< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/10/26

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كُنَّا نتحدث فِي الوجه الثَّالث من الوجوه الَّتي قد تذكر لإِثْبَاتِ أن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ يَدُلّ عَلَىٰ العموم وقد ذكرنا فِي البحث السَّابِقَ هذا الوجه، وكان هذا الوجه يستند إلى القول بأن >اللاَّم< موضوعة لتعين مدخولها، والتعيّن لا يمكن أن يكون فِي الجمع إلاَّ بإرادة المرتبة الأخيرة من الجمع؛ لأَنَّ الجمع له تعين فِي مرتبته الأخيرة من حيث المصداق الخارجيّ. أي: مصداقه واضح وليس له غير مصداق واحد وهو كل المائة (فيما لو كان العلماء مائة). أَمَّا ما دون المرتبة الأخيرة فهذا الأَقَلّ كالتسعين من المائة، لَيْسَ مشخصا خارجاً أَنَّهُ من هم؟ فاللام تَدُلّ عَلَىٰ التّعيّن والتعين فِي الجمع مساوق وملازم للعموم.

 هذا الوجه ناقشناه فِي اليوم الدرسي الماضي، وأريد هنا أن أزيدكم شيئاً من التوضيح للجواب الَّذي ناقشنا به هذا الوجه ثم ننتقل إلى الوجه الرَّابع:

أقول: لا إِشْكَال فِي أن الجمع بمعزل عن >اللاَّم< مثل >علماء< له مراتب، وكل مرتبة من المراتب تتمثل فِي كثرة وجماعة لا تقل عن ثلاثة، من مرتبة ثلاثة فما فوق. وبعض المراتب أكبر. وكل واحدة من هذه المراتب محددة بحد تتقوّم بهذا الحدّ. وهذا الحدّ عَلَىٰ قِسْمَيْنِ: حدّ كمي، وحد كيفي.

أَمَّا الحدّ الكمي فنقصد به عدد أفراد هذه الجماعة وهذه الكثرة، ومقدارها، مثلاً: سبعة من العلماء، أو ثلث من العلماء، أو عِشْرِينَ بالمائة من العلماء.

وأمّا الحدّ الكيفي ونقصد به نوعية أفراد هذه الجماعة وهذه الكثرة. أي: فئتهم الخاصّة الَّتي ينتسبون إليها، هل هم من فئة العدول أو من فئة الْفُسَّاق، من فئة الفقهاء أو من فئة الفلاسفة وهكذا. وحينئِذٍ فعلى أي حال كل واحد من هذه الجماعة يتنسب إلى فئة واجدة لقيد أو فاقدة لقيد.

 حينئذٍ نَقُول: إِنَّ هيئة الجمع وضعت (كأي هيئة من الهيئات) بالوضع العام والموضوع له الخاصّ لكل كثرة وجماعة من هذه الكثرات والجماعات الَّتي قلنا أن كل واحدة منها محدودة بحد كمي ومحدودة بحد كيفي.

 ومعنى الوضع العامّ هو أنّ الواضع حينما أراد أن يضع هيئة الجمع تصوّر واستحضر فِي ذهنه معنىً عامّاً جامعاً مشيراً إلى واقع الكثرات والجماعات، واتخذه مشيراً إلى واقع هذه الكثرات الَّتي كل واحدة منها متميزة ومتحدّدة بحد كمي وكيفي.

 ومعنى الْمَوْضُوع له الخاصّ هو أن الواضع حينما وضع هيئة الجمع ما وضعها لهذا المعنى الجامع (وإلا لكان الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً وكان يصبح اسم الجنس) وإنَّما وضع اللَّفظ لكل واحدة واحدةٍ من هذه الكثرات الَّتي هي مصاديق لذاك المعنى العامّ (أي: لواقع الكثرات الموجودة فِي الخارج، بحيث أن كل جماعة لا تقل عن ثلاثة ومحدودة بحد كمي وكيفي، هي معنى من معاني هيئة الجمع. مثل المشترك اللَّفظيّ، حَيْث أَنَّ كل معنى من المعاني فِي المشترك اللَّفظيّ هو معنى مستقلّ للمشترك اللَّفظيّ، كذلك ثلاثة من العلماء معنىً من معاني هيئة الجمع، كما أن أربعة من العلماء معنىً من معاني هيئة الجمع وهكذا فِي الخمسة والستة والسبعة وغيرها. وكذلك الأمر فِي الحدّ الكيفي مثل >العلماء العدول< (أي: هذه الجماعة المحددة بحد كيفي وهو حدّ العدالة) معنىً من معاني هيئة الجمع. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هيئة الجمع لها معانٍ عديدة بعدد الكثرات والجماعات المحددة بحد كمي وكيفي. فتكون هيئة الجمع كالمشترك اللَّفظيّ تماماً.

 غاية الأمر، أن المشترك اللَّفظيّ مَوْضُوع بأوضاعٍ عديدة لمعانٍ عديدة، لكن هيئة الجمع مَوْضُوع بوضع واحد لمعانٍ عديدة. وهذه ميزة الْمَوْضُوع له الخاصّ كما قلنا. وكذلك الحروف مثل كلمة >فِي<؛ فإنّ الْمَوْضُوع له فِيها خاصّ، أي: هذه الظرفية الخارجية الموجودة بين هذا الماء وهذا الإناء بحدها الخارجيّ المتميز هي معنىً من معاني >فِي<. وليس معنى >فِي< عبارة عن >الظرفية< الجامع الَّذي هو مفهوم اسمي، وإلا فكانت >فِي< تصبح اسماً، بل معنى >فِي< واقع الظَّرفيّات الكثيرة (المتوفرة بالملايين) بين الظروف والمظاريف. فالحروف بشكل عام والهيئات بشكل عامّ الوضع فيها عامّ، لكن الموضوع له فيها خاصّ. ومعنى الْمَوْضُوع له فيها خاصّ يعني خصوص ذاك الفرد الخارجيّ هو معنى من معاني هذا الحرف أو هذه الهيئة. ومن هنا بعضهم أنكره لأَنَّهُ بعيد عن الذِّهْن ويحتاج إلى تعمّق. ونحن أثبتنا ذلك بِالنِّسْبَةِ للحروف والهيئات فِي البحوث السَّابِقَة قبل سنين.

 وهذا معناه أن استعمال هيئة الجمع فِي كُلّ واحدة واحدةٍ من هذه المعاني استعمالٌ صحيح (أي: لَيْسَ مخالفاً لنظام اللُّغَة) وحقيقيّ (أي: ليس مجازاً)؛ لأَنَّ كل واحدة من هذه المراتب هي معنىً مَوْضُوع له. كما أن استعمال المشترك اللَّفظيّ فِي كُلّ معنىً من معانيه استعمالٌ صحيح وحقيقيّ (أي: لا يحتاج إلى قرينة صارفة). فإن استعمل الْمُتِكَلِّم لفظ >علماء< وأراد به ثلاثة من العلماء (بينما أن عدد العلماء مائة)، سوف يكون استعماله صحيحاً وحقيقيّاً. وكذلك يصحّ استعماله فيما لو استعمله وأراد به أربعة أو عشرة (= الحدّ الكمي) أو أراد علماء عدول (= الحدّ الكيفي).

 أجل، السَّامِع سوف لا يفهم مقصود الْمُتِكَلِّم، ويحتاج إلى قرينة مُعَيَّنَة للتفهيم، ولا يحتاج إلى قرينة صارفة، فإن الأخيرة للمجاز، كما هو شأن المشترك اللَّفظيّ حيث يحتاج إلى قرينة مُعَيِّنَة وإلا فَسَوْفَ لا يفهم المخاطب مقصودَ الْمُتِكَلِّم. فعلى سبيل المثال إن كلمة >القرء< الواردة فِي الآية الكريمة {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} تحتاج إلى قرينة معيِّنة تعيّن وتبين أن المقصود من >القرء< ثلاثة أطهار أو ثلاثة حيضات. مَعَ أَنَّ الاستعمال فِي كليهما صحيح. فالإجمال موجود، ولكن وجود الإجمال لا يضرّ بصحة الاستعمال ولا يضرّ بكون الاستعمال استعمالاً حقيقيّاً.

 الآنَ نأتي إلى >اللاَّم<، إذا جاءت >اللاَّم< ودخلت عَلَىٰ هذا الجمع، فنسلم ونؤمن بما يقوله صاحب الوجه الثَّالث من أن >اللاَّم< عندما تدخل عَلَىٰ الجمع، موضوعة لتعيّن هذا الجمع. والمقصود هو التّعيّن المصداقي دون العهدي والجنسي. أي: أَنْ يَكُونَ هذا الجمع الَّذي أراده الْمُتِكَلِّم وقصده وهذه الجماعة وهذه الكثرة الَّتي أرادها الْمُتِكَلِّم حينما قال: >العلماء<، أَنْ تَكُونَ هذه الجماعة لها مصداق خارجي مُعَيَّن ومشخص. وهذا لا يكون إلاَّ إذا كان مراده مرتبة الاستغراق والتمام. أي: أَنْ يَكُونَ مقصوده تلك المرتبة من الكثرة الَّتي هي المرتبة الأخيرة. أي: تلك المرتبة من الكثرة الَّتي ليست محددة بحد كمي. هذا معنى قولهم فِي النَّحْو: >>اللاَّم< للاستغراق (أي: >اللاَّم< عندما تدخل عَلَىٰ الجمع تَدُلّ عَلَىٰ أن مدخولها متعين مصداقاً والتعين المصداقي لا يكون إلاَّ بالاستغراق). فالحاصل أَنَّنَا نقبل بأن المقصود تمام أفراد الكثرة، وليس نصفهم أو ثلثهم أو أقل من التمام.

 إذن، هيئة الجمع عند دخول >اللاَّم< عليها تَدُلّ >اللاَّم< عَلَىٰ أن هذا الجمع الَّذي أريد مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم، هو جمعٌ مستغرِق، أي: غير محدّد بحد كمي.

 ولكن يبقى سؤال آخر وهو أَنَّهُ بعد أن نفينا الحدّ الكمي من خلال >اللاَّم<، هل يُحدّد هذا الجمع بحد كيفيّ (أي: تمام >العلماء العدول< أو تمام >العلماء المؤلفين< أو تمام >العلماء الزاهدين<). فلا كلام حينئذٍ فِي قبول الاستغراق، وإنَّما الكلام كُلّه فِي هوية هذا الاستغراق، وهذا ما لا تعيّنه >اللاَّم< ولا تجيب عنه؛ إذ أنّ معنى >اللاَّم< (وهو تعيّن المدخول من حيث المصداق الخارجيّ) محفوظٌ فِي الحدّ الكيفي. أي: إذا أراد الْمُتِكَلِّم تمام >العلماء العدول<، لا نشك بأن مصداق تمام >العلماء العدول< فِي الخارج واحد وغير مُرَدَّد؛ فإِنَّهُ لا يوجد عندنا تمامان من >العلماء العدول<، كما أَنَّهُ لا توجد عندنا مائتان من العلماء (حَسَبَ الْفَرْضِ). وحينئِذٍ نسأل: كيف ننفي أن يكون مراده تمام العلماء العدول (أو القيود الأخرى) والحال أن >اللاَّم< حيادية (حيال أن المراد تمام العلماء المائة أو تمام العلماء العدول) ولا تنفي شيئاً، ومعنى >اللاَّم< محفوظ فِي كليهما. إذن، نحتاج إلى دالّ آخر يَدُلّ عَلَىٰ أنّ المقصود تمام أفراد العالم (= ذات الطَّبِيعَة مِنْ دُونِ أي قيد)، مِنْ دُونِ قيد العدالة وقيد التأليف والزهد وإلى ما هنالك من القيود المحتملة.

 هذا هو التوضيح الَّذي أردت أن أبينه لمناقشة الوجه الثَّالث.

الوجه الرَّابع: من الوجوه الَّتي قد تذكر لإِثْبَاتِ دلالة الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ عَلَىٰ العموم هو أن يقال: لا إِشْكَال فِي فهم العموم والاستيعاب من الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ (ومن هنا فإن ورد >أكرم العلماء< لا يوجد فقيه لا يفتي بالاستيعاب والعموم ووجوب إكرام جميع العلماء، كما تقدّم) إِنَّمَا الكلام فِي منشأ هذا الشُّمُول والاستيعاب الَّذي نفهمه من الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ. هل أن المنشأ هو الوضع؟ أو أَنَّ المنشأ هو الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة.

 فعلى الأوّل (أي: إن كان الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ حقيقةً مَوْضُوعاً فِي اللُّغَة للعموم) سوف يكون العموم مدلولاً وَضْعِيّاً تصوُّريّاً (أي: بمجرّد أن نسمع اللَّفظ، يأت العموم إلى الذِّهْن)، بحيث لو استعمل هذا اللَّفظ فِي غير العموم لكان الاستعمال مجازاً.

 وعلى الثَّانِي (أي: إن كان منشأ هذه الدِّلاَلَة والفهم هو الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة دون الوضع)، فسوف لا يَكُونُ العموم والاستيعاب الَّذي نفهمه مدلولاً وَضْعِيّاً (لأَنَّهُ ثابت من خلال قرينة الحِكْمَة) تصوُّريّاً لِلَّفْظِ (لأَنَّ مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ تثبت المراد الْجِدِّيّ ولا تثبت المراد التَّصوُّريّ، ومن هنا لا يجري الإِطْلاَق فِي الموارد الَّتي لا يوجد مراد جدّي فيها لِلْمُتِكَلِّمِ، كالهازل والنائم).

 إذن، لو كان منشأ هذه الدِّلاَلَة الإطلاقُ فهذا معناه أن الاستيعاب والشمول الَّذي نفهمه مدلول تصديقي جدّي للكلام، وحينئِذٍ يكون استعمال الجمع فِي غير العموم أيضاً استعمالاً حقيقيّاً؛ لأَنَّنَا فرضنا أن العموم هذا لم يدخل فِي المعنى الوضعيّ للكلمة وإنَّما استفدنا العموم من قرائن الحِكْمَة. فلو استعمل اللَّفظ فِي غير العموم يكون الاستعمال حقيقيّاً وليس مَجَازِيّاً. فنحن نريد أن نفهم هل أن منشأ الدِّلاَلَة ومنشأ هذا الفهم للعموم هو الوضع أو الإِطْلاَق؟ السُّؤَال المطروح فِي المقام هو أَنَّهُ هل تصلح مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ لكي تفسّر لنا هذا الفهم؟ أي: هل تصلح مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ لكي تكون منشأ هذه الدِّلاَلَة وهذا الفهم الَّذي ذكرناه؟ إن كانت صالحة فمعناه أن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ سوف يبقى مُجْمَلاً، لأَنَّنَا سوف لا نفهم هل أن منشأ الشُّمُول (الَّذي فهمناه) هو الوضع أو الإِطْلاَق؟! حَيْث أَنَّ كلا من الوضع والإطلاق صالح لتفسير هذا الفهم. أَمَّا لو لم تصلح مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ لتفسير هذا الفهم، فحينئذٍ يَتَعَيَّنُ الوضع؛ إذ لا يوجد خيار ثالث. ومن هنا يريد الوجه الرَّابع التركيز عَلَىٰ هذه النُّقْطَة، أي: يريد أن يثبت ببرهانين أن مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ غير صالحة لتفسير هذا الفهم والشمول، كي يكون التالي كون الوضع هو منشأ هذا الفهم. وهذا ما سوف نذكره غداً إن شاء اللٰه تعالى. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo