< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/06/13

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

«الوجوب»

الأمر الرَّابع: أنَّ الطَّبِيعَة المهملة وإن كانت هي عين الطَّبِيعَة المطلقة (كما تقدّم فِي الأمر الأوّل) إلاَّ أن هذا لا يعني أنَّها تنطبق على الأفراد كالطبيعة المطلقة؛ فقد يُتَوَهَّم من قولنا «الطَّبِيعَة المهملة هي عين الطَّبِيعَة المطلقة»، أنَّها كالمطلقة تنطبق على الأفراد، ولكن بالالتفات إلى ما تقدّم من أن الطَّبِيعَة المهملة هي عين الطَّبِيعَة المطلقة ولكن بِقَطْعِ النَّظَرِ عن الرُّؤْيَة وكيفية الرُّؤْيَة (أي: الطَّبِيعَة المهملة فاقدة لأي رؤية وأي نظرة، حتّى النظرة الإطلاقية) فَسَوْفَ لا تقبل الطَّبِيعَة المهملة أن تتسع للانطباق على الأفراد؛ لأَنَّ السَّبَب والعلة الموجبة لسعة الطَّبِيعَة وانطباقها على كل الأفراد هو الرُّؤْيَة الإطلاقية، وقد عرفنا من خلال ما تقدّم أن خُصُوصِيَّة الرُّؤْيَة الإطلاقية هي الحيثية التعليلية الموجبة لسعة الطَّبِيعَة، وهي السبب لاتساع الطَّبِيعَة وانطباقها على الأفراد، وحينئِذٍ فبفقدان هذه الرُّؤْيَة الإطلاقية سوف لا تكون الطَّبِيعَة واسعة ومنطبقة على الأفراد.

 هذا هو السَّبَب فِي أن الطَّبِيعَة المهملة على الرغم من أنَّها عين الطَّبِيعَة المطلقة وعلى الرغم من أن الطَّبِيعَة المطلقة منطبقة على الأفراد ولكن الطَّبِيعَة المهملة غير منطبقة على الأفراد.

الأمر الخامس: فِي ضوء ما تقدّم يَتَّضِح عدم تَمَامِيَّة البرهان المتقدّم فِي الإشكال الَّذي طرحناه، حيث كان يقول: إن الْمَدْلُول الوضعيّ والاستعمالي لمدخول الأداة (الَّذي هو اسم الجنس) لمَّا كان عبارة عن ذات الطَّبِيعَة المعبَّر عنها بالطَّبِيعَة المهملة وذات الطَّبِيعَة جامعة بين الطَّبِيعَة المطلقة وَالطَّبِيعَة المقيَّدة، وَالطَّبِيعَة المطلقة منطبقة على تمام الأفراد، فتنطبق الطَّبِيعَة المهملة على الأفراد أيضاً؛ وذلك ببرهان أن الجامع موجود فِي ضمن فرده، فإذا كان الفرد منطبقاً فِي مورد كان الجامع منطبقاً أيضاً. هذا البرهان المتقدّم مِن قِبَلِ صاحب الإشكال الَّذي أشكل علينا وعلى الميرزا أيضاً.

 فقد اتَّضَحَ مِمَّا تقدّم أن هذا البرهان غير تامّ؛ وذلك بعد أن عرفنا أن الطَّبِيعَة المهملة عين الطَّبِيعَة المطلقة، لا أنَّها جامعة بين الطَّبِيعَة المطلقة وَالطَّبِيعَة المقيّدة. فهناك فرق بين العينيّة وبين الجامعيّة (كما وضحنا بالأَمْسِ)، فالجامعية نظير جامعية الكلّي لأفراده أو جامعية الإنسان لزيد وبكر وعمر، فَيَصِحُّ هناك أن نَقُول: إِنَّ الإنسان كلي وجامع بين هذه الأفراد، وفي مثله يأتي هذا الكلام (وهو أن الكلّي موجود ضمن فرده)، لكن فيما نحن فيه اتَّضَحَ أنَّ الطَّبِيعَة المهملة ليست جامعة بين الطَّبِيعَة المطلقة وَالطَّبِيعَة المقيّدة، بل هي عين الطَّبِيعَة المطلقة ولكن مِنْ دُونِ الرُّؤْيَة، وهي عين الطَّبِيعَة المقيّدة ولكن مِنْ دُونِ الرُّؤْيَة. فهي عينهما لا أنَّها جامعة بين هذه وتلك. فإذا لم تكن جامعةً (على حدّ جامعية الكلّي لأفراده) فلا يأتي فيها هذا البرهان (الَّذي طرحه صاحب الإشكال، حيث قال: بما أن الكلّي موجود ضمن فرده الطَّبِيعَة المهملة موجودة ضمن فردها - أي: ضمن الطَّبِيعَة المطلقة - فإذا انطبقت الطَّبِيعَة المطلقة على الأفراد فالطَّبِيعَة المهملة تنطبق على الأفراد).

 وسِرُّ عدم انطباقها على الأفراد ما قلناه فِي الأمر الرَّابع، وهو أَنَّ الطَّبِيعَة المهملة فاقدة لعلة الانطباق والاتساع (وهي الرُّؤْيَة الإطلاقية)، وهذه الحيثية التعليلية مفقودة فِي الطَّبِيعَة المهملة.

الأمر السادس: اتَّضَحَ الجواب فِي ضوء ما تقدّم عن النقض المتقدّم مِن قِبَلِ صاحب الإشكال وَالَّذِي بيَّنَّاه قبل يوم أو يومين، وهو النقض بعملية الوضع؛ فَإِنَّ الوضع حاله حال أي حكم آخر على الطَّبِيعَة، فقد قلنا فِي الأمر الثَّالث من هذه الأُمُور أنَّ الحكم على الطَّبِيعَة نظراً إلى أَنَّهُ متوقّف على تصوّر الطَّبِيعَة، والرؤية لا تكون إلاَّ من خلال إحدى الرؤيتين إما الإطلاقية وإما التقييدية، إذن عندما يريد الواضع أن يضع العُلقةَ الوضعيَّة فلا بُدَّ له أن يتصوّر ذاتَ الطَّبِيعَة (طبيعة «العالم» مثلاً)، فهذا الوضع هو حكم يُصدره الواضع على الوضع وعلى المعنى. أي: يضع هذا بإزاء ذاك. حكم يصدره بإزاء كل من اللَّفظ والمعنى، فلا بُدَّ له من أن يتصوّر اللَّفظ وأيضاً أن يتصوّر المعنى حتّى يضع اللَّفظ بإزاء المعنى. والمعنى هو ذات الطَّبِيعَة الَّتي لا بُدَّ وأن يتصورها، وعندما يتصوّر ذات الطَّبِيعَة ويلاحظها لا يلحظ معها قيداً وهذا معناه أَنَّهُ رأى الطَّبِيعَة بالرؤية الإطلاقية، وعدم لحاظ القيد هو العنصر المميز للرؤية الإطلاقية. إذن رأى الطَّبِيعَة بالرؤية الإطلاقية ووضع اللَّفظ للمرئي (أي: لذات الطَّبِيعَة) لا لمجموع المرئي والرؤية[1] .

 فالمقصود هو أَنَّهُ حينما تصوّر الطَّبِيعَة المهملة خرجت الأخيرةُ عن كونها طبيعة مهملة وأصبحت طبيعة مطلقة، فالوضع انصبَّ على الطَّبِيعَة المطلقة، وهذا هو السَّبَب فِي أن الوضع يسري إلى كل الحصص؛ لأَنَّ الوضع انصب على الطَّبِيعَة المطلقة، ولم ينصبّ على الطَّبِيعَة المهملة؛ لأَنَّ الوضع جاء بعد التَّصَوُّر وبمجرد تصوّر الطَّبِيعَة المهملة تخرج الطَّبِيعَة المهملة عن كونها مهملة وتصبح مطلقة والمطلقة قابلة للانطباق على كل الأفراد.

 هذا هو السَّبَب والسر فِي أَنَّنَا نرى أن الحكم يسري إلى جميع الحصص والأفراد، على الرغم من أن خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق غير دخيلة فِي ذات المعنى وذات الطَّبِيعَة.

 إذن فالوضع لم ينصب رأساً على الطَّبِيعَة المهملة كما توهّم فِي الإشكال، ولا يمكن ذلك؛ لما قلناه من أن الطَّبِيعَة المهملة لا يمكن الحكم عليها بأي حكم (وَضْعِيّ أو غير وَضْعِيّ)؛ لأَنَّ كل حكم من الأحكام متوقّف على التَّصَوُّر والطَّبِيعَة المهملة شرطها أَنْ لاَّ يَكُونَ هناك تصوّر، وبمجرد أن تُتَصَوَّر تخرج عن كونها طَبِيعَة مهملة، وبمجرد أن تتصور وترد إلى الذِّهْن تكون مطلقة بالحمل الشائع، وإطلاق هذا هو السر فِي أن الوضع يسري إلى كل الحصص والأفراد.

الأمر السَّابِع: هو أَنَّهُ فِي ضوء ما قلناه اتَّضَحَ الحال فيما نحن فيه من أداة العموم (الكل مع مدخولها) فإن دخول الأداة (والَّتي وضعت فِي اللُّغَة للاستيعاب) على اسم الجنس (الْمَوْضُوع لغة لذات الطَّبِيعَة) لَيْسَ معناه ما تُوُهِّم فِي الإشكال من أن الاستيعاب حينئذٍ منصبّ على الطَّبِيعَة المهملة (كما تصوّره صاحب الإشكال)، والاستيعاب حكمٌ يصدره المتكلم، وهذا الحكم انصب على الطَّبِيعَة المهملة فيسري إلى تمام الأفراد بلا حاجة إلى ما يقولوه الميرزا وبلا حاجة إلى ما تقولونه أنتم من أَنَّهُ يجب أن نحدد الطَّبِيعَة المهملة فِي الطَّبِيعَة المطلقة حتّى يصحّ السريان، فقد اتَّضَحَ الجواب عن هذا الكلام بأن الاستيعاب لم ينصب على الطَّبِيعَة المهملة، بل الاستيعاب والوضع وأي حكم آخر لم ينصبّ ولا يمكن أن ينصبّ رأساً على الطَّبِيعَة المهملة، بل ينصب على الطَّبِيعَة المطلقة، أي: الطَّبِيعَة المرئية بالرؤية الإطلاقية. فينصبّ الحكم (أيّاً كان) على الطَّبِيعَة المطلقة، أي: المرئية بالرؤية الإطلاقية، لكن لا ينصبّ على الطَّبِيعَة المطلقة بما هي مطلقة (أي: خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق وحيثية الإِطْلاَق ليست جزءاً من معنى المدخول ومن معنى اسم الجنس و«العالم»؛ لأَنَّ خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق ليست من شؤون العالم والمرئي والمنظور إليه، وإنَّما هي من شؤون النظارة والرؤية الذهنية)، وأمّا المحكوم عليه بالاستيعاب فهو ذات الطَّبِيعَة المرئية الواردة إلى الذِّهْن، وقد قلنا إنَّ ذات الطَّبِيعَة المرئية الواردة إلى الذِّهْن هي مطلقة بالحمل الشائع، وهذا الإِطْلاَق يكون حَيْثِيّة تعليلية لسريان الحكم والاستيعاب إلى تمام الأفراد.

 وهكذا يَتَّضِح لنا أَنَّهُ لا معنى لدلالة الأداة على استيعاب مدخولها وهو اسم الجنس الدَّالّ على الطَّبِيعَة إلاَّ بِأَنْ يَّكُونَ الملحوظ لِلْمُتِكَلِّمِ عبارة عن الطَّبِيعَة المطلقة بالحمل الشائع، أي: الطَّبِيعَة المرئية بالرؤية الإطلاقية؛ إذا مِنْ دُونِ هذه الرُّؤْيَة لا يمكن لِلْمُتِكَلِّمِ أن يحكم بالاستيعاب على ذات الطَّبِيعَة، وأمّا الطَّبِيعَة بما هي هي ومجردةً عن أيّة رؤية (الَّتي نسميها بالطَّبِيعَة المهملة) فليست مرئيا لكي يُعقل أن يقع مَوْضُوعاً للحكم وللاستيعاب، كما هي ليست مرئيةً للواضع لكي يعقل أن يقع مَوْضُوعاً للوضع، وكما هي ليست مرئيةً لأي حاكم آخر يريد أن يحكم عليها بحكم آخر. فأي طبيعة يُفترض رؤيتها ليست إلاَّ عبارة عن الطَّبِيعَة المطلقة بالحمل الشائع، أو بالطبيعة المقيّدة. أَمَّا لا هذا ولا ذاك فيلزم منه ارتفاع النقيضين المحال.

 إذن، فالإشكال المتقدّم غير واردٍ لا علينا ولا على الميرزا؛ فإن الطَّبِيعَة لا بُدَّ وأن يَتَعَيَّنُ فِي الطَّبِيعَة المطلقة قبل طروّ الاستيعاب عليها، لكي يصحّ السريان وهذا مطلق قاله الميرزا وأكّدنا عليه. فلا بُدَّ من أن تتحدد المهملة فِي المطلقة حتّى تَدُلّ الأداة على استيعاب أفرادها.

 فما قاله الميرزا متين جِدّاً، إِنَّمَا الإشكال الَّذي وجهناه إلى الميرزا (فيما مضى) هو أَنَّهُ وإن صَحَّ أنَّ أصل الطَّبِيعَة لا بُدَّ وأن تتعين فِي المطلقة حتّى يَتُمّ استيعاب أفرادها، ولكن الطَّرِيق إلى هذا التّعيين والتحديد ما هو؟ قال الميرزا: الطَّرِيق هو مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ، ولكننا قلنا بأن الطَّرِيق إلى هذا التّعيين لَيْسَ هو مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ، بل يكفي نفس أن الْمُتِكَلِّم ذكر اسم الجنس ولم يذكر قيداً، فإذا ضممنا إلى ذلك مدلول الأداة وهو الاستيعاب، تَتُمّ الدِّلاَلَة اللَّفظيَّة التَّصوُّريَّة للكلام على استيعاب تمام الأفراد الَّتي تنطبق عليها الطَّبِيعَة.

 أي: إذا لم يكن الْمُتِكَلِّم يريد الاستيعاب يكون قد خالف ظهورَ حاله؛ لأَنَّ ظاهر حال المتكلم هو أن ما يقولوه يريده (أصالة الجد)، وهو قال الاستيعاب (من خلال كلمة «كل»، أي: استيعاب ذات الطَّبِيعَة، أي: استيعاب الطَّبِيعَة المطلقة بالحمل الشائع) فهو أراده، وإن لم يرده يكون قد خالف هذا الظُّهُور الإثباتيّ الَّذي نرجع إليه دائماً فِي جميع الدلالات الوضعيَّة.

 فهنا لا نحتاج إلى الظُّهُور الْحَالِيّ السلبي والْحَكَمِيّ وهو الإِطْلاَق والقائم على أساس السُّكوت، وَالَّذِي رجع إليه الميرزا. بل ما عندنا هو أقوى من هذا الظُّهُور، وهو الظُّهُور الإيجابي والكلام الَّذي ذكره الْمُتِكَلِّم، فما ذكره أراده بأصالة الجد، بلا حاجة إلى الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة.

 بقيت تتمة مختصرة نذكرها غداً إن شاء الله تعالى. .

[1] - لا على مسلك التَّعَهُّد لأَنَّ الدِّلاَلَة عنده تَصْدِيقِيَّة لا تَصَوُّرِيَّة، وصاحب النقض كان يريد أن ينتقض على مسلك الْمَشْهُور لا على مسلك التَّعَهُّد.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo