< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/03

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 الطريق الثَّالِث: إثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصومين عليهم السلام عن طريق القول بأن المسألة الَّتِي يُرَاد إثبات السِّيرَة فيها إذا كانت أوَّلاً: من المسائل الداخلة عادةً فِي محل الابتلاء بها كثيراً لدى النَّاس والمتديّنين وَثَانِياً كان السلوك الَّذِي يُرَاد إثبات انعقاد السِّيرَة عليه فِي المقام نحو سلوكٍ لا يوجد مبرّر لعدم الالتزام به؛ إذ لَيْسَ خلافه من الواضحات لدى النَّاس والمتشرعة ولم يكثر السؤال والجواب فِي المسألة فِي ما بأيدينا من الروايات والنصوص، فَحِينَئِذٍ يستكشف فِي مثل ذلك أن ذاك السلوك كان ثابتاً فِي زمان الْمَعْصُوم عليه السلام أَيْضاً وكانت السِّيرَة منعقدة عليه، وَإلاَّ لزم إما أن يكثر السؤال عنه ويأتي الجواب فيه من الْمَعْصُوم عليه السلام وَإِمَّا أَنْ يَكُونُ خلافه من الواضحات لدى النَّاس عادةً، بحيث يكون هناك مبرِّر لانصرافهم عنه وعدم التزامهم به، وكلاهما خلف.
 فَمَثَلاً إذا فرض الاِسْتِدْلاَل بِالسِّيرَةِ عَلَىٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة وأريد إثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عَلَىٰ ذلك عن هذا الطريق فيقال: بما أن المسألة كانت واقعة فِي محل ابتلاء أصحاب الأئمة عليه السلام كثيراً، ولم يكن هناك ما يبرر انصراف النَّاس عن الْعَمَل بخبر الثِّقَة (بقطع النَّظَر عن الشرع) باعتبار أن عدم حجيّته لَيْسَ من الأمور الواضحة بحسب الطباع الْعُقَلاَئِيَّة بحيث لا تحتاج إلى السؤال عن حُجِّيَّتُه، ولم تكثر فِي الأَدِلَّة والنصوص الصادرة من المعصومين عليهم السلام الأسئلة والأجوبة حول هذه المسألة، فَحِينَئِذٍ يثبت أن الْعَمَل بخبر الثِّقَة كان هو المتَّبَع والثابت آنذاك؛ لأَنَّ الأمر لا يخلو من أحد فرضين:
 1)- فإما أن حُجِّيَّة خَبَر الثِّقَةِ كان من الواضحات عندهم، فلذا لم يكثر السؤال والجواب عنها، فيثبت المطلوب.
 2)- وَإِمَّا أنها لم تكن من الواضحات عندهم فكان ينبغي إذن أن يكثر السؤال والجواب فِي المسألة؛ لأَنَّهَا محل الابتلاء كثيراً وليس عدم الْحُجِّيَّة من الواضحات حسب الفرض، فإذا رأينا أن المسألة لم يكثر فيها السؤال والجواب بل ورد فيها ما يَدُلّ عَلَىٰ الْحُجِّيَّة نستكشف من ذلك كون الْحُجِّيَّة من الواضحات عندهم وأنهم كانوا يعملون بأخبار الثقات.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّه كلما كان لعدم قيام السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام عَلَىٰ أمر من الأمور لازم، وكان هذا اللازم منتفياً وجداناً، ثبت قيام السِّيرَة آنذاك عَلَىٰ ذاك الأمر.
 ولنوضّح ذلك فِي مثال آخر: لنفرض أننا نريد أن نثبت أن السِّيرَة المعاصرة للأئمة عليهم السلام كانت قائمة عَلَىٰ الاجتزاء والاكتفاء فِي الوضوء بالمسح ببعض الكف، فنقول: إن السِّيرَة آنذاك إما أنها كانت منعقدة حَقّاً عَلَىٰ ذلك، فهذا بنفسه يكون دليلا عَلَىٰ عدم وجوب المسح بتمام الكلف لدى مَن يحاول الاستعلام عن حكم المسألة، فيُغنيه عن السؤال ما دام يرىٰ أن سيرة المتشرعة قد انعقدت عَلَىٰ المسح ببعض الكف؛ إذ لا يَحتمل حِينَئِذٍ وجوب المسح بتمام الكف. إذن، فيثبت المطلوب.
 وَإِمَّا أن السِّيرَة آنذاك لم تكن منعقدة عَلَىٰ ذلك وكان السلوك الْعَمَلِيّ لكثير من المتشرعة هو المسح بتمام الكف، فهذا يعني أن استعلام حكم المسألة ينحصر بالسؤال من المعصومين عليهم السلام أو الرجوع إلى رواياتهم؛ لأَنَّ مسح المتشرعة بتمام الكفّ لا يَدُلُّ عَلَىٰ وُجُوبِ هذا المسح؛ فَلَعَلَّهُ مستحب.
 وَحَيْثُ أَنَّ المسألة محل الابتلاء لعموم أفراد المكلفين، ووجوب المسح بتمام الكف يستبطن عادةً عنايةً فائقة تحفّز عَلَىٰ السؤال، فمن الطبيعي أن تكثر الأسئلة فِي هذا المجال وتكثر الأجوبة تبعاً لذلك. وفي هذه الحالة يكون المفروض عادةً وصول مقدار من هذه الأسئلة والأجوبة إلينا عَلَىٰ أقل تقدير، لاستبعاد اختفائها مع توفّر الدواعي عَلَىٰ نقلها وعدم وجود ما يبرّر إخفاءها أو اختفاءها. فإذا لم يصل إلينا ذلك تعرف أَنَّهُ لم تكن هناك أسئلة وأجوبة كثيرة. وَبِالتَّالِي لم تكن هناك حاجة إلى استعلام حكم المسألة عن طريق السؤال من المعصومين، وهذا يعيّن افتراض قيام السِّيرَة عَلَىٰ الاكتفاء بالمسح ببعض الكف، فهذا الاستدلال (كما لاحظنا) متوقف عَلَىٰ أَنْ تَكُونَ المسألة محل ابتلاء عَامَّة النَّاس، وأن يكون الحكم المقابل (كوجوب المسح بتمام الكف فِي المثال) مقتضياً لسلوكٍ لا يقتضيه الطبع بنفسه، وأن تتوفر الدواعي عَلَىٰ نقل ما يرد فِي حكم المسألة، وأن لا توجد مبرّرات للإخفاء والاختفاء، وأن لا يصل شيء معتدّ به من الروايات وفتاوى المتقدمين فِي هذا المجال لإثبات الحكم المقابل.
 فهذا الطريق الثَّالِث إذن يتقوّم بشروط عديدة بعضها شروط عَامَّة جارية فِي جميع الموارد الَّتِي يُرَاد التَّمَسُّك فيها بهذا الطريق لإثبات السِّيرَة المعاصرة، وبعضها شروط خاصة لبعض الموارد لخصوصية فِي تلك الموارد، ولكن لا يمكن ضبط تلك الشروط الخاصة، وَإِنَّمَا يكفي غالباًً توفّر الشروط العامّة فِي حصول العلم لنا بِالسِّيرَةِ المعاصرة، وتلك الشروط العامة يمكن حصرها وضبطها فِي أربعة شروط كما يلي:
 الشَّرْط الأَوَّل: أَنْ يَكُونَ الحكم الَّذِي يُرَاد إثباته من خلال السِّيرَة حُكْماً فَرْدِيّاً، أَمَّا إذا كان حُكْماً اِجْتِمَاعِيّاً راجعا إلى ولي الأمر فلا يَتُِمّ الطريق المذكور لإثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام؛ لأَنَّ قوامه إِنَّمَا هو بالقول بأنه لولا انعقاد السِّيرَة آنذاك عَلَىٰ هذا المطلب لكثر السؤال وكثر الجواب ولَوَصَلَ إلينا ذلك.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الحكم إذا كان حُكْماً اِجْتِمَاعِيّاً راجعاً إلى ولي الأمر فليس من الضروري واللازم أن يكثر السؤال عنه؛ إذ لَيْسَ محل ابتلاء الأفراد وعامّة النَّاس، فلو شككنا مثلاً فِي وجوب الإحسان إلى الفقراء عَلَىٰ الوالي، لم يصح القول بعدم الوجوب استناداً إلى أن بناء المتشرعة فِي زمان الْمَعْصُوم عليه السلام كان عَلَىٰ عدم والوجوب وعدم التزام الشخص بالإحسان إلى الفقراء لو صار والياً، وَإلاَّ فلو لم تكن السِّيرَة منعقدة عَلَىٰ عدم الوجوب وكان افتراض إحسان الوالي إلى الفقراء واردا فِي السلوك الْعَمَلِيّ لكثير من المتشرعة آنذاك فهذا يعني أن استعلام حكم المسألة ينحصر بالسؤال من الْمَعْصومين عليهم السلام أو الرجوع إلى رواياتهم؛ لأَنَّ إحسان المتشرّع إلى الفقراء لو صار والياً لا يكفي لإثبات الوجوب لدى مَن يحاول الاستعلام عن حكم المسألة ولا يغنيه عن السؤال عن الوجوب وعدمه.
 إذن، فكان من الطبيعي أن تكثر الأسئلة فِي هذا المجال وتكثر الأجوبة تبعاً لذلك، ولوصل إلينا مقدار منها عَلَىٰ أقل تقدير، بينما لم يصل شيء منه. إذن، يتعيَّن كون السِّيرَة آنذاك منعقدة عَلَىٰ عدم الوجوب.
 أقول: إن هذا الكلام غير صحيح؛ إذ أن الطبيعي هو أن تكثر الأسئلة فِي المسألة الَّتِي هي محل ابتلاء الأفراد، أَمَّا المسألة الَّتِي هي راجعة إلى الوالي وليست محلاًّ لابتلاء الأفراد فليس من المفروض واللازم أن يكثر السؤال عنها؛ لأننا نعلم أن أسئلتهم كانت تنشأ غالباً من الحاجة إلى فهم الحكم وتنبع من الابتلاء به.
 هذا، مضافا إلى أَنَّهُ لو ثبتت هذه السِّيرَةُ لم تكن سيرة عمليةً بالفعل، وَإِنَّمَا كانت سيرة تقديرية مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونُ المقدر عليه (وهو كونه والياً) ثابتاً بالفعل، وهذا ما قد يولّد إشكالا بلحاظ ما قد يقال، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - عند الكلام عن الركن الثَّانِي من أن ما يلازم الحكم الشَّرْعِيّ وَيَدُلُّ عليه إِنَّمَا هو السِّيرَة الفعلية لا التقديرية.
 الشَّرْط الثَّانِي: أَنْ يَكُونُ ذلك الحكم الفردي مِمَّا يكثر ابتلاء الأفراد به، وَأَمَّا فِي مثل تملّك المعِدن باستخراجه مثلاً فلا يمكن سلوك هذا الطريق لإثبات المقصود؛ لأَنَّهُ لم يكن مِمَّا يكثر ابتلاء الأفراد به كي تلزم كثرة السؤال والجواب، فلو شككنا مثلاً فِي أن الفرد هل يملك المعدِن إذا استخرجه أم لا؟ لا يَصِحُّ القول: بالتملك شَرْعاً اِسْتِنَاداً إلى أن بناء الْمُتَشَرِّعَةِ يحتملون أن من استخرج المعدن ملكه. فهذا معناه أن استعلام حكم المسألة ينحصر بالسؤال من الْمَعْصُوم عليه السلام، فكان من الطبيعي أن تكثر الأسئلة والأجوبة فِي هذا المجال، ولوصل إلينا مقدار منها عَلَىٰ الأقل، بينما لم يصل شيء منه. إذن، يتعين كون السِّيرَة آنذاك منعقدة عَلَىٰ التملك.
 أقول: إن هذا الكلام غير صحيح؛ لأَنَّ الطبيعي هو أن تكثر الأسئلة فِي المسألة الَّتِي يكثر ابتلاء الأفراد بها، أَمَّا المسألة الَّتِي لا يكثر ابتلاؤهم بها (كمسألة تملّك المعدِن بالاستخراج) فليس من المفروض واللازم أن يكثر السؤال عنها؛ إذ ما دام الابتلاء بها قليلاً، فالسؤال عنها أيضاً قليل، والسؤال القليل لَيْسَ من المفروض به أن يصل إلينا، بل قد يصل وقد لا يصل، فعدم الوصول لا يَدُلّ عَلَىٰ عدم وقوع السؤال والجواب، وَبِالتَّالِي فلا يثبت كون السِّيرَة آنذاك منعقدة عَلَىٰ التملك.
 الشَّرْط الثَّالِث: أن لا يكون السلوك الَّذِي يتطلّبه الحكمُ المقابل موافقاً لطبع المجتمع آنذاك، ولو طبعاً مكتَسَباً من العادة.
 وبعبارة أخرى: أَنْ يَكُونُ ذاك السلوك سلوكاً لا يقتضيه الطبع بنفسه، فَمَثَلاً لا يمكن إثبات طهارة أبوال الدواب الثلاث المأكول لحمها [= البقر والإبل والغنم] عن هذا الطريق؛ لأَنَّ السلوك الَّذِي يتطلّبه الحكمُ المقابلُ للطهارة (وهو الحكم بالنجاسة) موافق للطبع، فلو شككنا فِي الطَّهَارَة والنجاسة لم يصح القول بالطهارة استناداً إلى أن بناء الْمُتَشَرِّعَة فِي زمان الْمَعْصُوم كان عَلَىٰ الطَّهَارَة نَظَراً إلى أَنَّهُ لو لم تكن السِّيرَة آنذاك عَلَىٰ الطَّهَارَة وكان افتراض النجاسة واردا فِي السلوك الْعَمَلِيّ لكثير من الْمُتَشَرِّعَة آنذاك فهذا لازمه أن يكثر السؤال عن النجاسة، وأن يصل إلينا، بينما لم يصل، فيتعيّن كون السِّيرَة آنذاك منعقدة عَلَىٰ الطَّهَارَة.
 أقول: إن هذا الكلام غير صحيح؛ ذلك لأن اللازم والطبيعي أن يكثر السؤال عن النجاسة فيما إذا لم يكن السلوك الَّذِي يتطلّبه الحكم بالنجاسة موافقاً لطبع المجتمع آنذاك، بينما نحن نحتمل أن مُقْتَضَىٰ الطبع آنذاك كان هو الاجتناب عن أبوال هذه الدواب (ولو اكتساباً من العادة الناشئة من قول العامّة) الَّذِي هم الكثرة الكاثرة فِي ذلك اليوم) بالنجاسة مثلاً، فإذا كان السلوك الَّذِي يتطلبه الحكم بالنجاسة وهو الاجتناب سلوكاً يقتضيه الطبع بنفسه، إذن فليس من المفروض واللازم حِينَئِذٍ أن يكثر السؤال عن النجاسة، فلعل السؤال عن النجاسة قد حصل، لٰكِنَّهُ كان قليلاً، والسؤال القليل لَيْسَ من المفروض به أن يصل إلينا، فعدم الوصول لا يَدُلّ عَلَىٰ عدم وقوع السؤال عن النجاسة والجواب بها، وَبِالتَّالِي فلا يثبت كون السِّيرَة آنذاك منعقدة عَلَىٰ طهارة هذه الأبوال.
 الشَّرْط الرَّابِع: أن لا يكون الحكم المقابل مِمَّا دَلَّتْ عليه رواياتٌ عديدة، أو أفتى به كثيرٌ من فقهائها المتقدّمين، فَمَثَلاً لا يمكن إثبات عدم وجوب السورة فِي الصَّلاَة عن هذا الطريق؛ لأَنَّ الحكم المقابل (وهو الوجوب) قد دَلَّتْ عليه روايات عديدة وأفتى به كثير من فقهائنا القدامى، فنحتمل أَنْ يَكُونُ ذلك نتيجة كثرة السؤال عن الوجوب والجواب، فلا يَتُِمّ القول بانعقاد السِّيرَة آنذاك عَلَىٰ عدم الوجوب نَظَراً إلى أَنَّهُ لو لا ذلك لكثر السؤال عن الوجوب والجواب؛ إذ أن وجود روايات عديدة وفتاوى كثيرة بشأن الوجوب لعله ناشئ من كثرة السؤال والجواب كما هو واضح، فلا يصح إعمال هذا الطريق لنفي وجوب السورة فِي الصَّلاَة.
 مُضَافاً إلى إمكان دعوى انتفاء الشَّرْط الثَّالِث المتقدم أَيْضاً بِالنِّسْبَةِ إلى هذا المثال وهو عدم وجوب السورة فِي الصَّلاَة.
 هذه هي الشروط الأربعة العامّة للطريق الثَّالِث، فإذا توفّرت واجتمعت فِي موردٍ يَتُِمّ الطريق الثَّالِث لإثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام.
 وكل هذه الشروط مجتمعة ومتوفرة فِي مسألة المسح فِي الوضوء بتمام الكف عَلَىٰ ظهر القدم؛ فَإِنَّ بالإمكان نفي وجوب ذلك عن طريق الاستدلال بقيام السِّيرَة المعاصرة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo