< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/01/28

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 قلنا بعد أن بَيَّنَّا كيفيَّةَ استفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس (وذلك عَلَىٰ أساس الظُّهُور الْحَالِيّ الَّذي ذكرناه) لا بُدَّ من التَّعَرُّض لمسألتين خلافيتين مرجع كلتيهما إلى الخلاف فِي تحديد ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ ومدى دلالته، وهما:
 المسألة الأولى: عبارة عن الخلاف فِي أن المقيِّد المنفصل هل يهدم الظُّهُورَ فِي الإِطْلاَق كالمقيِّد المتَّصِل أو ينفي حُجِّيَّته فحسب؟
 والمسألة الثَّانية: فِي أنَّ وجود القَدْرِ المتيَقَّنِ فِي مقام التخاطب هل يهدم أو يمنع عن انعقاد ظهورٍ فِي الكلام عن الإِطْلاَق (= هل يضرّ بالإطلاق)؟
 فلا بُدَّ من دراسة هَاتَيْنِ المسألتين تباعاً:
 أَمَّا المسألة الأولى: فتوضيحها هو أَنَّهُ بعد اتفاقهم عَلَىٰ أن المقيِّد المتصل يهدم الظُّهُور فِي الإِطْلاَق بلا إِشْكَال، اختلفوا فِي أن المقيِّد المنفصل هل هو كذلك؟ فعلى سبيل المثال إن قال: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» ثُمَّ بيَّن قيدَ العدالة فِي كلام آخر منفصلٍ عن هذا الكلام قائلاً: «لا تكرم العالم الفاسق» أو «إن العالِم الَّذي يجب إكرامُه يجب أن يكون عادلاً» (أو بأي لسان آخر)، فهل هذا المقيِّد المنفصل يسبّب أن لا يبقى للكلام الأوّل ظهور فِي الإِطْلاَق أبداً؟ أو أنَّ الكلام الأوّل تستقر دلالتُه عَلَىٰ الإِطْلاَق بمجرّد ذِكر «العالم» مِنْ دُونِ ذكر قيدٍ مُتَّصِل به، ومجيء القيد المنفصل لا يوجب انثلامَ ذاك الظُّهُور الإطلاقي وإنَّما يكذِّبه قائلاً: ذاك الظُّهُور غير مراد جِدّاً لِلْمُتَكَلِّمِ، لا أَنَّهُ ينفي أصل ذاك الظُّهُور، بل إنّ أصل الظُّهُور باقٍ، ولازال الكلام الأوّل ظاهراً فِي الإِطْلاَق (= فِي وجوب إكرام العالم، و«العالم» مطلق)، إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. والكلام الثَّانِي يكذّب هذا الظُّهُور قائلاً: إنَّ هذا الظُّهُور لَيْسَ بمرادٍ جِدّاً لِلْمُتِكَلِّمِ. ومعنى ذلك أنَّ المقيِّد المنفصل يهدم حجيةَ الكلام المطلق، لا أَنَّهُ يهدم ظهوره فِي الإِطْلاَق.
 أَمَّا الآخوند الخُراسانيّ فذهب إلى أن المقيِّد المنفصل لا يهدم أصل الظُّهُور، بل يهدم حُجِّيَّته، بينما ذهب النائيني إلى أَنَّهُ يهدم أصل الظُّهُور الإطلاقي.
 وَالَّذِي ينبغي أن يكون هو المنشأ لهذا الاختلاف عبارة عن الاختلاف فِي تحديد ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ المتقدّم الَّذي قلنا إِنَّه يَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِيَّة الْعَقْلِيَّة أو الْعُرْفِيَّة عَلَىٰ أن الْمُتِكَلِّم حينما يذكر اسم الجنس مِنْ دُونِ القيد يكون قد أرادَ الإِطْلاَق؛ لأَنَّهُ إن أراد التَّقْيِيد دون الإِطْلاَق فمعناه أَنَّهُ لم يُبَيِّن تمام مراده بكلامه، بينما يقول الظُّهُور الْحَالِيّ: إن ظاهر حال كل متكلم هو أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده بكلامه.
 ولكن ما هو مفاد هذا الظُّهُور بالتحديد؟ فهل أن مفاده هو أن حال كل الْمُتِكَلِّم ظاهر فِي كونه بصدد بيان تمام مراده بشخص كلامه هذا؟ أم أن ظاهر حال كل متكلم أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده فِي مجموع كلماته طيلة عمره، لا فِي شخص هذا الكلام. أيهما هو الظهور الْحَالِيّ الْعُرْفِيّ الْعُقَلاَئِيّ للمتكلمين؟
 فإن بنينا عَلَىٰ الأوّل فَسَوْفَ يكون الحق مع الخُراسانيّ؛ لأَنَّهُ قد بيَّن تمام مراده فِي هذا الكلام، فإذا لم يكن فِي هذا الكلام قيدٌ فَيَكُونُ مراده هو المطلق؛ لأَنَّ ظاهر حاله هو أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده الْجِدِّيّ فِي شخص هذا الكلام ولا يوجد فِي شخص هذا الكلام قيدٌ.
 وأمّا إن بنينا عَلَىٰ الثَّانِي فلا يكون كلامه مخالفاً لظهور حاله، والأصل عدم المخالفة؛ إِذْ أَنَّ الأصل فِي كُلّ متكلم أَنَّهُ يتكلم وَفق الأصول الْعُقَلاَئِيَّة الجارية فِي المحاورات، ومن جملة هذه الأصول أن كلّ متكلم بصدد بيان تمام مراده الْجِدِّيّ فِي شخص كلامه. فإذا لم يذكر قيداً مُتَّصِلاً فِي شخص كلامه واستقر الكلام الأوّل وَصَحَّ السُّكوت عليه، يكون ظاهر حاله أَنَّهُ بيَّن كلَّ مراده فِي هذا الكلام، وكلُّ مراده هو اسم الجنس؛ لأَنَّهُ مطلقٌ. فَيَكُونُ الحق مع صاحب الكفاية من أن المقيِّد المنفصل لا يهدم هذا الظُّهُور المستقَرّ فِي الإطلاق.
 إذن، أصبحنا أَمام ظهور فعلي ناجز جاهز قائم، ومن ثَمَّ إن جاء كلام آخر مخالف، فَسَوْفَ يخالف هذا الظُّهُور ويكذّبه قائلاً: إن ما يظهر من هذا الكلام لَيْسَ بمرادٍ جِدّاً.
 وحينئِذٍ يجب الرجوع إلى أساليب الجمع الْعُرْفِيّ، فقد يُقدِّم الجمعُ العرفي الثَّانِي عَلَىٰ الأوّل، أي: يقول: إن ذلك يوجب هدم حجية هذا الظُّهُور، لا أَنَّهُ ينفي وينسف ظهوره من الأساس. فشأن المقيِّد المنفصل شأن المخصص المنفصل. فعلى سبيل المثال حينما يقول: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» ثُمَّ يخصصه قائلاً: «لا تكرم العالم الفاسق» لا يكون قد هدَّم بهذا التخصيص ظهورَ الكلام الأوّل فِي العموم، بل يبقى الكلام الأوّل (حتّى بعد مجيء المخصص المنفصل) ظاهراً فِي العموم والشمول لكل العلماء حتّى ذاك الشخص المستثنى، لكن هذا الظُّهُور لَيْسَ بمراد من الْمُتِكَلِّم بقرينة المخصص المنفصل، ولا يمكن الاعتماد عَلَىٰ هذا الظُّهُور الأول، أي: لَيْسَ حجّة. فلا يرتفع هذا الظُّهُور وإنَّما ترتفع حُجِّيَّته بمجيء المخصص المنفصل.
 هذا إذا بنينا عَلَىٰ أن الصِّيَاغَة الفنية للظهور الْحَالِيّ الَّذي تكلمنا عنه عبارة عن أن الْمُتِكَلِّم إِنَّمَا هو بصدد بيان تمام مرامه فِي شخص كلامه.
 وأمّا إذا بنينا عَلَىٰ الصِّيَاغَة الأخرى الَّتي تقول بأن صياغة الظُّهُور الْحَالِيّ هي أن ظاهر حال كل الْمُتِكَلِّم أَنَّهُ بصدد بيان تمام مرامه فِي مجموع كلامه، لا فِي خصوص هذا الكلام، فَسَوْفَ يكون الحق مع النائيني القائل بأن المقيِّد المنفصل يهدم الظُّهُورَ؛ لأَنَّهُ وإن صَحَّ أَنَّهُ ذكر فِي كلامه الأوّل اسمَ الجنس ولم يذكر القيد، لكن مع ذلك لا مانع من أن يريد بكلامه الأوّل المقيَّد؛ فلا يكون مخالفاً لظهوره الْحَالِيّ؛ لأَنَّ ظهوره الْحَالِيّ هو أن الكلام الأوّل مع الكلام الثَّانِي ومع الكلام الثَّالث و... كُلّهَا يُبَيِّن مرادَه. فكلامه الأوّل لَيْسَ ظاهراً فِي أَنَّهُ أراد الإِطْلاَق حتّى يكون الثَّانِي مكذِّبا للكلام الأوّل. فلا يكون الإِطْلاَق منعقداً بالكلام الأوّل. أي: لا يكون هناك مخالفة بين ظاهر كلامه الأوّل وبين ما أراده من التَّقْيِيد.
 إذن، فكل من يبني عَلَىٰ أن إحدى مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ عدمُ ذكر القيد المتصل، فهذا معناه أن الظُّهُور الْحَالِيّ عند هذا الشخص إِنَّمَا هو الصِّيَاغَة الأولى (أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده فِي شخص كلامه)، ومن هنا سوف تكون إحدى مقدّمات الحِكْمَة عند هذا الشخص عبارةً عن عدم ذكر القيد المتصل. هذا عند صاحب الصِّيَاغَة الأولى.
 أَمَّا من يبني عَلَىٰ أن إحدى مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ عبارة عن عدم ذكر القيد ولو مُنْفَصِلاً، فمعناه أن الظُّهُور الْحَالِيّ عند هذا الشخص هي الصِّيَاغَة الأوسع الَّتي ذكرناها، وهي أن هذا الْمُتِكَلِّم بصدد بيان مراده فِي مجموع كلامه.
 هذا بيان لأصل الخلاف وجذره ومنشأه، أَمَّا أَنَّ «الحق مع من؟» فلا إِشْكَال فِي أن الحق مع صاحب الكفاية، أي: أن المقيِّد المنفصل لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بأصل الظُّهُور فلا يهدم أصل الظُّهُور والإطلاق؛ فإن الإِطْلاَق ينعقد للكلام بمجرّد عدم ذكر المقيِّد المتصل. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. أي: ظاهر حال الْمُتِكَلِّم حينما يتصدَّى لإبراز معنىً من المعاني بكلامٍ، فظاهر حاله هو أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده بشخص كلامه؛ لأَنَّهُ يلزم عَلَىٰ كلام النائيني لازمٌ باطل يكشف ببطلانه عن بطلان الملزوم.
 واللازم الباطل هو أن هذا الظُّهُور الْحَالِيّ الَّذي ذكرناه (من أن الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مراده) إذا كان كما يقوله الميرزا (بأن ظاهر حال كل متكلم أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده بجموع كلامه)، فلازمه أَنَّهُ لا يجوز لنا أن نتمسك بالإطلاق فِي كُلّ مورد نحتمل فيه صدور مقيِّد منفصل؛ لأَنَّ الظُّهُور الْحَالِيّ هو أن الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مراده فِي مجموع كلامه، أي: مراد الْمُتِكَلِّم مبيَّن فِي مجموع كلامه، هذا الكلام و ما سيصدر وما صدر مستقلاًّ عنه فِي كلام سابق. فإذا احتملنا أن له كَلاَماً آخر فِي نفس هذه المسألة فلا نقدر أن نتمسك بإطلاق هذا الكلام.
 فاللاَّزِم الباطل لكلام النائيني هو نسف أصالة الإِطْلاَق من أساسها، بينما يكثر وجود المقيِّدات فِي الشّريعة، فعلى سبيل المثال يتحدث الإمام الصادق عليه السلام بحديث شريف ثُمَّ يرد المقيِّد فِي حديث الإمام الرضا عليه السلام أو الإمام الهادي عليه السلام.
 إذن، اللاَّزِم الباطل هو أَنَّهُ بناء عَلَىٰ هذا الكلام لا يمكن حمل هذا الكلام الأوّل عَلَىٰ الإِطْلاَق، أي: يكون احتمال المقيِّد المنفصل مثل الاحتمال المقيِّد المتصل تماماً، فَكَمَا أَنَّ احتمال المقيِّد المتصل يمنع من حمل الكلام عَلَىٰ الإِطْلاَق فكذلك يمنع المقيِّد المنفصل عن انعقاد الإِطْلاَق عَلَىٰ مبنى الميرزا، وهذا فِي الحقيقة تعطيل لأصالة الإِطْلاَق، فِي كُلّ ما يحتمل فيه التَّقْيِيد المنفصل، وغالباً وعادةً نحتمل فِي الخطابات الشَّرعيَّة وجود تقييداتٍ منفصلة.
 هنا، قد يُدافع عن الميرزا ويُنتصر له بأن له ولمن يقول بمقالته (= أن المقيِّد المنفصل يهدم أصل الظُّهُور) أن يتمسّك بطريقة لنفي هذا الاحتمال وَالطَّرِيقَة هي التَّمسُّكُ بأصالة عدم القرينة لنفي وجود قرينة منفصلة، وحينئِذٍ يَتُِمّ الإطلاق (لانتفاء القرينة المتَّصلة والمنفصلة).
 إلاَّ أن هذا الدفاع لا ينفع؛ لأَنَّنَا نتساءل: هل أن المقصود من «بأصالة عدم القرينة» أَنْ تَكُونَ أصلاً عُقَلاَئِيّاً أم أصلاً شَرْعِيّاً (كاستصحاب عدم القرينة)؟
 إذا كان المقصود هو الأوّل، فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ العقلاء يجرون هذا الأصل الْعُقَلاَئِيّ عند احتمال وجود قرينة منفصلة عَلَىٰ خلاف ظهور فعليّ ناجز وجاهز ومستقر ولا يرتّبون أثراً عَلَىٰ احتمال القرينة المنفصلة، ولكن أين نحن من ذاك الظُّهُور القائم فِي المقام؟ فإن المفروض عدمُ وجود ظهور فِي المقام؛ لأَنَّ الظُّهُور عند الميرزا متقوّم بأن لا تكون هناك قرينة منفصلة. فالظهور هنا متوقّف عَلَىٰ عدم القرينة المنفصلة فكيف نقول بأن العقلاء يجرون هنا أصالةَ عدم القيد والقرينة؟
 فلا تجري فِي المقام أصالة عدم القرينة عند العقلاء.
 وإن أريد بأصالة عدم القرينة الأصل الشَّرْعِيّ والتَّعَبُّد الشَّرْعِيّ (كاستصحاب عدم القرينة)، بأن يقول الميرزا بأننا نقطع بعدم وجود قرينة منفصلة سابقاً (ولو قبل الشّريعة)، وبعد التشريع نشك بأَنَّهُ هل يوجد تقييد منفصل لهذا التشريع أو لا؟ ليَكُون الأصل عدمه، فنستصحب عدم القرينة المفصلة.
 وحينئِذٍ يطرح السُّؤَال نفسه بأنكم تريدون إثبات أي شيء بهذا الاستصحاب؟ فهل تريدون إثبات أن مراد الْمُتِكَلِّم هو المطلق؟ إن كان هذا هو المقصود فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّه «أصل مثبت». أي: توجد ملازمة عَقْلِيَّة أو عُرْفِيَّة بين أن لم يكن قد ذكر القيد المنفصل وبين أن يكون قد أراد الإِطْلاَق. وأنت استصحبتَ عدم القيد لكي تثبتَ هذا اللاَّزِم العَقْلِيّ وهو أنه «إذن أراد المطلق». وهذا من أظهر مصاديق الأصل المثبت؛ لأَنَّ إرادته الإطلاقَ لَيْسَ أثراً شَرْعِيّاً يترتَّب على المستصحَب؛ فَإِنَّ الآثار الشَّرعيَّة تترتّب عَلَىٰ المستصحَب، وليس الآثار الْعَقْلِيَّة؛ فإن المستصحَب عبارة عن «عدم ذكر القيد المنفصل» ولطالما ذكر اسم الجنس و لم يذكر اسم الجنس فَيَكُونُ قد أراد المطلق. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذه النَّتِيجَة القائلة «إذن أراد المطلق» لازم غير شَرْعِيّ، بل هو لازم عقلي أو عُرْفِيّ. إذن هذا الاستصحابُ لا ينتجُ.
 وقد يتخيّل كما ذكر النائيني هذا التخيل حسب تقريرات تلميذه البارز السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله( [1] ) وهو أن بالإمكان أن يتخلص النائيني ببيان يأتي مع جوابه غداً إن شاء اللٰه تعالى. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. 1593 كلمة.


[1] - أجود التقريرات: ج1، ص530.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo