< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/06/05

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كُنَّا ندرس الاعتراض الَّذي أورده السيد الأستاذ الشهيد على المُحَقِّق النائيني وغيره من القائلين بأن العموم فِي طول الإِطْلاَق، وَأَنَّ الأَدَاةَ موضوعة لاستيعاب المراد من المدخول، ولذا لا بُدَّ من تَحْدِيد الْمُرَادِ من خلال الإِطْلاَق أوَّلاً، ثم تَدُلّ الأداة على استيعاب أفراد هذا المراد.

 الاعتراض الَّذي وَجَّهَهُ سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ إلى هذا القول هو أنَّ المحتملات فيه أربعة لا بُدَّ من دراستها:

الاحتمال الأوّل: ما ذكرناه بالأَمْسِ، وهو أن يكون المقصودُ كون الأداة موضوعة لاستيعاب المراد الْجِدِّيّ من المدخول. وقد أبطلناه من خلال القول بأَنَّهُ يَسْتَلْزِم محاذير ثلاثة ذكرناها بالأَمْسِ.

الاحتمال الثَّانِي: أن يكون المقصود هو أن الأداة موضوعة لاستيعاب المراد الاستعماليّ من المدخول، لا المراد الْجِدِّيّ، فإن قال: «أَكْرِمْ كُلَّ رجلٍ» يكون المراد الاستعمالي من كلمة «رجل» (أي: المعنى المستعمل فيه) عبارة عن الإنسان المُذَكَّر، فيقال حينئذٍ إن كلمة «كُلٍّ» وضعت وتدلّ على استيعاب أفراد الإنسان المذكر. هذا هو الاحتمال الثَّانِي فِي مقصود القائلين بهذا القول.

 وهو احتمال معقول؛ إذ من الممكن أَنْ تَكُونَ الأداة موضوعة لاستيعاب أفراد المعنى الَّذي استعمل فيه المدخول، لكنَّ هذا الاحتمال بِالرَّغْمِ من أَنَّهُ معقول لا يُحَقِّق غرضَ النائيني وغيره من القائلين بهذا القول، فإن غرضهم هو كون العموم فِي طول الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة فِي المدخول، وغرضهم أنَّ دلالة الأداة على العموم متوقّفة على أن نَنْفِيَ إرادةَ القيد بالإطلاق وبمقدمات الحِكْمَة. أما بناءًا على هذا الاحتمال لا يكون العموم فِي طول الإِطْلاَق (أي: لا تكون دلالةُ الأداة على الاستيعاب بحاجة إلى الإطلاق ومقدّمات الحِكْمَة فِي المدخول)، وإنَّما يكون العموم فِي طول تعيين المراد الاستعماليّ للمدخول (أي: دلالة الأداة على استيعاب تكون بحاجة إلى ما يُعَيِّنُ المرادَ الاستعماليّ للمدخول).

 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ تعيين المراد الاستعماليّ لا يحتاج إلى الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة ولا يَتَحَدَّدُ عن هذا الطَّرِيق، بل يتحدَّد ويتعيَّن المرادُ الاستعمالي دائماً بأصالة الحقيقة وَالَّتِي هي أصل عُقَلاَئِيّ يعيِّن لنا دائماً أن اللَّفظ قد استُعمل فِي معناه الحقيقي، وهو الَّذي يُحَدِّدُ ويُعَيِّنُ لنا أنَّ المراد الاستعمالي لِلْمُتِكَلِّمِ من المدخول هو المعنى الحقيقي الَّذي وضع له. فمقتضى أصالة الحقيقة فِي المدخول هو أن هذا المدخول قد استعمل استعمالاً حقيقيّاً وأنَّ المراد الاستعمالي منه هو المعنى الحقيقيّ، فَتَدُلُّ الأداة حينئذٍ على استيعاب أفراد هذا المعنى الحقيقيّ، مِنْ دُونِ أي حاجة إلى الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة.

 مثلاً فِي مثالنا المتقدم عندما يقول: «أَكْرِمْ كُلَّ رَجُلٍ» (بناءًا على الاحتمال الثَّانِي وهو أن الأداة وضعت لاستيعاب المراد الاستعماليّ من الْمَدْخُول) يكون المراد الاستعماليّ لكلمة «رجل» (بعد إجراء أصالة الحقيقة وأصالة عدم المجاز) عبارة عن الإنسان المذكر مِنْ دُونِ أخذ أيّ قيد آخر فِي معنى الرَّجُل مثل قيد «العدالة».

 فنثبت بأصالة الحقيقة أن المراد من «الرَّجُل» هو «الإنسان المذكر» لا «الإنسان المذكر العادل»، بلا حاجة إلى إجراء الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة لإِثْبَاتِ عدم القيد؛ لأَنَّنَا نفحص عن المراد الاستعماليّ ولا نبحث عن المراد الْجِدِّيّ حتّى نحتاج إلى مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ، فإن الأخيرة طريق لإِثْبَاتِ المراد الْجِدِّيّ، أمّا هنا فلا نحتاج إلى المراد الْجِدِّيّ (بناءًا على هذا الاحتمال الثَّانِي)؛ لأَنَّنَا فرضنا فِي هذا الاحتمال أنَّ الأداة موضوعة لاستيعاب المراد الاستعماليّ من المدخول، وليس المراد الْجِدِّيّ. فنفحص عن المراد الاستعمالي للمدخول، وفي مقام الفحص عنه لا نحتاج إلى الإِطْلاَق، بل نحتاج هنا إلى أصالة الحقيقة الَّتي تُثبت لنا أنَّ لفظ «رجل» مثلاً لم يُستعمل فِي إنسان خاصّ وهو الإنسان المذكر العادل؛ إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن قاسم الطهراني عفي عنه. إذ لو كان كذلك لكان المراد الاستعماليّ لِلَّفْظِ معنى مَجَازِيّاً، ولكن أصالة الحقيقي تنفي هذا المطلب وتُعَيِّنُ أنَّ اللَّفظَ قد استُعْمِلَ فِي نفس المعنى الحقيقي الَّذي وضع له. وهو ذات الطَّبِيعَة (أي: طبيعة الإنسان المذكر). فإذا كان المراد الاستعماليّ للمدخول عبارة عن ذات الطَّبِيعَة دلت الأداة على استيعاب أفراد هذه الطَّبِيعَة.

 هذه هي النَّتِيجَة الَّتي نصل إليها بناءًا على الاحتمال الثَّانِي، فلا يتحقّق غرضُ النائيني وهو أن يصبح العموم فِي طول الإِطْلاَق؛ إذ لا دور للإطلاق بناءًا على هذا الاحتمال، بل يصبح العموم فِي طول أصالة الحقيقة، وتقول أصالة الحقيقة: إنَّ المعنى المستعمل فيه هو المعنى الموضوع له والمعنى الحقيقي (أي: يرجع الكلام إلى القول الآخر وهو قول الآخوند) وهو أنَّ كلمة «رجل» تصلح للانطباق على كل إنسان مذكر. وأصالة الحقيقة تقول: إن كلمة «رجل» استعملت فِي هذا المعنى (أي: فِي ذات الطبيعة الصالحة للانطباق) فوصلنا إلى ما يقوله الآخوند الَّذي هو مخالف لقول الميرزا، فهذا الاحتمال الثَّانِي خلف ما يريده الميرزا. فلا يمكن القول بأن هذا الاحتمال هو مقصود الميرزا، بل تكون نتيجته ضدّ ما يريده الميرزا.

الاحتمال الثَّالث: أن يكون مقصود الميرزا لا الأوّل (الأداة وضعت لاستيعاب المراد الْجِدِّيّ) ولا الثَّانِي (الأداة وُضعت لاستيعاب المراد الاستعمالي)، بل مقصوده أن الأداة وضعت لاستيعاب ما فِي ذهن المتكلم من المراد الاستعماليّ.

 فَإِنَّنَا عندما نسمع «أَكْرِمْ كُلَّ رجلٍ» فِي المثال المتقدّم، نحتمل أن يكون ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من المراد الاستعماليّ لكلمة «رجل»، عبارة عن نفس المعنى الْمَوْضُوع له، يعني «الإنسان المذكّر»، كما أَنَّنَا نحتمل احتمالاً آخر أيضاً وهو أن يكون ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من المراد الاستعماليّ لكلمة «رجل» (أي: ما يتصوره الْمُتِكَلِّم من كلمة «رجل» فِي مقام الاستعمال) عبارة عن الإنسان المذكّر العادل. أي: نحتمل أن يكون قيد «العدالة» موجوداً فِي ذهن الْمُتِكَلِّم، وأنه أراد أن يستعمل كلمة «رجل عادل» وأن يقول «رجل عادل» ولٰكِنَّهُ حذف كلمة «العادل» فِي الكلام. فهذا احتمال موجود أيضاً.

 إذن ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من المراد الاستعمالي للمدخول مُرَدَّد بين الإنسان الْمُذَكَّر (أي: المعنى الموضوع له) وبين الإنسان المذكر العادل. فيقال حينئذٍ: إن الأداة (أي: كلمة «كُلٍّ») وضعتْ لاستيعاب أفراد ما فِي ذهن المتكلم.

 وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِن المدخول (كلمة «رجل» مثلاً فِي مثالنا) هو اسم جنس، واسم الجنس مَوْضُوع لطبيعة مهملةٍ (أي: ذات المعنى وذات الْمَاهِيَّة)، لكن الموجود فِي ذهن الْمُتِكَلِّم وَالَّذِي يتصوره الْمُتِكَلِّم دائماً لا يمكن أن يكون هذه الطبيعة المهملة؛ فإنَّ ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم وما يتصوره دائماً شيء أزيد من هذا المعنى الْمَوْضُوع له؛ إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن قاسم الطهراني عفي عنه. لأَنَّ هذا المعنى الْمَوْضُوع له عبارة عن الطَّبِيعَة المهملة، وَالطَّبِيعَة الْمُهْمَلَةُ على إهمالها لا تلحظ، فإن الطبيعة عندما تلحظ وتُتصور فإما أن تُلحظ مطلقة أو أن تُلحظ مقيَّدة. أمّا أن تلحظ مهملة فلا يمكن؛ لأَنَّ معنى ذلك ارتفاع النقيضين. وارتفاع النقيضين محال فِي أيّ عالَم من العوالم، سواء فِي عالم الوجود الخارجيّ أو فِي عالم الوجود الذهني. فلا يمكن أن يكون الموجود فِي ذهن الْمُتِكَلِّم عبارة عن الطَّبِيعَة المهملة الَّتي لا هي مطلقة ولا هي مقيَّدة، فإن هذا من ارتفاع النقيضين.

 إذن، فالموجود فِي ذهن الْمُتِكَلِّم دائماً إما هو الطَّبِيعَة المقيَّدة (يعني الإنسان المذكر العادل فِي مثالنا) أو الطَّبِيعَة المطلقة (أي: الإنسان المذكر).

 فيقال: إن أداة العموم وضعت لاستيعاب تمام أفراد ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من المراد الاستعمالي، وَالَّذِي لا ندري هل هو الطَّبِيعَة المطلقة أو الطَّبِيعَة المقيَّدة، باعتبار أَنَّنَا نحتمل احتمالين كما ذكرنا.

 فلذا نحتاج إلى مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ والإطلاق، لكي يُثبت لنا الإِطْلاَقُ أنَّ ما فِي ذهنه وما تصوّره إِنَّمَا هو الطَّبِيعَة المطلقة، فَيَكُونُ العموم فِي طول الإِطْلاَق ومتوقف على إجراء مقدّمات الحكمة فِي المدخول فِي الرُّتْبَة السَّابِقَة، لكي نحرز أنَّ الْمُتَكَلِّم لم يتصوّر الطَّبِيعَةَ المقيَّدة، بل ما تصوّره من المدخول فِي مقام الاستعمال هو الطَّبِيعَة المطلقة. هذا ما نثبته بالإِطْلاَق، ثم نأتي إلى الرُّتْبَة الثَّانِية لإِثْبَاتِ أفراد هذا الَّذي تصوّره الْمُتِكَلِّم. هذا شرح الاحتمال الثَّالث.

 يقول سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ: إنَّ هذا الاحتمال أيضاً باطل؛ لأَنَّهُ يرد عليه:

أوَّلاً: أَنَّهُ يلزم منه أخذ مفهومٍ غريب عن معنى الأداةِ فِي معنى الأداة ومدلولها؛ لأَنَّهُ يوجد فِي المقام ثلاثة دوالّ:

الدَّالّ الأوّل: الأداة وهي كلمة «كل» فِي المثال.

الدَّالّ الثَّانِي: مدخول الأداة وهي كلمة «رجل» فِي المثال.

الدَّالّ الثَّالث: هيئة إضافة الأداة إلى مدخولها وهي هيئة إضافة «كلّ» إلى «رجل» فِي المثال.

 ومِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الدَّالّ الثَّانِي يَدُلّ على الطَّبِيعَة المهملة (اللابشرط الْمَقْسَمِيّ)؛ لأَنَّ المدخول اسم جنس واسم الجنس مَوْضُوع لذات الطَّبِيعَة.

 أما الدَّالّ الثَّالث: فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّها هيئة جملة ناقصة وهي تَدُلّ عَلَى النِّسْبَةِ الناقصة بين طرفين، أحدهما معنى «كل» وهو الاستيعاب، وَالثَّانِي: معنى «رجل» وهو ذات الطَّبِيعَة.

 إذن، فلا بُدَّ من أن نفترض أنَّ الدَّالّ على هذا العنصر الَّذي ذُكر فِي هذا الاحتمال الثَّالث (وهو عنصر ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من كلمة «رجل» فِي مقام الاستعمال) هو عبارة عن الأداة، بأن يقال: إن الأداة موضوعة للاستيعاب ولتحديد ما يتصوره الْمُتِكَلِّم من كلمة «رجل»، وهذا معناه أَنَّنَا أخذنا معنى ومفهوماً غريباً فِي كلمة «كل»، وهذا واضح البطلان.

 ويأتي توضيح أكثر لهذا المطلب غداً إن شاء الله تعالى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo