< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/05/30

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كُنَّا ندرس الاعتراض الأوَّل الْمُوَجَّه إلى قول المرزا القائل بأن العموم فِي طول الإِطْلاَق، وكان هذا الاعتراض يذكر مَحْذُور اللّغوِيَّة فِي وضع الأداة وفي استعمالها. فرفضنا لزومَ هذا المحذور في جهتين، وانتهينا إلى الجهة الثَّالثة حيث بَيّنَّا شطراً منها، بأننا حتّى لو سَلَّمنا بمحذور اللّغوِيَّة فإنما نسلِّم به فيما لو كان المقصود أنَّ العموم متوقّف على إجراء الإِطْلاَق فِي المدخول بوصف المدخول مَوْضُوعاً ومعروضاً للحكم (أي: بلحاظ كون المدخول مَوْضُوعاً للحكم)، لا بوصفه مَوْضُوعاً ومعروضاً للعموم، بحيث يريد أن يَقُولُ: إِنَّهُ يجب أوَّلاً أن نُعَيِّنَ المرادَ من المدخول (الَّذي هو معروض للعموم) بالإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة، لتأتي الأداة بعد ذلك وتدلّ على استيعاب أفراد المراد، وبعد ذلك يعرض الحكم على هذا الاستيعاب.

 فكأن المرزا يريد أن يقول فِي «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» (وهو المثال السَّابِق): إنَّه لا بُدَّ من إجراء الإِطْلاَق فِي كلمة «العالم» أوَّلاً، لكي نُعيِّنَ أنَّ المرادَ من «العالمَ» الَّذي هو معروض للاستيعاب والعموم هو طبيعة «العالم» المطلقة، ثم بعد إجراء هذا الإِطْلاَق يصل الدّور إلى الأداة لتَدُلَّ على استيعاب أفراد «العالم الواقع مَعْرُوضاً للعموم» ثانياً، ثم يعرض وُجُوب الإِكْرَامِ على هذا الاستيعاب وهذا العموم فِي المرحلة الأخيرة.

 فإن كان هذا مقصوده، فلا يرد مَحْذُور اللّغوِيَّة؛ لأَنَّنَا مِنْ خلال إجراء الإِطْلاَق فِي المدخول بوصفه مَعْرُوضاً للعمومِ (وإثبات أن «العالم الَّذي هو معروض للعموم» مطلق) من دُونِ الاستعانة بأداة العموم لا نصل إلى المقصود الَّذي كُنَّا نبغيه وهو أن هذا العموم العارض على هذا المطلق مَوْضُوع ومعروض للحكم.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّورَةَ الذِّهْنِيَّةَ الَّتي يعطيها مثل «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» تختلف عن الصُّورَة الذِّهْنِيَّة الَّتي يعطيها مثل قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ»، رغم أن نتيجتهما واحدة، وهي عبارة عَنْ وُجُوبِ إِكْرَامِ كُلِّ عَالِمٍ، لكن هناك صورتان ذهنيتان:

الصُّورَة الَّتي تأتي إلى الذِّهْن عند سَمَاع قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» وهي صورةُ حكمٍ عارضٍ على المطلق (أي: وجوب إكرام عارضٍ على المطلق). أما الصُّورَة الَّتي تأتي إلى الذِّهْن عند سَمَاع قوله: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» تختلف، وهي صورة الحكم العارض على العموم العارض على المطلق. أي: صورة وجوب إكرام ثابت للاستيعاب والعموم الدَّاخِل على المطلق، وإن كانت هذه الصُّورَة الثَّانية أطول مسافة من الصُّورَة الأولى. فَمَوْضُوعُ الوجوب فِي الصُّورَة الثَّانية هو العموم والاستيعاب بعد ملاحظة الإِطْلاَق فِي مدخول هذا الاستيعاب، بينما مَوْضُوع الحكم فِي الصُّورَة الأولى عبارة عن المطلق.

 إذن، هذه الطُّولِيَّة (بين الإطلاق فِي ذلك المدخول، وبين العموم والاستيعاب) لا توجب لغويّة وضع الأداة للعموم، ولا لغويّة استعمالها فِي العموم؛ إذ قد يعترض غرض الواضع بأن يوفر فِي اللُّغَة أداةً لإعطاء الصُّورَة الذِّهْنِيَّة الثَّانية، فلا يكون الوضع لغواً، كما أَنَّهُ قد يَتَعَلَّقُ غرض الْمُتِكَلِّم والمستعمِل بالصورة الذِّهْنِيَّة الثَّانية، فأيضاً لَيْسَ الاستعمال لغواً.

 هذا ما تبقى من الاعتراض الثَّالث على إيراد السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ (ره).

 إذن، فَالاِعْتِرَاضُ الأوّل من الاعتراضات الواردة على كلام المرزا لم يكن وارداً ولا تامّاً.

الاعتراض الثَّانِي: الَّذي أورد على قول المرزا وكل من يقول بهذا القول، هو ما ذكره المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ (ره)، حيث قال: لو كان الأمر كما يقول أصحاب هذا القول وكانت الأداة موضوعة لاسْتِيعَاب المراد من المدخول، وبالتَّالي كانت دلالة الأداة على العموم منوطة بإجراء الإِطْلاَق فِي مدخولها، لزم اجتماع اِسْتِيعَابَيْنِ على شيء واحد.

وبعبارة أخرى: لزم دخول الاستيعاب على المستوعِب.

وبعبارة ثالثة: لزم أن يكون المستوعِب مرّةً ثانية مستوعِباً.

 وهذا مستحيل، فإن من المستحيل أن يجتمع استيعابان على شيء واحد؛ لاستلزامه اجتماع المثلين على شيء واحد، واستلزامه قبول الشَّيْءِ لمماثله، كما يستحيل قبول الشَّيْء لمعانده.

 فلو أجرينا الإِطْلاَق أوَّلاً فِي كلمة «العالم» فِي الرُّتْبَة السَّابِقَة على الأداة، وأثبتنا أن العالم مطلق، فأصبحت كلمة «العالم» مستوعِبةً لأفراده ببركة الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة، حينئذٍ الأداة تريد مرّةً ثانية أن تصنع ماذا؟ تريد أيضاً أن تصيِّرَ مفهومَ عالم مستوعباً لأفراده، بينما مفهوم «العالم» استوعب أفرادَه بالإطلاق، والمستوعِب لا يستوعِب أفراده مرةً ثانية، كما يستحيل أن يكون المستوعِب غيرَ مستوعبٍ (وأن يقبل معانده)[1] .

ويرد على هذا الكلام بأَنَّهُ غير وجيه أيضاً؛ وذلك:

أوَّلاً: لأَنَّ الاِسْتِيعَابَيْنِ مختلفان سنخاً وليسا من سنخ واحد، وبالتَّالي ليسا مثلين، كي يلزم من اجتماعهما اجتماع المثلين، وقبول المماثل لمماثله؛ وذلك لما قلناه أكثر من مرّةً من أن الإطلاق على ما هو الصَّحِيح لَيْسَ عبارة عن الاستيعاب، ويختلف عن العموم حتّى يقال: إن مفهوم العالم إذا جرى الإِطْلاَق فيه أصبح مستوعِباً، فيستحيل مرّةً ثانية أن يكون مستوعباً.

 لكِنَّنَا نجيب عن الاعتراض الأوّل بنفس ما قلناه فِي الجواب عن السيد الخوئي، وهو أن الاستيعاب الَّذي نفهمه من إجراء الإِطْلاَق فِي المدخول غير الاستيعاب الَّذي نستفيده من دخول الأداة على المدخول، لما قلناه من أن الإِطْلاَق لَيْسَ استيعاباً أصلاً، بل هو عبارة عن تعرية الطَّبِيعَة عن الخُصُوصِيّات الفردية، أي: يُلغى التَّكَثُّر فِي باب الإِطْلاَق، ولكن التَّكَثُّر يُلحظ فِي باب العموم مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم، حيث يرى الْمُتِكَلِّم جميع الأفراد من حيث أنَّها جميع الأفراد. بينما النَّظَر فِي الإِطْلاَق إلى ذات الطَّبِيعَة والنَّظَر فيه إلى ذات الطَّبِيعَة، وفرق كبير بين الأمرين.

 وعليه فَالَّذِي تفيده مقدّمات الحِكْمَة عند جريانها فِي المدخول لَيْسَ إلاَّ عبارة عن أن مَوْضُوع الحكم ذات الطَّبِيعَة بلا قيد، أمّا الَّذي تفيده الأداة (أداة العموم) فهي عبارة عن استيعاب الأفراد وإرائة الأفراد فِي مرحلة الْمَدْلُول التَّصوُّريّ للكلام، إذن مفاد الأداة مَفْهُوماً وتصورا لَيْسَ من سنخ مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ، أي: ليس مفاد مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ استيعاباً، أمّا الأداة فمفادها الاستيعاب.

 ففي مرحلة الْمَدْلُول التَّصوُّريّ للكلام لم يجتمع استيعابان متماثلان. فإن كلمة «كل» فِي قولنا: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» تَدُلّ تصوُّراً على استيعاب أفراد العالم، وكلمة «العالم» لا تَدُلّ تصوُّراً على استيعاب أفرادها، وإنَّما تَدُلّ على ذات الطَّبِيعَة. فأين الاستيعابان المتماثلان؟ ومتى أصبح المستوعِب مستوعِباً؟ فلا يوجد فِي مرحلة الْمَدْلُول التَّصوّري للكلام إلاَّ استيعاب واحد (وهو الاستيعاب الَّذي تَدُلّ عليه الأداة)، ولا نجد استيعابين حتّى يكونا مماثلين.

وثانياً: لو سَلَّمنا بأن الاِسْتِيعَابَيْنِ من سنخ واحد، لكن مع ذلك لا يلزم من اجتماعهما اجتماع المثلين، لكن هذين الاِسْتِيعَابَيْنِ مركزهما مختلف، مركز أحدهما غير مركز الآخر. مركز استيعاب «العالم» هو استيعاب العالم لأفراده (واستيعاب الطَّبِيعَة لأفرادها)، بينما استيعاب الثَّابِت للأداة هو استيعاب مَفْهُوم اسميّ لأفراد مفهوم اسمي آخر (استيعاب مفهوم كل لأفراد العالم). فَيَكُونُ قولنا: «أكرم كل عالم» نظير قولنا: «أكرم كل العلماء» (على أن يكون الجمع المحلى بِاللاَّم مفيدا للعموم فِي نفسه ومستقلاًّ عن كلمة «كل»). فلا يلزم اجتماع استيعابين على مفهوم واحد؛ لأَنَّ المركز مختلف، وإنَّما هناك استيعابان كل منهما قائم بمفهوم، أحدهما قائم بمفهوم «كل» والآخر قائم بمفهوم «العلماء»، فلا يوجد لدينا مفهوم واحد طرأ عليه استيعابان، حتّى يلزم طروّ مثلين على شيء واحد واجتماع مثلين على شيء واحد.

 أو من قبيل قولنا: «قرأتُ كل الكتاب» فماذا يقول الإِصْفِهَانِيّ هنا؟! هناك أيضاً لا يلزم اجتماع اِسْتِيعَابَيْنِ على شيء واحد، بل هناك استيعاب قائم بمفهوم كل (استيعاب «كل» لأجزاء مفهوم آخر وهو «أجزاء الكتاب»)، ومفهوم «الكتاب» أيضاً مستوعِب لأجزائه.

والحاصل: أَنَّنَا نقول فِي هذا الاعتراض الثَّانِي بأننا حتّى لو سَلَّمنا بأن الإِطْلاَق استيعاب مثل العموم، لكِنَّنَا نقول بأن المستوعِب الأوّل فِي الرُّتْبَة السَّابِقَة على الأداة هو ذات المدخول (أي: مفهوم «العالم» مستوعِب لأفراده)، والمستوعِب الثَّانِي هو مفهوم «كل» لأَنَّ «كل» اسم وله مفهوم اسمي، هذا الْمَفْهُوم الاسميّ مستوعب لأفراد مفهوم «العالم». فلم يصبح المستوعِب مستوعِباً ثانيةً.

وثالثاً: حتّى لو غضضنا النَّظَر عمَّا قلناه أوَّلاً (وفرضنا أن الإِطْلاَق يَدُلّ على الاستيعاب) وغضضنا النَّظَر عمَّا قلناه ثانياً (بأن مركز الاِسْتِيعَابَيْنِ مختلف وليس واحداً) لكن مع ذلك نَقُول: إِنَّ لهذا الاستيعاب مدلولان طُولِيَّانِ، أحدهما الأداة والآخر الأداة. لأَنَّ الطُّولِيَّة إِنَّمَا هي بين دالّين. الأداة تَدُلّ على الاستيعاب فِي طول دلالة الإِطْلاَق على الاستيعاب. أما الْمَدْلُول واحد، فلا يوجد مدلولان، بل يوجد مدلول واحد وهو الاستيعاب، فلا تعدّد ولا اثنينية فِي الاستيعاب حتّى يلزم مَحْذُور اجتماع اِسْتِيعَابَيْنِ على شيء واحد.

حاصل الاعتراضات الثَّلاثة:

الاعتراض الأوّل: إِنَّمَا يلزم اجتماع المثلين فيما إذا كان هناك دلالتان تصوريتان على استيعابين طوليين مختلفين فِي مستوعِب واحد (فلو كان هكذا لكان اعتراض الإِصْفِهَانِيّ (ره) وارداً)، بينما اتَّضَحَ فِي الاعتراض الأوّل أَنَّهُ لا توجد لدينا دلالتانِ تصوريتان على الاستيعاب، وإنَّما توجد دلالة تَصَوُّرِيَّة واحدة على الاستيعاب وهي دلالة الأداة، أما الإِطْلاَق فدلالته تصوُّراً ليست على الاستيعاب بل على ذات الطَّبِيعَة لا أكثر.

الاعتراض الثَّانِي: اتضح فيه أَنَّهُ لا يوجد لدينا (حتّى لو كانت عندنا دلالتان تصوريتان على الاستيعاب) مستوعِب واحد، بل هناك مفهومانِ مستوعبانِ، أحدهما الْمَفْهُوم الاِسْمِيّ للأداة، والآخر الْمَفْهُوم الاِسْمِيّ للمدخول. إذن فلم يصحّ وجود دلالتان تصوريتان للاستيعاب على مفهوم واحد.

الاعتراض الثَّالث: واتضح فِيه عدمُ وجود استيعابين طوليين، بل يوجد دالان طُولِيَّانِ على هذا الاستيعاب. وبالتَّالي لم يلزم اجتماع استيعابين متماثلين فِي مستوعِب واحد، فلم يلزم صيروة المستوعِب مستوعِباً مرّةً ثانية لاستيعاب المماثل، كي يكون من قبيل قبول المماثل لمماثله، وبالتَّالي يكون من قبيل اجتماع المثلين.

 إذن، فالاعتراض الثَّانِي الَّذي أورده المُحَقِّق الإِصْفِهَانِيّ (ره) على القول الأوّل فِي المسألة غير تامّ.

[1] - الإِصْفِهَانِيّ، نهاية الدراية: ج2، ص 183-184.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo