقدم عبارة عن كلما كانت النِّسبة ناقصة فهي تُوَحِّدُ الكلمةَ وتدمج إحداهما في الأخرى وتصيرهما مفهوماً واحداً، فقولنا «أكرم العلماء إلا فساقهم» يدلّ على حصّة من العلماء، وحينئِذٍ لا معنى لإجراء الإطلاق في هذه الحِصَّة. فالركن الثَّاني للمفهوم غير تام.

قلنا: إننا ما زلنا نقول إن النِّسبةَ الاسثنائية تامَّة، إلا أنكم أخطأتم في تصوركم أن هذه النِّسبة الاستثنائية لها طرفين، بل هي قائمة بثلاثة أطراف هي:

الطرف الأوّل: هو المستثنى منه، أي: العلماء.

الطرف الثَّاني: المسثتنى، أي:فساق العلماء.

الطرف الثالث: المستثنى بلحاظه، فإن فساق العلماء اُقتُطِعوا من العلماء بلحاظ وجوب الإكرام. ولا بُدّ من طرف ثالث للاستثناء، ولا بُدّ من وجود قضية (وهو الحكم) حتى يخرج العلماء منهم بلحاظه.

 متى ما كان هذا الطرف الثالث موجوداً كانت الجملة تامَّة، لان النِّسبة الاستثنائية استكملت الكلام، ومتى ما لم يكن هذا الطرف الثالث موجوداً كان الكلام ناقصاً؛ لأن النِّسبة الاستثنائية لم تستكمل أطرافها.

 إذن، فقوله «العلماء إلا الفساق» كلام ناقص، ولكن ليس لأن النِّسبة الاستثنائية ناقصةٌ، بل لعدم اكتمال الأطراف الثلاثة للنِّسبة الاستثنائية. فلم يُذكر في الكلام من أي شيء خُرِج واقتطع فساق العلماء.

والخلاصة أن قوام النِّسبة الاستثنائية وتقرّرها الماهوي بهذه الأطراف الثلاثة ولا تتعقل من دون هذه الأطراف الثلاثة، بخلاف النِّسبة الظرفية الَّتي قوامها بطرفين هما الظرف والمظروف؛ لأن الاستثناء معناه الاقتطاع واقتطاع شيءٍ من شيءٍ فرعُ وجودِ حكمٍ في ذاك الحكمِ يُقتطع هذا من ذاك، وإلا فلا يكون للاقتطاع معنى من الأساس، فيدل هذا الكلام على المفهوم.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo