< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/11/03

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّهي أو النفي/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 الثَّالثة من صيغ العموم وأدواته وألفاظه النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو الواقعة فِي سياق النَّهْي، من قبيل قوله: «لا ضرر ولا ضرار» فإن كلاَّ من الضَّرَر والضرار نكرة وقعت فِي سياق النَّفْي. أو من قبيل: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ حَيْث أَنَّ ﴿حرج﴾ نكرة واقعة فِي سياق النَّفْي. أو من قبيل: ﴿لن يجعل اللٰه للكافرين عَلَىٰ المؤمنين سبيلاً﴾، حَيْث أَنَّ ﴿سبيلاً﴾ نكرة وقعت فِي سياق النَّفْي. ومن قبيل: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً﴾، وهكذا كثير فِي سياق النَّفْي.

 وكذلك فِي سياق النَّهْي مثل «لا تلبَس شيئاً مِمَّا لا يؤكَل فِي الصَّلاة» ومثل ﴿لا يضار كاتب ولا شهيد﴾ و﴿لا يغتب بعضكم بعضاً﴾ و﴿لا تضار والدةٌ بولدها ولا مولود له بولده﴾ و﴿لا يبخس منه شيئاً﴾ وهكذا فِي كثير من الموارد.

 اُدعي أنَّ وقوع النَّكِرَة فِي سياق النَّهْي أو النَّفْي (أي: وقوعه عقيب النَّفْي) من أدوات العموم ومن صيغه.

 أَمَّا ما هو المنشأ لهذه الدَّعْوَىٰ؟ فقد أفاد سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رحمه الله أنّ المنشأ والباعث لهذه الدَّعْوَىٰ فِي أكبر الظن هو أنهم لاحظوا أنَّ النَّكِرَة إذا وقعت فِي سياق الإثبات (لا النَّهْي ولا النَّفْي) فلا دلالة لها عَلَىٰ الشُّمُولِيَّة. فإن «عَالِماً» فِي قوله: «أكرم عَالِماً» نكرة أيضاً، مثل ﴿بعضاً﴾ فِي الآية الشريفة ﴿لا يغتب بعضكم بعضاً﴾، ولكن لا يمكن إثبات الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ لـ«عَالِماً» فِي هذا المثال، بحيث يسري وُجُوب الإِكْرَامِ إلى كل أفراد العالم، وإنَّما الإِطْلاَق هنا بدليّ، كما تقدّم تفصيله فِي بحث المرَّة والتَّكرار وفي غيره حيث ذكرنا كراراً أن الإِطْلاَق فِي النَّكِرَة الواقعة بعد الإثبات إطلاق بدليّ وليس شُمُولِيّاً؛ فإن عَالِماً» فِي «أكرم عَالِماً» إطلاقه شُمُولِيّ ويصلح أن ينطبق عَلَىٰ هذا العالم وذاك العالم، لكن بشكل بدليّ، أي: الاستيعاب استيعاب تبادلي وليس عرضيّاً. ومن هنا يُكتفى فِي مقام الامتثال بإكرام شخص واحد. فإن قال: «صلِّ صلاةً» يكفي أن يصلي صلاةً واحدة. هذا شأن النَّكِرَة الواقعة فِي سياق الإثبات.

 فإنهم لاحظوا أَنَّهُ لا يمكن إثبات الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ للنَّكِرَة الواقعة فِي سياق الإثبات؛ والسبب فِي ذلك هو أن النَّكِرَة (أي: اسم الجنس المنون بتنوين التَّنْكِير) لا يقبل الاستيعاب العَرضيّ (أي: أن يستوعب كلَّ أفراده فِي عَرض واحد)؛ لأَنَّ هذه النَّكِرَة (هذا الاسم الجنس) مُنَوَّنة بتنوين التَّنْكِير وتنوين التَّنْكِير يَدُلّ عَلَىٰ الوحدة (أي: فرد واحد من هذه الطَّبِيعَة). فكلمة «عَالِماً» تعني: طبيعة العالم المقيّدة بقيد الوحدة، كما أن «فَاسِقاً» يعني: طبيعة الفاسق المقيّدة بقيد الوحدة وكذلك «خَمْراً» فِي «لا تشرب خَمْراً» تعني طبيعة الخمر المقيّدة بقيد الوحدة. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ تلك الطَّبِيعَة لا تَدُلّ عَلَىٰ الاستيعاب العَرضيّ لكل أفرادها؛ لأَنَّهَا مقيدة بقيد الوحدة. ومن هنا لا يمكن أن يكون الإِطْلاَق فِي النَّكِرَة الواقعة فِي سياق الإثبات شُمُولِيّاً، بل لا بُدَّ من أن يكون بَدَلِيّاً. هذا فِي جانب الإثبات.

 هذا، بينما النَّكِرَة نفسها فِي سياق النَّهْي أو النَّفْي تفيد الشُّمُولِيَّة ولا تفيد الْبَدَلِيَّة كما كانت تفيدها فِي جانب الإثبات. فَيَكُونُ معنى «لا تكرم فَاسِقاً»: لا تكرم أيَّ فاسقٍ. فليس المقصود منه لا تكرم فَاسِقاً واحداً أَمَّا بقية الْفُسَّاق فأكرمهم.

 فلا بُدَّ من أن يكون الدَّالّ عَلَىٰ الشُّمُولِيَّة شيئاً آخر غير النَّكِرَة، وإلا فإن هذه النَّكِرَة لا تفيد الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ فِي سياق الإثبات، وهذا الشَّيْء الآخر عبارة عن وقوع هذه النَّكِرَة عقيب النَّفْي أو النَّهْي. فهذا هو الباعث والمنشأ لهذه الدَّعْوَىٰ القائلة بأن النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو النَّهْي تفيد الشُّمُولِيَّة.

 لكن واقع المطلب هو أن هذه الشُّمُولِيَّة سواء فرضناها بنحو شمولية العامّ (أي: اعتبرنا أن النَّكِرَة فِي سياق النَّهْي أو النَّفْي هذه من صيغ العموم مثل كلمة «كُلٍّ» ومثل الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ بناء عَلَىٰ أنَّها موضوعة للعموم) أو فَسَّرْنّا الشُّمُولِيَّة فيها بنحو المطلق، نحتاج لفهم هذه الشُّمُولِيَّة إلى عنصرين:

العنصر الأوّل: أَنْ يَكُونَ هناك مفهوم اسمي قابل للاستيعاب الشُّمُولِيّ والعَرْضي.

العنصر الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هناك قرينة ودالّ يَدُلّ عَلَىٰ أن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِيّ القابل للاستيعاب الأرضي مستوعِب فعلاً. أي: هذه القابلية أصبحت فِعْلِيَّة، وهذا الدَّالّ عبارة عن الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة.

 ونحن دائماً نحتاج إلى هذين العنصرين سواء فِي باب الإِطْلاَق أو فِي باب العموم.

 أَمَّا فِي باب الإِطْلاَق فكلمة «عالم» تَدُلّ عَلَىٰ مفهوم اسمي صالح للانطباق عَلَىٰ أفراده بصورة عَرضِيَّة، كما أن لدينا قرينة دالَّة عَلَىٰ أن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِيّ مستوعب لأفراده فعلاً، وتلك القرينة عبارة عن مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ.

 وأمّا فِي باب العموم (كما سبق شرحه فِي العامّ الماضي عند دراستنا لكلمة «كُلٍّ»)، فإِنَّهُ فِي مثل: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» يوجد لدينا مفهوم اسمي صالح للانطباق عَلَىٰ أفراده واستيعاب أفراده بصورة عَرضِيَّة وهو مدخول الأداة (أي: مفهوم «عالم») كما يوجد لدينا دالّ يَدُلّ عَلَىٰ أن هذا الْمَفْهُوم (عالم) مستوعِب لأفراده فعلاً، وهذا الدَّالّ هو «كُلٌّ».

 ولكن فِي المقام (النَّكِرَة فِي سياق النَّهْي أو النَّفْي) ما هو ذاك الْمَفْهُوم الاِسْمِيّ القابل والصالح فِي ذاته للاستيعاب العَرضيّ فِي مقابل الْبَدَلِيّ، حتّى يأتي بعد ذلك دور الدَّالّ عَلَىٰ هذا الاستيعاب؟ وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مفهوم النَّكِرَة («عالماً» الَّذي هو اسم الجنس المنون بتنوين التَّنْكِير) لا يصلح أن يكون قابلاً للاستيعاب العَرضيّ؛ لأَنَّهُ مقيَّد بقيد الوحدة. إذن، كيف نفهم الشُّمُولِيَّة والاستيعاب العَرضيّ فِي المقام؟!

 هنا يوجد تفسيران لهذه الشُّمُولِيَّة الَّتي نفهمها من النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو النَّهْي.

التَّفْسِير الأوّل

ما ذكره سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رحمه الله فِي الحلقة الثَّالثة ولم يذكره فِي مجلس بحثه، وهو أن نَقُول: تَثْبُتُ الشُّمُولِيَّة الَّتي نفهمها فِي المقام، بإجراء مقدّمات الحِكْمَة فِي النَّكِرَة نفسها، لكن بعد إخراجها عن كونها نكرة. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه ويَتُِمّ هذا الإخراج بقرينة السِّيَاق (أي: بقرينة وقوع النَّكِرَة بعد النَّفْي أو النَّهْي). فليس السِّيَاق (أي: تَعَقُّب النَّكِرَة بعد النَّفْي أو النَّهْي ووقوعها بعدهما) هو الدَّالّ عَلَىٰ الشُّمُولِيَّة، بل الدَّالّ على الشمولية هو الإِطْلاَق وقرائن الحِكْمَة، لكن السِّيَاق لعب دور إخراج النَّكِرَة عن كونها نكرة، فيمنح السياقُ النكرةَ صلاحية الاستيعاب. أي: السِّيَاق يكون قرينة عَلَىٰ إخراج هذه الكلمة عن كونها نكرة، أي: يجرّدها عن قيد الوحدة، وَالطَّبِيعَة إذا جُرّدت عن قيد الوحدة، تصبحُ صالحة للاستيعاب العَرضيّ. وحينئِذٍ يأتي الدَّالّ فعلاً عَلَىٰ الاستيعاب وهو مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ.

 وهذا تفسير معقول وممكن، وبه اتَّضَحَ الجواب عن السُّؤَال الأوّل وهو أَنَّهُ كيف أصبحت النَّكِرَة الَّتي إذا وقعت فِي سياق الإثبات لا تفيد إلاَّ الإِطْلاَق الْبَدَلِيّ (= لا تفيد الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ)، أَمَّا إذا وقعت هذه النَّكِرَة نفسها فِي سياق النَّهْي أو النَّفْي أفادت الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ، مع أنَّها هي هِي.

 فالجواب بات وَاضِحاً وهو أنَّ النَّكِرَة إذا وقعت فِي السِّيَاق أخرجها السِّيَاقُ عن كونها نكرة ووحيدة، رغم وجود التَّنْوِين، وبالتَّالي جعل النكرةَ صالحةً للاستيعاب العَرضيّ، وحينئِذٍ جاءت مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ ودلت عَلَىٰ أن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِيّ القابل للاستيعاب العَرضيّ مستوعِب لأفراده فعلاً. فأصبحت مثل سائر الموارد كـ«أَكْرِمِ الْعَالِمَ» حيث أتت مقدّمات الحِكْمَة ودلت عَلَىٰ أن هذه الطَّبِيعَة (= العالم) الَّتي هي غير مقيدة بأي بقيد زائد، مستوعِبة لأفرادها.

التَّفْسِير الثَّانِي: ما أفاده المُحَقِّق الخُراسانيّ رحمه الله حيث قال: إن الشُّمُولِيَّة الَّتي نفهمها فِي موارد النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّهْي أو النَّفْي إِنَّمَا يحكم بها العقل (أي: نفهمها من القرينة اللُّبِّيَّة المتَّصلة الْعَقْلِيَّة) فليست الدِّلاَلَة عَلَىٰ الشُّمُولِيَّة لفظيّةً، بل هي عَقْلِيَّة، ولا دلالة للألفاظ (مثل لفظ النَّكِرَة أو لفظ «لا» الناهية أو «لا» النافية) عَلَىٰ هذه الشُّمُولِيَّة؛ وذلك لأَنَّ العقل دلَّ عَلَىٰ أن هذه الطَّبِيعَة منهي عنها (إذا كانت «لا» ناهية) أو منتفية ومنعدمة (إذا كانت «لا» نافية). وحينئِذٍ يأتي العقل ويقول: إن انْتِفَاء الطَّبِيعَة لا يكون إلاَّ بانتفاء جميع أفراده، أو أن انعدام الطَّبِيعَة لا يكون إلاَّ بانتفاء بانعدام جميع أفرادها. فإِنَّهُ لطالما يوجد فرد واحد فِي الخارج فإن الطَّبِيعَة موجودة فِي ضمن ذاك الفرد. فالعقل هو الدَّالّ عَلَىٰ شُمُولِيَّة واستيعاب هذه النَّكِرَة لكل أفرادها، من باب أن انعدام الطَّبِيعَة لا يكون إلاَّ بانعدام جميع أفراده. هذا تفسير آخوندي لهذه الشُّمُولِيَّة.

أقول: توجد عدّة ملاحظات عَلَىٰ هذا التَّفْسِير:

الملاحظة الأولى هي أن هذه الشُّمُولِيَّة لا تختصّ بالنكرة؛ فإن المعرفة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو النَّهْي يفهم منها الشُّمُولِيَّة. فكما أَنَّنَا نفهم الشُّمُولِيَّة من قوله: «لا تكرم فَاسِقاً» كذلك نفهم الشُّمُولِيَّة من قوله: «لا تكرم الفاسق». فلا تختلف النَّكِرَة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو النَّهْي عن المعرفة الواقعة فِي سياق النَّفْي أو النَّهْي فِي إفادة الاستيعاب وَالشُّمُولِيَّة. إذن هذه الشُّمُولِيَّة من شؤون نفس النَّهْي أو النَّفْي، سواء تعلقا بالنكرة أو بالمعرفة. ونحن ذكرنا الكلام بالتفصيل سابقاً قبل عدّة سنوات فِي بحث دلالة الأمر عَلَىٰ المرَّة والتَّكرار وكذلك فِي بحث آخر فِي بحث دلالة النَّهْي عَلَىٰ الاِنْحِلاَلِيَّة، ولعله فِي غيرهما أيضاً، ولكننا فِي ذينك البحثين فصلنا الكلام حول وقوع الطَّبِيعَة فِي سياق الأمر أو فِي سياق النَّهْي. (إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه) ووضعنا لهذا قانوناً عامّاً وَقُلْنَا: إِنَّ الأصل فِي الْمُتَعَلَّق أن يكون الإِطْلاَق فيه إطلاقاً بَدَلِيّاً والأصل فِي الْمَوْضُوع أن يكون الإِطْلاَق فيه شُمُولِيّاً. ولكل من هذين القانونين استثناء ذكرناه هناك. فالأصل العام فِي الْمُتَعَلَّق أن يكون إطلاقه بَدَلِيّاً إلاَّ إذا كان الْمُتَعَلَّق متعلّقاً بِالنَّهْيِ (مثل صلِّ ولا تكذب). والأصل فِي الْمَوْضُوع أن يكون الإِطْلاَق شُمُولِيّاً (مثل «أَكْرِمِ الْعَالِمَ»، حَيْث أَنَّ الإِطْلاَق بدليّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَعَلَّقِ؛ إذ لا يَدُلّ «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» عَلَىٰ وجوب إكرام العالم بكل مصاديق الإكرام. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلى «العالم» فالإكرام شُمُولِيّ، أي: يجب إكرام جميع أفراد العالم). فالأصل فِي الْمَوْضُوع الشُّمُولِيَّة إلاَّ إذا كان الْمَوْضُوع مُنَوَّناً بتنوين التَّنْكِير، كما فِي قوله: «أكرم عَالِماً»؛ لأَنَّ هذا التَّنْوِين يعطيه قيد الوحدة، وإذا كان مقيّداً بقيد الوحدة فلا يمكن أن يكون دالاًّ عَلَىٰ الإِطْلاَق الشُّمُولِيّ. هذه هي الملاحظة الأولى، وتبقى الملاحظات الأخرى تأتي غداً إن شاء اللٰه تعالى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo