< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/02/09

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 بعد أن اتَّضَحَ جوهر مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ وروحها وحالُ المسألتين الخلافيتين (المقيِّد المنفصل والقَدْر المتيَقَّن فِي مقام التخاطب) المترتبتين عَلَىٰ هذا الجوهر وهذه الروح، نأتي لنطبق ما ذكرناه عَلَىٰ مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ الَّتي ذكرها الأصحاب فِي كتبهم، فقد ذكر الخُراسانيّ( [1] ) أن مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ ثلاث:
 المقدّمة الأولى: كون الْمُتِكَلِّم فِي مقام البيان، لا فِي مقام الإهمال والإجمال.
 المقدّمة الثَّانية: عدم نصب قرينة عَلَىٰ القيد.
 المقدّمة الثَّالثة: عدم وجود قدر متيقن فِي مقام التخاطب.
 أَمَّا المقدّمة الأولى: فقد ذكر الخُراسانيّ أنَّها تُثبَتُ بالأصل الْعُقَلاَئِيّ حيث يقال: «إن الأصل فِي كُلّ متكلّم أن يكون فِي مقام البيان، لا فِي مقام الإهمال والإجمال». وقلنا فيما سبق: إن هذه المقدّمة تعبّر بشكلٍ وآخرَ عن ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ الآنف الذكر (وَالَّذِي قلنا إِنَّه الأساس فِي استفادة الإِطْلاَق) وبناءًا عليه نقول للخراساني هنا:
 1)- إن قصدتم بهذا الأصل الْعُقَلاَئِيّ ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ (وإن كان تعبيركم عن الظُّهُور بالأصل تعبيراً مسامحيّاً) فهذا عين ما قلناه سابقاً (من أن ظاهر حال كل متكلم أَنَّهُ بصدد بيان مرامه وليس بصدد إجمال مرامه).
 2)- وأمّا إذا كان مقصودكم منه الْحُجِّيَّة والقرار العُقَلاَئِيّ الموجود (كما هو الظَّاهِر والمتعارف من كلمة «الأصل»)، أي: تريدون أن تقولوا: إن العقلاء تبانوا وقرّروا حمل هذه الكلمة عَلَىٰ هذا المحمل (أَنَّهُ بصدد البيان لا الإجمال والإهمال) بحيث يكون كل كلامٍ حجّةً تَعَبُّدِيَّة وأمارةً عُقَلاَئِيَّة عَلَىٰ أن الْمُتِكَلِّم كان فِي مقام البيان ولم يكن فِي مقام الإهمال والإجمال.
 فهذا يرد عليه أَنَّهُ لا يوجد عندنا أصل من هذا القبيل فِي مقابل أصالة الظُّهُور وبغض النَّظَر عن الظُّهُور الَّذي ذكرناه. أي: لا يوجد فِي المقام أصل تعبدي عُقَلاَئِيّ غير أصالة الظُّهُور، ولا يوجد تبانٍ مِن قِبَلِ العقلاء عَلَىٰ حمل كلام الْمُتِكَلِّم عَلَىٰ هذا المحمل لَيْسَ إلاَّ صغرى من صغريات أصالة الظهور. أي: إن أرجعنا أصالة «كون الْمُتِكَلِّم فِي مقام البيان» إلى أصالة الظُّهُور نفسها فبها المراد، وأَمَّا إن أريد بها شيء آخر غير أصالة الظُّهُور فنحن ننكره؛ إذ لا يوجد شيء آخر غير أصالة الظُّهُور ولا نحتاج أيضاً إلى شيء غير أصالة الظُّهُور.
 إذن، فجوهر هذه المقدّمة الأولى من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ هو هذا الظُّهُور الْحَالِيّ القائل بأن الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام مرامه بكلامه.
 لفتة نظر:
 ولا بُدَّ من الالتفات فِي خصوص هذه المقدّمة الأولى إلى أنَّ هذه المقدّمة لا تُعَيِّنُ أنَّ الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان أي شيء؟ وإنَّما بعد تشخيص أن المتكلم بصدد بيان الشَّيْء الفلاني (وذلك بالاستعانة من ظهورات الكلام) يأتي دور هذه المقدّمة الأولى (أو قل: دور هذا الظُّهُور الْحَالِيّ) ليقول: إن الأصل فِي ذاك الشَّيْء الَّذي كان الْمُتِكَلِّم بصدد بيانه أَنَّ الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمامه لا بصدد بيان بعضه وقطعةٍ منه. أي: دور هذه المقدّمة الأولى من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ يأتي بعد أن يتعيَّن أن معنى كلام الْمُتِكَلِّم ما هو؟
 فعلى سبيل المثال إن قال المولى: «كلوا مِمَّا افترسه الكلبُ»، فيجب علينا أوَّلاً أن نُعَيِّنَ أَنَّهُ ما هو الظَّاهِر من هذه الجملة؟ هل أن الأمر بالأكل مِمَّا افترسه الكلبُ إرشادٌ إلى طهارةِ فريسة الكلب؟ أو أَنَّهُ إرشاد إلى تذكيته؟ وقبل هذا التّعيين لا يأتي دور مقدّمة الحِكْمَة، بل يأتي دورها بعد أن استظهرنا أَنَّهُ إرشاد إلى التذكية ليقول: ظاهر حال الْمُتِكَلِّم الَّذي أصبح بصدد بيان تذكية فريسة الكلب أَنَّهُ بيَّن كلَّ العناصر الدخيلة فِي تذكية الفريسة (أي: بيَّن كل ذاك المعنى الَّذي استظهرناه من كلامه). فإذا لم يأت بقيد خاصّ ولم يذكر نَوْعاً خاصّاً من الأكل، أو نَوْعاً خاصّاً من الافتراس، أو ما ذكر شرطاً خاصّاً، فحينئذٍ نتمسك بالإطلاق ونقول: إن ظاهر حاله أَنَّهُ بصدد بيان كل ما له دخل فِي التذكية وما ذكره ولم يذكر القيد. أَمَّا إذا لم يَتَعَيَّنْ عندنا معنى الكلام بعدُ، فلا معنى لأَنْ تأتي المقدّمة الأولى.
 نكتة مهمة:
 ومن هنا حينما يقال فِي كثير من الموارد: «هذا الكلام لَيْسَ فِي مقام البيان من هذه الجهة كي تتمسك بإطلاقها»، هذا الكلام لا ينافي هذا الظُّهُور الْحَالِيّ (المقدّمة الأولى من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ)؛ فَإِنَّ هذا الفقيه الَّذي يقول بهذا الكلام يعترف بهذه المقدّمة أيضاً ولا يريد النقاش فيها، بل يقصد بالأصل والمقدّمة الأولى لزوم تعين وَتشَخّص معنى الكلام لنقول بعد ذلك: إِنَّه كان بصدد بيان كل هذا المعنى، لا بعضه.
 فليست وظيفة هذا الظُّهُور الْحَالِيّ تعيين مفاد الكلام، بل تعيين مفاد الكلام يأتي بالظهورات اللَّفظيَّة المقرَّرة، وإنَّما يأتي الظُّهُور الْحَالِيّ بعد تعيّن ظاهر الكلام ليقول: إن ظاهر حال الْمُتِكَلِّم هو أَنَّهُ بصدد بيان تمام ما هو مراده.
 مثلاً إن أراد فقيهٌ أن يتمسّك بإطلاق {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فِي الآية الشريفة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}( [2] ) ويقول: يجوز أكل كلّ ما افترسه الكلب؛ لأَنَّ هذه الآية تثبتُ تذكيةَ كل ما افترسه الكلب، حتّى الأرنب الَّذي نشك فِي أَنَّهُ هل يجوز أكل لحمه أو لا، فَتَدُلُّ الآية عَلَىٰ جواز أكله، مَعَ أَنَّ جواز أكل لحم الأرنب غير ثابت لدينا من خارج هذه الآية. فيرد عَلَىٰ هذا الكلام بأنَّ الآية ليست بصدد بيان هذه الجهة، أي: أنَّ الآية ليست بصدد بيان أنّ أيّ حيوان يجوز أكل لحمه ذاتاً وأي حيوان لا يجوز أكل لحمه ذاتاً ومن غير تذكية.
 هذا تمام الكلام في المقدّمة الأولى.
 وأَمَّا المقدّمة الثَّانية: فهي عبارة عن أنْ لا ينصب الْمُتِكَلِّمُ قرينةً عَلَىٰ التَّقْيِيد. وهذه المقدّمة ضرورية؛ لأَنَّ الْمُتِكَلِّم حينما ينصب قرينةً عَلَىٰ التَّقْيِيد يكون قَدْ بَيَّنَ المقيَّد فيما إذا كان مراده المقيَّد، ولطالما بيّن المقيَّد فذاك الظُّهُور الْحَالِيّ لا يَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِيَّة عَلَىٰ أَنَّهُ أراد المطلق؛ لأَنَّ ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ إِنَّمَا كان يَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِيَّة عَلَىٰ أن الْمُتِكَلِّم أراد الإِطْلاَق فيما إذا لم يُبَيِّن الْمُتِكَلِّم مرامه فِي فرض إرادته المقيَّد. أي: فِي الحالة الَّتي إن كان الْمُتِكَلِّم يريد المقيَّد لم يكن قَدْ بَيَّنَ المقيَّد. فِي هذه الحالة كُنَّا نقول: إذن ظاهر حاله أَنَّهُ أراد المطلق. أَمَّا إذا بيّن القيد فليس ظاهر حاله أَنَّهُ أراد المطلق؛ لأَنَّهُ بيّن القيد.
 إذن، الأصل والشرط والسبب الضروري فِي تكوّن الدِّلاَلَة الالتزامية لذاك الظُّهُور الْحَالِيّ عَلَىٰ الإِطْلاَق هو أَنْ لاَّ يَكُونَ الْمُتِكَلِّم قَدْ بَيَّنَ القيد والْمُقَيَّد. أي: أن لا ينصب قرينة عَلَىٰ القيد؛ فحينئذٍ يصبح هذا سبباً فِي القول بأَنَّهُ أراد الإِطْلاَق؛ لأَنَّ ظاهر حاله أن تمام مراده مُبَيَّنٌ.
 إذن، أصل هذه المقدّمة واضحة وضرورية.
 لكن الكلام الَّذي لا بُدَّ من طرحه فِي المقام هو فِي معرفة صياغة هذه المقدّمة؛ إِذْ أَنَّ هناك اِخْتِلاَفاً فِي صياغتها عَلَىٰ قِسْمَيْنِ، فقد ذهب الخُراسانيّ إلى الصِّيَاغَة الأولى القائلة بأن من مقدّمات الحكمة عدمُ نصب القرينة المتَّصلة عَلَىٰ القيد. بينما ذهب النائيني ومدرسته إلى الصِّيَاغَة الثَّانية القائلة بأن من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ عدم نصب القرينة لا المتَّصلة ولا المنفصلة. أي: إن القرينة المنفصلة عندهم تمنع من الإِطْلاَق وتضر بانعقاد الإِطْلاَق.
 فهنا عندما نريد دراسة هذه المقدّمة الثَّانية يجب أن نعرف ما هي الصِّيَاغَة الصحيحة لهذه المقدّمة؟ وقد ذكرنا سابقاً أن من نتائج الفرق الصياغتين هو أَنَّهُ بناء عَلَىٰ الصِّيَاغَة الأولى لا تزاحم القرينة المنفصلةُ أصلَ الإِطْلاَق بل يزاحم حجيّتَه، بينما عَلَىٰ الصِّيَاغَة الثَّانية (صياغة الميرزا) تزاحمُ القرينةُ المنفصلةُ أساس الإِطْلاَق.
 هَاتَانِ الصياغتان تشتركان فِي «عدم نصب قرينة متصلة عَلَىٰ القيد» وتفترقان فِي «عدم نصب قرينة منفصلة» وَالَّتِي يقول به الميرزا دون الآخوند، وإذا أردنا دراسة ما به الاشتراك علينا أن نقول: توجد ثلاثة احتمالات فِي تفسيره نذكرها غداً إن شاء اللٰه تعالى.


[1] - كفاية الأصول: ج1، ص384، طبعة المشكيني.
[2] - سورة المائدة (5): الآية 4.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo