< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/02/01

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 انتهينا إلى المسألة الخلافية الثَّانية وهي عبارة عن أن وجود القَدْر المتيَقَّن فِي عالم الخطاب والكلام، هل يضرّ بالإطلاق ويمنع عن دلالة الكلام عَلَىٰ الإِطْلاَق كالقرينة المتَّصلة فِي المقيِّد المتصل أو لا؟
 توضيح ذلك هو أن الكلام الَّذي يصدر من المتكلم له ثلاث صور:
 الصُّورَة الأولى: عدم وجود القَدْر المتيَقَّن، لا فِي عالم الخطاب ولا فِي خارج مقام التخاطب.
 الصُّورَة الثَّانية: وجود القَدْر المتيَقَّن فِي الكلام، إلاَّ أَنَّهُ غير معلوم من مقام التخاطب، بل هو معلوم من خارج الكلام والخطاب، وهذا ما يسمونه بالقدر المتيقن خارج مقام التخاطب.
 والصورة الثَّالثة: وجود القَدْر المتيَقَّن من داخل الخطاب، وهذا ما يُسَمَّى بالقدر المتيقن فِي مقام التخاطب.
 أَمَّا الصُّورَة الأولى فالإطلاق تامّ فيها بلا خلاف.
 وأمّا الصُّورَة الثَّانية فالمشهور ذهب إلى تَمَامِيَّة الإِطْلاَق فيها.
 وأمّا الصُّورَة الثَّالثة فهي محلّ النِّزَاع والخلاف بين الأُصُولِيِّينَ.
 أَمَّا شرح الصُّورَة الأولى فكما إذا قال المولى: «تَصَدَّق عَلَىٰ الفقير» ولا يوجد لدينا فرد متيقن بأَنَّهُ هو مراد المولى من أفراد الفقير؛ فَإِنَّ أفراد الفقير كثيرة كالفقير العالم والجاهل، والفقير العادل والفاسق، والفقير المجاهد والقاعد وهكذا.. وكلّ هذه الأفراد متكافئة فِي احتمال ثبوت هذا الحكم (= وجوب التصدق) له؛ إذ يحتمل أن يكون هذا الحكم مُخْتَصّاً بالفقير الهاشمي كما يحتمل اختصاصه بباقي أفراد الفقير. ومعنى ذلك عدم وجود فرد أولى من غيره فِي ثبوت الحكم له، أي: عدم وجود القَدْر المتيَقَّن من بين أفراد العالم.
 فقلنا بأَنَّهُ لا خلاف ولا إِشْكَال فِي انعقاد الإِطْلاَق لكلام المولى فِي هذه الصُّورَة.
 أَمَّا شرح الصُّورَة الثَّانية فهو ما إذا لم تكن أفراد المطلق الوارد فِي كلام الإمام × (تصدق عَلَىٰ الفقير) متكافئة ومتساوية فِي احتمال ثبوت هذا الحكم لها، بل هناك بعض الأفراد هي أولى من غيرها من ثبوت هذا الحكم لها. لكِنَّنََا علمنا بهذه الأَوْلَوِيَّة من خارج هذا الخطاب، كما إذا علمنا من الآية الكريمة: {فَضَّلَ اللٰهُ المجاهدينَ عَلَىٰ القاعدينَ دَرَجةً وكُلاًّ وَّعَدَ اللٰهُ الحسنى وفَضَّلَ اللٰهُ المجاهدينَ عَلَىٰ القاعدينَ أجراً عظيماً}( [1] ) الَّتي هي خارج عن خطاب «تصدق عَلَىٰ الفقير» أن المجاهد أولى من الفقير القاعد فِي ثبوت هذا الحكم له.
 أو كمثالنا السَّابِقَ وهو حديث «ثمن العذرة سحت» الوارد فِي كتاب المكاسب؛ فإن «العذرة» لفظ مطلق يشمل عذرةَ كل من الإنسان وغير الإنسان مِمَّا يؤكل لحمه، وممَّا لا يؤكل لحمه. لكن القَدْر المتيَقَّن من مصاديق العذرة الَّذي هو أولى من غيره فِي ثبوت هذا الحكم له (= كون ثمنه سحتاً) هو عذرة الإنسان والحيوان الَّذي لا يؤكل لحمه. أي: لا نحتمل أن قوله: «ثمن العذرة سحت» مختص بعذرة الحيوان الَّذي يؤكل لحمه بحيث لا يشمل عذرة الإنسان والحيوان الَّذي لا يُحرم أكل لحمه.
 ذهب الْمَشْهُور هنا إلى أن وجود القَدْر المتيَقَّن فِي خارج التخاطب لا يضرّ بالإطلاق. فقوله: «ثمن العذرة سحت» مطلق يشمل جميع أنواع العذرات؛ لأَنَّ الإِطْلاَق تامّ (رغم أن بعض أفراد العذرة قدر متيقن) لٰكِنَّهُ من خارج الخطاب.
 إذن، إن وجود القَدْر المتيَقَّن من خارج الخطاب لا يضرّ بإطلاق الخطاب، أي: لا يضرّ بذاك الظُّهُور الْحَالِيّ (الَّذي تحدثنا عنه وقلنا إِنَّه هو الأساس فِي دلالة الكلام عَلَىٰ الإِطْلاَق، بأن الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام مراده بشخص كلامه). فهنا إن أراد المولى من «العذرة» مطلقَ العذرة، فشخص هذا الكلام قد وفى بتمام مراده. أَمَّا إن أراد من كلمة «العذرة» فِي هذا الخطاب فرداً خاصّاً (= المقيَّد)، فلا يفي كلامه لا بتمام مراده؛ لأَنَّهُ لا يوجد فِي كلامه ما يَدُلّ عَلَىٰ الْخُصُوصِيَّة والقيد. فيكون قد خالف هذا الظُّهُور الْحَالِيّ وأضرّ به، بينما مقتضى الظُّهُور الْحَالِيّ أَنَّهُ بيَّن كلَّ مراده فِي شخص كلامه. فالمشهور ذهب إلى تَمَامِيَّة الإطلاق وإحكامه فِي هذه الصُّورَة.
 أَمَّا شرح الصُّورَة الثَّالثة: فهو فيما إذا تكلم المولى بكلام مطلق (مثل «أكرم الفقير) ولم تكن أفراد المطلق (الفقير فِي المثال) متكافئة ومتساويةً فِي احتمال ثبوت هذا الحكم (وُجُوب الإِكْرَامِ) لها، بل كان يحظى بعض الأفراد بالأولوية وبكونه القَدْر المتيَقَّن، كما إذا كان الفرد وقع موقع سؤال السائل (مثل «هل أكرِمُ الفقير الهاشمي»؟) فأجاب الإمام × عنه (بـ: «أكرم الفقير»)، فالقَدْر المتيَقَّن من أفراد الفقير هو مورد سؤال السائل (أي: الفقير الهاشمي) ولا يُعقل أن يجيب الإمام × عمَّا لَيْسَ هو مورد السُّؤَال؛ لأَنَّهُ خلاف المحاورة. إذن، كون الفقير الهاشمي هو القَدْر المتيَقَّن أمر مقطوع به من خلال الخطاب.
 هذا هو الَّذي وقع فيه الخلاف، بأَنَّهُ مع وجود القَدْر المتيَقَّن فِي داخل الخطاب، هل يتشكل إطلاق للكلام، بحيث يشمل غير هذا القَدْر المتيَقَّن؟ فقوله: «أكرم الفقير» هل يشمل «الفقير غير الهاشمي» (بعد أن عرفنا أَنَّهُ يشمل الفقير الهاشمي لأَنَّهُ القَدْر المتيَقَّن)؟ هل للكلام إطلاق يشمل غير المورد الَّذي هو القَدْر المتيَقَّن؟ أو لَيْسَ له إطلاق؛ لأَنَّ وجود القَدْر المتيَقَّن يمنع من أن ينعقد للكلام إطلاق. هنا ذهب صاحب الكفاية إلى المنع وهناك من ذهب إلى خلاف ذلك.
  هذا هو الخلاف الَّذي أردنا أن نبيّنه. وليُعلم أن الصورتينِ الأوليينِ خارجتان عن محلّ البحث.
 وحينئِذٍ نربط هذا الخلاف الثَّانِي بما ربطنا به الخلاف الأوّل (حول المقيِّد المنفصل) أيضاً، حيث قلنا: إنَّ مدى الظُّهُور الْحَالِيّ لِلْمُتِكَلِّمِ (بأنه فِي مقام بيان تمام مراده فِي شخص كلامه كي لا يضرّ المقيِّد المنفصل بالإطلاق، أو أَنَّهُ فِي مقام بيان تمام مراده فِي مجموع كلماته حتّى يكون المقيِّد المنفصل مضراً بالإطلاق) هو المنشأ للخلاف الأوّل. فيطرح السُّؤَال نفسه هنا بأَنَّهُ إن وُجد القَدْر المتيَقَّن فِي شخص كلامه فهل يضرّ هذا القَدْر المتيَقَّن بالإطلاق؟ أي: إن أراد المولى من «أكرم الفقير» الفقيرَ الهاشميَّ يكون قد بَيَّنَ كلَّ مراده فِي شخص كلامه؛ لأَنَّ ثبوت هذا الحكم للفقير الهاشمي هو المتيقَّن من داخل الكلام. فإن أراد من «أكرم الفقير» خصوصَ الفقير الهاشمي، لا يقال بأن المولى لم يُبَيِّن كل مراده فِي شخص كلامه. وهناك من يقول هنا: إن أراد المولى منه خصوص الفقير الهاشمي لم يكن قد بيَّن كلَّ مراده فِي شخص كلامه؛ لأَنَّ كلامه لا زال عبارة عن اسم الجنس (ذات الفقير). هذا هو البحث المعروف بـ«المورد هل يخصص الوارد» وهو مُهِمّ جِدّاً فقهيّاً.
 فيقول صاحب الكفاية: إن وجود القَدْر المتيَقَّن فِي مقام التخاطب يمنع من انعقاد الإِطْلاَق للكلام. أي مثلاً: الوارد يُخَصِّصُ المورد.
 إذن، إن الشبهة الموجودة فِي ذهن صاحب الكفاية هي أَنَّهُ لو أراد المولى هنا من الكلمة خصوصَ الفقير الهاشمي مثلاً، فلم يخالف ظهوره الْحَالِيّ؛ لأَنَّ ظهوره الْحَالِيّ كان عبارة عن أن يبيّن كل مراده فِي شخص كلامه، وهو بيَّن كلَّ كلامه فِي شخص كلامه فعلاً؛ لأَنَّ وجود القَدْر المتيَقَّن فِي شخص هذا الكلام يكون كالبيان، وكما إن بيَّن القيد، أي: كالقرينة المتَّصلة، فلو كان قَدْ بَيَّنَ القيد لا يوجد اعتراض عَلَىٰ كلام المولى؛ لأَنَّهُ أراد المقيَّد وَقَدْ بَيَّنَ القيدَ. وهنا وإن لم يُبَيِّن المولى القيدَ بلسانه، لكن كون الفقير الهاشمي هو القَدْر المتيَقَّن فِي شخص هذا الكلام فهذا بمثابة أن يذكر المولى قيد «الهاشمي». إذن، إرادة المتيقن هنا لا يخالف الظُّهُور الْحَالِيّ، فنتحير بأَنَّهُ هل أراد المقيَّد أم أراد المطلق، والكلام لا يَدُلّ عَلَىٰ الإِطْلاَق. وهذه هي شبهة صاحب الكفاية القائل بأن وجود القَدْر المتيَقَّن يُخِلُّ بالإطلاق، فيصبح الكلام مُجْمَلاً بِالنِّسْبَةِ للفقير غير الهاشمي، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلى الفقير الهاشمي فهو القَدْر المتيَقَّن.
 وقد يجاب عن هذه الشُّبهَة قائلاً: إن وجود القَدْر المتيَقَّن فِي مقام التَّخاطب لا يضرّ بالإطلاق؛ لأَنَّ مفاد الظُّهُور الْحَالِيّ المتقدّم ذكره (ظهور حال الْمُتِكَلِّم فِي كونه فِي مقام بيان تمام مراده فِي شخص كلامه) بالضَّبط هو شيئان:
 الأوّل: أن الْمُتِكَلِّم بين كل مراده فِي شخص هذا الكلام.
 الثَّانِي: أن ما بيَّنه فِي شخص هذا الكلام هو تمام المراد، أي: غيره لَيْسَ بمراد.
 يأتي شرحه غداً.


[1] - سورة النساء (4): الآية 95.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo