< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/02/13

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: مقدّمات الحكمة/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 كانَ الكلامُ في المقدّمة الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، فقلنا: إن لهذه المقدّمة صياغتين، أحدهما ما أفاده الخُراسانيّ والأخرى ما ذكرها الميرزا، ثُمَّ قلنا: إن هَاتَيْنِ الصياغتين مشتركتان فِي اشتراط عدم نصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد وتمتاز الصِّيَاغَة الثَّانية باشتراط عدم نصب قرينة منفصلة أيضاً عَلَىٰ التَّقْيِيد. ثُمَّ تحدثّنا عن ما به اشتراك الصياغتين وَقُلْنَا: إِنَّ هناك ثلاثة احتمالات وتفاسير فِي اشتراك عدم نصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد، تقدّم التَّفْسِيران الأوّل وَالثَّانِي منها، وبقي التَّفْسِير الثَّالث لنذكره فِيما يلي:
 الاحتمال أو التَّفْسِير الثَّالث: أَنْ يَكُونَ المقصود بـ«القرينة المتَّصلة» الَّتي يكون عدمها من مقدّمات الحِكْمَة وَشَرْطاً لانعقاد الإِطْلاَق ما يشمل الكلام الَّذي يكون - لو خُلّي وطبعه - دالاًّ عَلَىٰ عدم ثبوت الحكم لغير المقيَّد، وإن كان هذا الكلام عبارة عن مطلق آخر، كما إذا قال: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم الفاسق».
 فليس المراد من عدم نصب قرينة متصلة - بناءًا عَلَىٰ هذا الاحتمال - خصوص عدم نصب ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ عَلَىٰ القيد (مثلما كان بناءًا عَلَىٰ الاحتمال الأوّل) ولا خصوص عدم الإتيان بكلام دالّ فعلاً عَلَىٰ عدم ثبوت الحكم لغير المقيَّد (كما كان بناءًا عَلَىٰ الاحتمال الثَّانِي) بل يشمل أيضاً عدم الإتيان بكلام يَدُلّ - ولو بإطلاقه - على عدم وجوب إكرام العالم الفاسق. فلا تَتُِمّ مقدّمة الحِكْمَة هنا، لا فِي قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» ولا فِي قوله: «لا تكرم الفاسق»؛ لأَنَّ كلا منهما مبتلى بكلام لو خلي وطبعه دلَّ عَلَىٰ عدم ثبوت الحكم لغير المقيَّد. إذن، بناء عَلَىٰ هذا التَّفْسِير أو الاحتمال الخامس لا ينعقد الإِطْلاَق في كل هذه الأمثلة الخمسة.
 هذه هي الاحتمالات أو التفاسير الثَّلاثة للقرينة المتَّصلة الَّتي يُشترط عدم وجودها لكي يَتُِمّ الإطلاق. وكما لاحظتم أنَّها مُتدرّجة من الأضيق إلى الأوسع؛ فَإِنَّ دائرة القرينة المتَّصلة بناءًا عَلَىٰ الاحتمال الأول أضيق من دائرة القرينة المتَّصلة من الاحتمالين الأخيرين، كما أنَّها بناءًا عَلَىٰ الاحتمال الثَّانِي أضيق من دائرة الاحتمال الثَّالث وأوسع من دائرة الاحتمال الأوّل؛ فَإِنَّنَا فِي الاحتمال الأوّل كُنَّا نكتفي فِي دائرة القرينة المتَّصلة بخصوص ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ، وفي الاحتمال الثَّانِي توسّعنا وقلنا: «ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ أو حتّى إذا لم يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ لكن يَدُلّ فعلاً عَلَى التَّقْيِيد»، بينما توسعنا أكثر فأكثر فِي الاحتمال الثَّالث، حيث قلنا: «حتّى لَوْ لَمْ يَكُنْ صالحاً لِلْقَرِينِيَّةِ ولم يكن دالاًّ فعلاً عَلَىٰ التَّقْيِيد لكن كان لو خلي وحده لَدَلَّ عَلَىٰ التَّقْيِيد»، أي: هذا المقدار يكفي فِي القرينة المتَّصلة.
 وفي المقابل دائرة الإِطْلاَق عَلَىٰ الاحتمال الأوّل أوسع منها عَلَىٰ الاحتمالين الأخيرين؛ لأَنَّه عَلَىٰ الاحتمال الأوّل يَتُِمّ الإِطْلاَق فِي المثال الرَّابع والخامس، أَمَّا على الاحتمال الثَّانِي يَتُِمّ الإِطْلاَق فقط فِي المثال الرَّابع، بينما لا يَتُِمّ الإطلاق عَلَىٰ الاحتمال الثَّالث فِي شيء من الأمثلة الخمسة).
 فلو قال مثلاً: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم الفاسق» (= المثال الرَّابع) أو قال مثلاً: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم كل فاسق» (المثال الخامس)، فهنا يَتُِمّ الإِطْلاَق فِي كلمة «عالم» فِي كلا المثالين بناءًا عَلَىٰ الاحتمال الأوّل؛ لأَنَّ مقدّمة الحِكْمَة محفوظة، وبناءًا عَلَىٰ الاحتمال الثَّانِي يَتُِمّ الإِطْلاَق فِي المثال الرَّابع، ولٰكِنَّهُ لَيْسَ تامّاً فِي المثال الخامس، بينما إذا بنينا على الاحتمال الثَّالث لا يَتُِمّ الإِطْلاَق فِي شيء من المثالين، كالأمثلة الثَّلاثة الأولى.
 إذن، فالقدر المشترك بين هذه الاحتمالات الثَّلاثة هو «اشتراك عدم ذكر ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ بالنحو الَّذي ذكرناه فِي الاحتمال الأوّل». هذا هو القَدْر المتيَقَّن الَّذي لا نشك بأَنَّهُ شرط معتبرٌ فِي مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ؛ لأَنَّ من الواضح الَّذي لا إِشْكَال فيه هو أنَّ المرجع فِي صحَّة الاحتمالات الثَّلاثة هو ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ لِلْمُتِكَلِّمِ، وقد قلنا إِنَّه يَدُلّ بالالتزام عَلَىٰ أن الْمُتِكَلِّم أراد المطلق دون المقيَّد؛ لأَنَّهُ لو أراد المقيَّد رغم أَنَّهُ لم يُبَيِّن ذلك، لزم خلف الظُّهُور الْحَالِيّ الَّذي يقول بأن الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مرامه بكلامه. فلا بُدَّ من معرفة أَنَّهُ متى يلزم الخلف لو أراد المقيَّدَ ومتى يرتفع الخلفُ لو أراد المقيَّد، كي نحدد بعد ذلك موقفنا من هذه التفاسير الثَّلاثة.
 ولا إِشْكَال فِي أن الْمُتِكَلِّم إذا لم يُبَيِّن القيد أصلاً بوجهٍ من الوجوه (أي: قال: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ»)، فمن الواضح فِي مثل هذه الصُّورَة أَنَّهُ لو أراد المقيَّد لزم خلف ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ، إذن فَيَدُلُّ ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ التزاما عَلَىٰ أَنَّهُ أراد المطلق ولم يرد المقيَّد.
 أَمَّا إذا بيّن المقيَّد فلا بُدَّ من أن نعرف أن أيّ مقدارٍ من بيان المقيَّد يوجب ارتفاع الخلف، بحيث لو أراد المقيَّد لا يلزم منه أن يكون خالف ظهورَ حاله؟
 الجواب عنه هو الَّذي يُحَدِّدُ موقفنا تجاه هذه التفاسير والاحتمالات الثَّلاثة المتقدّمة؛ فإن بيان المقيَّد عبارة أخرى عن القرينة المتَّصلة الَّتي يشترط عدمها فِي مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، فهنا يَتَّضِح جليّاً أن ما به الاشتراك بين الاحتمالات الثَّلاثة هو ما ذكر فِي الاحتمال الأوّل من عدم بيان ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ عَلَىٰ القيد بالنحو الَّذي ذكرناه فِي الاحتمال الأوّل. أي: عدم وجود ما يصلح لأنْ يكونَ قرينة عَلَىٰ المطلق حتّى لو بدلنا المطلق بالعامّ كما ذكرنا فِي الاحتمال الأوّل. فاشتراط عدم وجود ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ عَلَىٰ التقييد فِي الإِطْلاَق أمر واضح؛ لأَنَّهُ إن أراد المتكلم المقيَّدَ مع وجود ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ عَلَىٰ التَّقْيِيد، لا يلزم منه خلفُ الظُّهُور الْحَالِيّ. فعلى سبيل المثال إن قال: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ العادل» (= المثال الأول) لا يكون قد خالف ظهورَ حاله إن أراد خصوص العالم العادل؛ لأَنَّهُ بيّن المقيَّد فِي كلامه.
 وكذلك فِي «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم العالم الفاسق» (المثال الثَّانِي) لو أراد المقيَّد لا يكون قد خالف ظهور حاله؛ لأَنَّ ظاهر حاله أَنَّهُ فِي مقام بيان تمام مرامه بكلامه، وقد بيَّن تمام مرامه وهو «وجوب إكرام العالم العادل وعدم إكرام خصوص العالم الفاسق»، وقد بيَّنه بكلامه، فلا ينعقد الإِطْلاَق؛ لأَنَّهُ إن أراد المقيَّد لا يلزم الخلف.
 وكذلك فِي «أَكْرِمِ الْعَالِمَ وليكن العالم عادلاً» (=الاحتمال الثَّالث) حَيْث أَنَّ هذا الكلام وافٍ بتمام مرامه وهو أن الإكرام ثابت لخصوص العالم العادل، فلا ينعقد الإِطْلاَق بحيث يشمل العالم الفاسق.
 إذن، لا شكّ أن المقدار الَّذي يقوله الاحتمال وَالتَّفْسِير الأوّل مشترطٌ عدمُه لكي يَتُِمّ الإِطْلاَق؛ لأَنَّه مع وجوده لا تَتُِمّ الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِيَّة للظُّهُور الْحَالِيّ عَلَىٰ الإطلاق. فهذا النَّحْو من بيان المقيَّد يوجِب ارتفاع الخلف. فلكي تَتُِمّ الملازمة بين الظُّهُور الْحَالِيّ وبين إرادة الإِطْلاَق نحتاج إلى أن نشترط عدم وجود قرينة يكون الكلام مع وجودها وافياً بتمام المرام فِي فرض كون المرام هو المقيَّد.
 فالمقدار الَّذي يشترطه الاحتمال الأوّل لانعقاد الإِطْلاَق، لا شكّ فِي اشتراطه كما عرفنا.
 إذن، الاحتمال الأوّل صحيح، أي: هذا المقدار مُسَلَّمٌ أنَّ القرينة المتَّصلة الَّتي نشترط عدمها فِي مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ عبارة عن خصوص ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ حتّى لو بدلنا المطلق بالعامّ، يصلح للقرينة.
 يبقى أن نعرف حال التفسيرين الآخرين وهذا ما سيأتي غداً إن شاء اللٰه تعالى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo