< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/05/07

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 الجهة الثَّانية من جهات البحث حول كلمة «كلّ». بعد أن فرغنا في الجهة الأولى عن أصل دلالتها على الاستيعاب والشمول، فهنا في هذه الجهة الثَّانية نريد أن نبحث عن أن هذه الكلمة الدَّالَّة على الاستيعاب هل تدلّ على استيعاب الأجزاء؟ أم تدلّ على استيعاب الأفراد؟ أم تدلّ على كلا النحوين من الاستيعاب؟

توضيح ذلك: أن الاستيعاب والعموم الَّذي تدلّ عليه كلمة «كلّ» على قسمين:

القسم الأوّل: هو العموم والاستيعاب الأفراديّ، أي: أن تكون كلمة «كلّ» مستوعِبة وشاملة لأفراد المفهوم الَّذي دخلت عليه. كما في قولنا: «كلّ عالم»، «كلّ كتاب»، «كلّ آية» و«كلّ سورة» وهكذا..

القسم الثَّانِي: العموم والاستيعاب الأجزائيّ، لا الأفرادي، أي: أن تكون كلمة «كلّ» دالَّة على أجزاء مفهوم آخَرَ دخلت عليه كلمة «كلّ». كما في قولنا: «قرأت كلَّ الكتاب» فإن «كلّ» هنا تدلّ على استيعاب أجزاء الكتاب، أي: الصفحة الأولى والثانية والثالثة ووسط الكتاب وآخِره.

 فهذان نحوان من الاستيعاب الَّذي تدلّ عليهما كلمة «كلّ». ولا شكّ من وجود كل من النّحوين في اللُّغَة وفي الاستعمالات اللُّغَوِيَّة. ولا يوجد هناك إحساس بِالتَّجَوُّزِ لا في الأوّل ولا في الثَّانِي. فلا يحس العربي بِالتَّجَوُّزِ عندما يقال: «كل كتاب» ويفهم منه استيعاب الأفراد، كما لا يحس بِالتَّجَوُّزِ عندما يقال: «كل الكتاب» ويفهم منه استيعاب الأجزاء. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه فيكشف عدمُ الإحساس بالتَّجَوُّز في المقامين عن أن كلمة «كلّ» لم توضع لخصوص الاستيعاب الأفرادي (القسم الأوّل) دون الثَّانِي، ولا العكس (أي: لم توضع لخصوص الاستيعاب الأَجْزَائِيّ دون الأفرادي).

 والمُهِمّ أنّ كلمة «كلّ» وضعت لاستيعاب مدخولها، ولمّا كان مدخولها عبارة عن الطَّبيعة (العالم: طبيعي العالم) وكلمة «كلّ» وضعت لاستيعاب تمام الطَّبيعة وتمام المدخول، ومعنى استيعاب الطَّبيعة أن الطبع الأوّليّ لكلمة «كلّ» أن تكون كلمة «كلّ» دالَّة على الاستيعاب الأَجْزَائِيّ (دون الأفرادي)؛ لأَنَّ الطَّبيعة عبارة عن العناصر والأجزاء المكوِّنة للطبيعة؛ فإِنَّ الطَّبيعة واجدة ذاتاً لأجزائها، وهذا بخلاف الأفراد؛ إذ الطَّبيعة ليست واجدة ذاتاً لأفرادها وإن كانت تُري أفرادها وتنطبق على أفرادها، وأفرادها مصاديق لها، ووجدانها لأفرادها بحاجة إلى نظر، وهذا بخلاف أجزائها، فإن أجزاءها مقومات لها. ولكن من دون الأفراد تكون الطَّبيعة قائمة بذاتها، فهناك بعض أنواع الطبيعي له فرد واحد، كما أن هناك بعض أنواع الطبيعي ليس له أفراد.

 فإذا كان المدخول هو الطَّبيعة، إذن مقتضى الطبع الأوّلي في كلمة «كلّ» هو أن تكون دالَّة على استيعاب أجزاء الطَّبيعة. فإذا أريد صرف هذا الاستيعاب إلى الاستيعاب الأفرادي فهذا يحتاج إلى قرينة، وإلا فلو بقينا نحن ومقتضى الطبع الأولي لكلمة «كلّ»، فالمفروض أن تدلّ على استيعاب أجزاء المدخول.

 ومما يؤيد ذلك ما يقابل كلمة «كلّ»، وهي كلمة «بعض»؛ فَإِنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ كلمة «بعض» واضحة في التبعيض الأَجْزَائِيّ، كما في «بعض عالم»، أي: بعض أجزاء العالم، وليس البعض هنا بلحاظ الأفراد. وهذا يؤيد أن ما يقابل كلمة «كلّ» وهو كلمة «بعض» تدلّ على تجزئة الأجزاء، بينما كلمة «كلّ» تدلّ على استيعاب الأجزاء.

 إذن، هذا هو الأصل الأولي لكلمة «كلّ»، ولكن هذا الَّذي قلناه لا يعني أَنَّنَا نريد أن نقول إن كلمة «كلّ» موضوعة في اللُّغَة لخصوص الاستيعاب الأَجْزَائِيّ، فإنَّ كلمة «كُلّ» كما قلنا قبل قليل موضوعة في اللُّغَة لاستيعاب مفهوم آخر، لا لخصوص الاستيعاب الأَجْزَائِيّ، أمّا خُصُوصِيَّة كون الاستيعاب استيعاباً بلحاظ الأجزاء (= أَجْزَائِيّاً) ليست مستفادة من الوضع (بأن تكون كلمة «كُلّ» موضوعةً للاستيعاب الأَجْزَائِيّ) مستفادة من مدخول «كلّ» نفسه، باعتبار أن مدخول «كلّ» عبارة عن الطَّبيعة، والطبيعة ذاتاً واجدة لأجزائها وليست واجدة لشيء آخر غير أجزائها، فهذه الْخُصُوصِيَّة مستفادة من نفس المدخول بهذه النُّكتة، أمّا خُصُوصِيَّة كون الاستيعاب استيعاباً أَفْرَادِيّاً فهذا يحتاج إلى القرينة.

 ومن هنا فإن كلمة «كُلّ» موضوعة لذات الاستيعاب، لكن استيعاب المدخول، أمّا خُصُوصِيَّة كون الاستيعاب استيعاباً للأجزاء فهذا ما نستفيده من المدخول نفسه، باعتبار أن المدخول طبيعة والطبيعة تدلّ على أجزائها. هذا هو مقتضى الطبع الأوّلي لكلمة «كُلّ».

إلاَّ أن هناك ظاهرة واضحة وملحوظة في اللُّغَة في موارد استعمال كلمة «كلّ» لا يمكن إنكارها وهي أن هذه الكلمة «كلّ» إذا دخلت على المعرفة أفادت الاستيعاب الأَجْزَائِيّ، وإذا دخلت على النَّكِرَة أفادت الاستيعاب الأفرادي.

 فلو قلنا: «قرأت كل الكتاب» أو «حفظت كل القرآن» فهذا استيعاب أجزائي. أما إذا دخلت على النَّكِرَة «اقرأ كل كتاب نحو» فيدل على الاستيعاب الأفرادي.

 وهذا الظهور مِمَّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في تخريج هذه الظاهرة، مع أَنَّنَا قلنا إن كلمة «كلّ» لم توضع لخصوص الاستيعاب الأَجْزَائِيّ كما لم توضع لخصوص الاستيعاب الأفرادي، وإنَّما وضعت لاستيعاب الطَّبيعة، والطَّبيعة لا تختلف من معرفةٍ إلى نكرة، فكلاهما طبيعة، فلماذا حينما تدخل كلمة «كلّ» على النَّكِرَة (= كلّ عالم) أفادت الاستيعاب الأفرادي، وإذا دخلت على المعرفة (= كل العالم) أفادت الاستيعاب الأَجْزَائِيّ؟ فما هو السر في ذلك؟!

أفاد المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ رحمه الله في المقام وذكر تفسيرا عُرْفِيّاً لهذه الظاهرة وظاهر هذا التفسير، حيث قال: إن الأصل في اللام أن تكون للعهد فهذا هو المرتكز من اللام في الأذهان، فإذا قيل مثلاً: «قرأت كل الكتاب»، فيتبادر إلى الذِّهْن كتابٌ معهود، والعهد هو التّشخُّص والفرديّة، أي: فرد من الكتاب. فبما أن اللام للعهد والعهد يعني التشخص المساوق للفردية، إذن لا يمكن الاستيعاب الأفرادي، فيتعيَّن الحمل على الاستيعاب الأَجْزَائِيّ. وهذا هو السرّ.

 أما إذا لم توجد اللام في مدخول «كلّ»، وقال: «اقرأ كل كتاب» فهنا المانع الَّذي كان يمنع في الفرض الأوّل عن الاستيعاب الأفرادي عبارة عن اللام، وهذا المانع غير موجود هنا، فلا مانع من توجه الاستيعاب إلى الأفراد. أي: يريد الْعِرَاقِيّ أن يُخَرِّجَ هذه الظاهرة الملحوظة من خلال اللام.

فالحاصل: أن الحمل على الاستيعاب الأَجْزَائِيّ إنّما يَتُمّ في موارد دخول «كلّ» على المعرفة بموجب هذه القرينة العامّة (وهي لام العهد)، وإذا لم تكن هذه القرينة موجودة كموارد النَّكِرَة فيكون الكلام دالاًّ على الاستيعاب الأفرادي[1] .

 ظاهر هذا الكلام وهو أن الاستيعاب الأفرادي هو الأصل في كلمة «كلّ»، ولذا قال: تكون الكلمة ظاهرة في الاستيعاب الأفراديّ عند عدم وجود اللام في المدخول، وإنَّما يصرف الكلام إلى الاستيعاب الأَجْزَائِيّ بسبب وجود اللام في موارد المعرفة، واللاّم هي المانعة عن الاستيعاب الأفرادي.

وحينئِذٍ يرد عليه: من أَنَّ هذه الظاهرة الَّتي نحن بصدد تخريجها وتفسيرها لا تدور مدار وجود اللام، بل تدور هذه الظاهرة مدار المعرفة والنّكرة، وهذا أعمّ من وجود اللام وعدم وجود اللام؛ فقد لا يكون مدخول «كلّ» ذا لامٍ، ومع ذلك معرفة، بأن يكون مدخول «كلّ» مضافاً، مثل: «اقرأ كلَّ كتابِ زيدٍ»، فهنا أيضاً نلاحظ أَنَّهُ نستفيد منه الاستيعاب الأَجْزَائِيّ، مع أَنَّهُ لا توجد لام في البين.

 أي: الملحوظ في موارد استعمال كلمة «كلّ» هو أن هذه الكلمة كلما دخلت على المعرفة - سواء كانت المعرفة معرفةً باللام أو معرفة بالإضافة - أفادت الاستيعاب الأَجْزَائِيّ، حتّى وإن لم يكن المدخول محلى باللام. فلو كانت عهديّةُ اللاَّم هي المانعة عن الاستيعاب الأفرادي، إذن لاختصت إفادة الاستيعاب الأَجْزَائِيّ بالمعرَّف باللام، أمّا المعرَّف بالإضافة فالمفروض أن تفيد الاستيعاب الأفرادي، بينما نحن نرى أَنَّهُ حتّى في المعرف بالإضافة نستفيد الاستيعاب الأَجْزَائِيّ. فالمعنى الَّذي ذكره الْعِرَاقِيّ رحمه الله غير موجود، فعهديّةُ اللاَّم لا تصلح لتخريج وتفسير هذه الظاهرة.

 طبعاً هذا إذا كان مقصوده من العهديّةِ ما هو الظَّاهِر من العهديَّةِ، فإن الظَّاهِر منها هو الشَّيْء المشخص والمشار إليه، فهذه الْعَهْدِيَّة تتنافى مع الاستيعاب الأفرادي (كما قلنا)، وتتنافى مع تعدّد الأفراد، لأَنَّ هذه الْعَهْدِيَّة تساوق الفردية.

 أما إذا كان مقصوده رحمه الله من الْعَهْدِيَّة معنى آخر وإن كان هذا خلاف الظَّاهِر، وهو أن يكون المقصود منها مطلق التّعيّن (وليس إشارة إلى فرد مُعَيَّن)، أي: مطلق المعرفة، وكان اللام من باب المثال، فهو محفوظ في جميع موارد المعرفة، سواء المعرف باللام أو المعرف بالإضافة. فالْعَهْدِيَّةُ بهذا المعنى لا تتنافى مع الاستيعاب الأفرادي؛ لأَنَّ الَّذي يتنافى مع الاستيعاب الأفرادي (كما قلنا) إنّما هو الْعَهْدِيَّة بالمعنى الأوّل، أي: الإشارة إلى فردٍ خاصّ. وهذا إنّما هو موجود في لام العهد بالخصوص، فلام العهد هي المنافية للاستيعاب الأفرادي بالخصوص؛ لأَنَّ لام العهد دالَّة على الفرد المعهود، وأمّا غير موارد لام العهد مثل لام الجنس، فَإِنَّهَا معرفة ولكنها حيث لا تدلّ على العهد فلا تدلّ على الاستيعاب الأفرادي.

 فهذا التخريج الَّذي ذكره الْعِرَاقِيّ رحمه الله غير تامّ. يبقى أن نرى ما هو التعليل الصَّحِيح لهذه الظاهرة وهذا ما يأتي إن شاء الله غداً

[1] - مقالات الأصول: ج1، 146-147

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo