< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: أقسام السِّيرَةِ/السِّيرَة/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الْقِسْمِ الأَوَّلِ مِنَ السِّيرَةِ وهي الَّتِي تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وتحقق فَرْداً حَقِيقِيّاً لِمَوْضُوعِ الْحُكْمِ وَذَكَرْنَا أَنَّهَا عَلَىٰ نحوين؛ إذ تَارَةً تُنقِّح مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ثُبُوتاً وأخرى تُنقِّح موضوعَه إِثْبَاتاً. وذكرنا الفرق بين هذين النحوين، ثُمَّ انتهينا إلى آثار هذا الفرق، فذكرنا الأَثَرَ الأَوَّلَ وهو أن شذوذ الإنسان عن السِّيرَة بِالنَّحْوِ الأَوَّل لا يرفع عنه الحكمَ الشَّرْعِيَّ الثابت عَلَىٰ ذاك الْمَوْضُوع الَّذِي نَقَّحَتْ هذه السِّيرَةُ وجودَه وفرده حَقِيقَةً ووجداناً.
 وهذا أثر مهم فِي مقام استنباط الفقيه للحكم الشَّرْعِيّ بشأن هذا الإنسان، فالفقيه يفتيه أنك وإن كنت مخالفاً للسيرةِ ورافضاً لها ولكن هذه السِّيرَةَ أوجدتْ عندكَ فَرْداً حَقِيقِيّاً من موضوع الحكم الشَّرْعِيّ، وَبِالتَّالِي أنت أحرزتَ الْمَوْضُوعَ الشَّرْعِيَّ، أي: أنت تقبل بأن سيرة الناس قائمة اليوم عَلَىٰ أن إمساك الزوجة والإنفاق عليها بالمعروف مثلاً هو أن يأخذ لها بيتاً خاصاً ويؤمن لها المأكل والمشرب والملبس المناسب لشؤونها فِي هذا العصر، وليس ما كان يعتبر إنفاقاً بالمعروف قبل قرون، فيفتي الفقيه حِينَئِذٍ بوجوب اتّباع السِّيرَة.
 وهذا بخلافِ الإنسان الَّذِي يشذ عن السِّيرَةِ الكاشفة عن وجود الْمَوْضُوعِ (أي: النَّحْوِ الثَّانِي)؛ إذ أن نتيجة السِّيرَةِ ليست ملزمة له، وقد مثّلنا له بِالسِّيرَةِ القائمةِ بين المتعاملين فِي عُرف الناس عَلَىٰ أَنَّهُم يشترطون «عدم الْغَبْن» بنحو الاشتراط الضمني. فلو أن متبايعين بَنَيَا عَلَىٰ رفض هذه السِّيرَة ومخالفتها، وأقدما عَلَىٰ المعاملة مِنْ دُونِ أن يشترطا ضِمْناً ما يشترطه الناسُ (من عدم الغبن) فَحِينَئِذٍ لا يثبت الحكمُ بشأنهما؛ فَإِنَّ الحكم الَّذِي كان ثابتاً عَلَىٰ الْمَوْضُوع عبارة عن وجوب الوفاء بِالشَّرْطِ (= الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ)، بينما لم يشترط هذان الشخصان «عدمَ الْغَبْن»، فلا يثبت عليهما الحكم بـ«الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، فلا يثبت لأي واحد منهما خيارُ الشَّرْط (فإِنَّنَا فِي هذا الفرض أرجعنا خيارَ الْغَبْن إلى خيار الشَّرْط).
 وكذلك لو فرضنا أنَّ المشتري وحده رفض هذه السِّيرَةَ فأقدم عَلَىٰ شراء هذه السلعة بأي سعرٍ كان، باعتبار أن حاجته إلى هذه السلعة شديدة، فأقدم عَلَىٰ هذه المعاملة ولو كانت غبنيةً. ومعنى ذلك أَنَّهُ رفع يده عن ذاك الارتكاز الموجود لدى العقلاء المتقدم وهو أن الْعُقَلاَء يبنون فِي معاملاتهم عَلَىٰ عدم رفع اليد عن مالية مالهم إلا بماليةٍ مساوية له أو بأقل منها بقليل؛ فلا يثبت بشأنه خيار الفسخ؛ لأن السِّيرَةَ (فِي هذا النَّحْو الثَّانِي) لا تُحمِّلُه الخيار؛ لأَنَّ دور هذه السِّيرَة هو الكشف عن قصد المرء وهذا المتبايعُ لم يشترط عدمَ الْغَبْن، فانتفى موضوع الحكم (وهو اشتراط الخيار)، فانتفى الحكم (وهو الخيار) أَيْضاً.
 هذا هو الأثر الأَوَّل من آثار الفرق بين هذين النحوين من السِّيرَة فِي الْقِسْمِ الأَوَّلِ.
 الأثر الثَّانِي: هو أنَّ هناك فارقاً جَوْهَرِيّاً بين الحكمِ الَّذِي يستنبطه الفقيهُ مبنيّاً عَلَىٰ النَّحْوِ الثَّانِي من السِّيرَةِ وبين الحكم الَّذِي يستنبطه بمعزل عن هذا النَّحْو الثَّانِي مِنَ السِّيرَةِ. فعلى سبيل المثال نذكر مثال «خيار الغبن» المتقدم الَّذِي ذكرناه كمثال فِي النَّحْو الثَّانِي مِنَ السِّيرَةِ فنقول: لقد تعلمنا فِي كتاب «المكاسب» أن هناك طريقين أمام الفقيه لاستنباط خيار الغبن للمتعامل المغبون (بائعاً كان أم مشترياً):
 الطريق الأَوَّل: هو الطريق الَّذِي سلكناه وهو عبارة عن إثبات خيار الْغَبْن بإرجاعه إلى خيار الشَّرْط، بحيث يكون خيار الغبن أحد مصاديق خيار الشَّرْط. أي: هناك خيار ثابت فِي الشَّرِيعَة اسمه «خيار الْغَبْن» ودليله هو «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، أي: كُلّ من اشترط شرطاً فِي المعاملة فله خيار فسخ المعاملة إذا تخلف الشَّرْط.
 فتكون السِّيرَةُ فِي هذا النَّحْو الثَّانِي (مِنَ السِّيرَةِ الكاشفة عن الْمَوْضُوع) قائمة عَلَىٰ أن كُلّ عاقد لا يرفع يده عن مَالِيَّة ماله، فهذا معناه أن كُلّ عاقد يشترط ضمناً فِي المعاملة أن لا يكون مغبوناً غبناً فاحشاً من حيث الْمَالِيَّةِ، وَحَيْثُ أَنَّ الظاهر أن هذين المتعاملين عاقلان أَيْضاً وماشيان عَلَىٰ ممشى الْعُقَلاَء فِي مقاصدهم المُعاملية والتي من جملتها عدمُ رفع اليد عن مَالِيَّة المال، إذن ينعقد للمشتري مثلاً ظهور حالي عرفي فِي أن ظاهر حاله أَنَّهُ اشترط خيارَ الْغَبْن، فيشمله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ». فيكون له خيار فسخ المعاملة عند الْغَبْن باعتبار أَنَّهُ قد اشترط فِي المعاملة ضِمْناً أن لا يقع مَغْبُوناً والدليل قال: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
 والفقيه إذا سلك هذا الطريق لإثبات خيار الْغَبْن، وواجه إنساناً قد شذَّ عن الآخرين برفع يده عن مَالِيَّة ماله بما لا يساوي ماله أو يضاهيه قيمةً، بل دفع أضعافاً مضاعفةً من المال لأجل سلعةٍ رخيصةٍ. فهذا معناه أَنَّهُ لم يشترط الخيار لنفسه، وَحِينَئِذٍ لا يثبت له خيار الشَّرْط، رغم كونه مَغْبُوناً؛ لأننا أثبتنا خيار الْغَبْن عن طريق الشَّرْط وهذا الشَّرْط مفقود هنا؛ لأَنَّهُ لم يشترط فِي المعاملة، فليس له خيار، وإن كان مَغْبُوناً، ولكن الْغَبْن لَيْسَ له مَوْضُوعِيَّة فِي نفسه، وَإِنَّمَا نعتبره فيما إذا اشترط فِي المعاملة عدمُ الْغَبْن، فإذا لم يشترط فيها عدم الْغَبْن فلا تكون للغبن خصوصية، فلا يكون له الخيار حتَّى لو وقع مَغْبُوناً.
 الطريق الثَّانِي: أن نثبت خيار الْغَبْن لا من باب أن البائع أو المشتري اشترطا عدمَه ضِمْناً، بل كان دليلنا عَلَىٰ إثبات خيار الْغَبْن دليلاً آخر كالسيرة (من النَّوْع الثَّالِث وهي السِّيرَة المشرِّعة للحكم والتي تُثْبِتُ الحكمَ الشَّرْعِيّ رأساً) أو كدليل لفظي أو دليل لبي آخر دَلَّ عَلَىٰ أَنَّهُ يجب أن لا يكون المشتري أو مَغْبُوناً. والمهمّ أن خيار الْغَبْن فِي هذا الطريق خيار شرعيّ وليس بإرجاعه إلى خيار الشَّرْط، سَوَاء اشترط فِي المعاملة «عدم الخيار» أم لم يشترط فيها، فيكون خيار الغبن ثابتاً حتَّى لمن شذ عن عُرف النَّاس؛ لأَنَّه ثابت له شَرْعاً وليس بإرجاعه إلى خيار الشَّرْط حتَّى نقول بأنه لم يشترط عدم الْغَبْن (لا ضِمْناً ولا صريحاً).
 فهذان نحوانِ من السِّيرَة من القسم الأَوَّل وهي السِّيرَة المنقِّحةُ للموضوعِ.
 وَحِينَئِذٍ نقول: يَتَرَتَّبُ عَلَىٰ القسم الأَوَّل بكلا نحويه أثران:
 الأَوَّل: أَنَّ حُجِّيَّةَ هذه السِّيرَةِ عَلَىٰ القاعدة ولا نحتاج إلى فتح بحثٍ عن أن هذه السِّيرَة (بكلا نحويها) هل هي حجة أم لا؟ لأن دور هذه السِّيرَة إِنَّمَا هو دور إحراز الْمَوْضُوع. أي: يحرز الْمُكَلَّفُ ويقطع بأنَّ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ موجود وثابت. وَحِينَئِذٍ لا معنى لإفرادِ بحثٍ عن حُجِّيَّةِ القسم الأَوَّل مِنَ السِّيرَةِ؛ لأَنَّ هذا القسم مِنَ السِّيرَةِ لا يريد أن يثبت الحكمَ الشَّرْعِيَّ حتَّى تقولوا: كيف يثبتُ الحكمُ الشَّرْعِيُّ بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة؟ بل الحكم الشَّرْعِيّ هنا ثابت بدليله وَإِنَّمَا السِّيرَة هذه تحرزُ مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَحِينَئِذٍ يأتي الحكم الشَّرْعِيُّ ويحمل عَلَىٰ هذا الْمَوْضُوع. إذن، إن حُجِّيَّة هذه السِّيرَة ترجع إلى حُجِّيَّة إحراز الحكم الشَّرْعِيِّ، بأن الْمُكَلَّف إذا أحرز مَوْضُوعَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فهل يكون إحرازُه حُجَّةً عليه أم لا؟ بالتأكيد حجةٌ عليه وهذا لا يحتاج إلى بحث آخر.
 وَثَانِياً: لطالما أن حُجِّيَّة هذا القسم الأَوَّل عَلَىٰ القاعدة فلا يُشترط فِي حجيّتها أَنْ تَكُونَ هذه السِّيرَة معاصرة للمعصوم عليه السلام، بخلاف القسم الثَّانِي والثالث مِنَ السِّيرَةِ، بل تَتَوَقَّف عَلَىٰ أَنْ تَكُونَ هذه السِّيرَةُ موجودةً اليوم. وهذا ما نشرحه إن شاء الله يوم السبت.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo