< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/04

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 وكل هذه الشروط مجتمعة ومتوفرة فِي مسألة المسح فِي الوضوء بتمام الكف عَلَىٰ ظهر القدم؛ فَإِنَّ بالإمكان نفي وجوب ذلك عن طريق الاستدلال بقيام السِّيرَة المعاصرة للمعصومين عليهم السلام عَلَىٰ عدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ؛ إذ يقال: لو لم تكن السِّيرَة آنذاك قائمة عَلَىٰ عدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ لكان يكثر السؤال عن وجوبه ويكثر الْجَوَابُ، وكان يصلنا ذلك فِي عدّة روايات، وهذا حكم فردي وليس حُكْماً اِجْتِمَاعِيّاً رَاجِعاً إلى ولي الأمر، وهو حكم مبتلى به مِنْ قِبَلِ تمام الأفراد دائما، والسلوك الَّذِي يتطلبه الحكم المقابل (أي: الوجوب) وهو عبارة عن الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ لَيْسَ موافقاً للطبع، بل هو سلوك لا يقتضيه الطبع بنفسه، ولم يُفت أحد من الفقهاء بوجوبه ولم ترد أخبار عديدة دالة عَلَىٰ وجوبه، وإن فرض ورود رواية واحدة بالوجوب فهذا لا يضرّ بالاستدلال بِالسِّيرَةِ بهذا الطريق الثَّالِث؛ لأَنَّ الرواية الواحدة لا يمكن أَنْ تَكُونَ ناشئة من كثرة السؤال عن الوجوب والجواب، فيبقى الاستدلال القائل بأنه «لو لم تكن السِّيرَة عَلَىٰ عدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ لكثر السؤال والجواب حول الوجوب» تَامّاً. إذن، فالشروط الأربعة متوفّرة فِي هذه المسألة، فيتم الاستدلال فيها بِالسِّيرَةِ المعاصرة الَّتِي نُثبتها بالطريق الثَّالِث.
 يبقى هناك شرط خامس لاَ بُدَّ من البحث عنه وهو أن لا يكون الحكم الَّذِي يُرَاد إثباته بِالسِّيرَةِ قد دَلَّتْ عليه روايات عديدة، فهل يُعتبر هذا أَيْضاً من شروط هذا الطريق الثَّالِث من طرق إثبات السِّيرَةِ المعاصرة؟ بحيث لو وردت روايات عديدة مطابقة للحكم المقصود إثباته بِالسِّيرَةِ كما إذا وردت روايات عديدة (فِي مسألة المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ فِي المثال) دالة عَلَىٰ عدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ، كان ذلك مضرّاً بالاستدلال بِالسِّيرَةِ بالطريق الثَّالِث، كما إن ورد روايات عديدة دالة عَلَىٰ الحكم المقابل، أي: عَلَىٰ الوجوب فِي المثال، كان مُضِرّاً بهذا الاستدلال؛ إذ كان الشَّرْط الرَّابِع عبارة عن عدم ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ الحكم المقابل (أي: الوجوب فِي المثال)، فهل يشترط أَيْضاً عدم ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ الحكم الَّذِي يُرَاد إثباته (أي: عدم الوجوب فِي المثال)؟
 التحقيق فِي ذلك أننا:
 تَارَةً نريد الاستدلال بِالسِّيرَةِ مَحْضاً بحيث يكون الدَّلِيل لنا عبارة عن السِّيرَة فقط، كما كان هذا هو الظاهر من عباراتنا حتَّى الآن.
 وأخرى نريد جعل السِّيرَة جُزْءاً من الدَّلِيل، بحيث يكون الدَّلِيل ذا شقّين، أحدهما السِّيرَة، فهنا فرضان إذن، فعلى الفرض الأَوَّل يكون الشَّرْط الخامس المذكور معتبراً أَيْضاً، فيعتبر عدم ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ الحكم الَّذِي يُقصد إثباته (أي: عَلَىٰ عدم الوجوب فِي المثال)، فإذا وردت روايات مطابقة للحكم المقصود إثباته بِالسِّيرَةِ، كان ذلك مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاِلِ بِالسِّيرَةِ بالطريق الثَّالِث، وعلى الفرض الثَّانِي لا يكون الشَّرْط المذكور مُعْتَبَراً، فلا يشترط عدم ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ الحكم المقصود إثباته، فإذا وردت روايات مطابقة للحكم المقصود إثباته بِالسِّيرَةِ لم يكن ذلك مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاِلِ.
 فهنا إذن تقريبان للاستدلال بِالسِّيرَةِ بالطريق الثَّالِث:
 أحدهما: تقريب الاِسْتِدْلاَلِ بها مَحْضاً.
 وثانيهما: تقريب الاستدلال بها كجزءٍ من الدَّلِيل:
 أَمَّا التقريب الأَوَّل: فهو أن يقال بأنه لو لم تكن سيرة الجميع أو الغالب آنذاك قائمةً عَلَىٰ عدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ لَسُئِلَ الإمام عليه السلام عن ذلك كثيراً، حتَّى لو افترضنا قيام السِّيرَة عَلَىٰ الاِلْتِزَام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ؛ لأَنَّ هذه السِّيرَة لا تَدُلُّ عَلَىٰ الوجوب ولا تكفي لإثباته؛ إذ لعل التزامهم بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ كان لأجل استحبابه وكثير من الأصحاب يعرفون مثل هذه النكتة، فلا تكون مُغنية عن استعلام حكم المسألة من الإمام عليه السلام، وَحَيْثُ أَنَّ المسألة محل ابتلاء عَامَّة الأفراد، والمفروض أن الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ خلاف الطبع، ووجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ يستبطن عناية فائقة تحفّز عَلَىٰ السؤال، فمن الطبيعي أن تكثر الأسئلة فِي هذا المجال وتكثر الأجوبة تبعاً لذلك، وفي هذه الحالة يفترض عادةً أن يصل إلينا عَلَىٰ الأقل مقدار من تلك الأسئلة والأجوبة ضمن روايات عديدة، لاستبعاد اختفاء جلّها مع توفر الدواعي عَلَىٰ نقلها وعدم وجود ما يبرّر الاختفاء. فإذا لم يصل إلينا ذلك نعرف أَنَّهُ لم تكن هناك أسئلة وأجوبة كثيرة؛ إذ أَنَّهُ لم تكن هناك حاجة إلى استعلام حكم المسألة عن طريق السؤال من الْمَعْصُوم عليه السلام؛ إذ كانت السِّيرَة قائمة عَلَىٰ الاجتزاء بالمسح ببعض الْكَفّ وعدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ، فيثبت المطلوب.
 نعم، لو فرض أن وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ من قطعيّات الإسلام عَلَىٰ حدّ قطعية عدد ركعات صلاة الظهر مثلاً، كان ذلك مُغنياً لهم عن السؤال واستعلام الحكم فِي المسألة من الإمام عليه السلام، لكن هذا واضح البطلان.
 وبناء عَلَىٰ هذا التقريب يكون الشَّرْط الخامس مُعْتَبَراً وهو عدم ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ الحكم المقصود إثباته بِالسِّيرَةِ وهو عدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ فِي المثال، ويكون ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ الحكم المقصود إثباته مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاَلِ (طبقا للشرط الرَّابِع)؛ لأَنَّ ورود روايات عديدة يكشف عَلَىٰ كُلّ تقدير عن كثرة السؤال وكثرة الجواب، فيبطل الاِسْتِدْلاَلُ بِالسِّيرَةِ حِينَئِذٍ؛ لأَنَّ الاستدلالَ كان يقوم عَلَىٰ أساس التلازم بين «عدم انعقاد السِّيرَة عَلَىٰ الاكتفاء بالمسح ببعض الْكَفِّ» وبين «كثرة السؤال وكثرة الجواب»، ولم يكن قائما عَلَىٰ أساس التلازم بين «عدم انعقاد السِّيرَة عَلَىٰ الاكتفاء بالمسح ببعض الْكَفِّ» وبين «كون الجواب خصوص الحكم بالوجوب»؛ فقد يكون الجواب هو الحكم بعدم الوجوب، فمجرد كثرة السؤال والجواب يمنعان عن إثبات السِّيرَة، سَوَاء كان الجواب بالإثبات أو النفي.
 وَأَمَّا التقريب الثَّانِي فهو أن يقال: إما أن السِّيرَة آنذاك كانت قائمة عَلَىٰ الاجتزاء بالمسح ببعض الْكَفّ وعدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْكَفِّ، وَإِمَّا أنها لم تكن كذلك.
 فعلى الأَوَّل يثبت عدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ؛ لما سيأتي - إن شاء الله تعالى - فِي بحث الركن الثَّانِي من الملازمة بين السِّيرَة وبين الحكم الشَّرْعِيّ، وما سيأتي فِي الجهة الثَّالثة من أن السِّيرَة إذا قامت عَلَىٰ عدم التقيُّد والالتزام بفعلٍ مُعَيَّنٍ دَلَّتْ عَلَىٰ عدم وجوبه.
 وعلى الثَّانِي يكون من الطبيعي حِينَئِذٍ أن يكثر السؤال عن وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ وعدم وجوبه، وعندئذٍ فإما أَنْ يَكُونُ الحكم فِي الواقع هو الوجوب أو عدم الوجوب، والثاني هو المقصود، والأول لو كان لكثر الجواب بالوجوب لوصل إلينا ذلك ضمن أخبار عديدة؛ فمجرد عدم وصول أخبار عديدة دالة عَلَىٰ الوجوب يكفي بناءًا عَلَىٰ هذا التقريب، ولا يضر وصول أخبار عديدة دالة عَلَىٰ عدم الوجوب، فلا يكون الشَّرْط الخامس المذكور مُعْتَبَراً فِي الاستدلال بِالسِّيرَةِ بالطريق الثَّالِث.
 وقد ظهر مِمَّا قلناه أننا إن أردنا أن ننفي حُكْماً من خلال الاستدلال بِالسِّيرَةِ بالطريق الثَّالِث:
 فتارة نفترض أن ذاك الحكم الَّذِي نريد نفيه والاستدلال عَلَىٰ عدمه بِالسِّيرَةِ بهذا الطريق لَيْسَ فِي معرض النفي مِنْ قِبَلِ الإمام عليه السلام تقيةً، كما إذا أردنا أن ننفي وجوب الجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة من خلال الاِسْتِدْلاَل بِالسِّيرَةِ بالنحر المتقدم وافترضنا أن وجوب الجهر فيها لَيْسَ فِي معرض النفي تقيةً؛ إذ لَيْسَ رأي فقهاء العامة عَلَىٰ عدم وجوب الجهر مثلاً، فَحِينَئِذٍ يكفينا فِي مقام الاستدلال بِالسِّيرَةِ عَلَىٰ نفي ذاك الحكم عدم ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ ثبوت ذاك الحكم، ففي المثال يكفينا عدم ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ الوجوب، ولا يضر بالاستدلال ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ نفي ذاك الحكم؛ لأَنَّ ورودها وإن كان مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاِلِ بِالسِّيرَةِ مَحْضاً (أي: بالتقريب الأَوَّل) لما قلناه من أن الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ مَحْضاً يُعتبر فيه الشَّرْط الخامس أَيْضاً وهو عدم ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ ما قصد إثباته بِالسِّيرَةِ، إلا أننا يكفينا الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ كجزءٍ من الدَّلِيل (أي: التقريب الثَّانِي) الَّذِي لا يُعتبر فيه الشَّرْط الخامس كما تَقَدَّمَ؛ فورودُ روايات عديدة دالة عَلَىٰ عدم وجوب الجهر فِي المثال لا يضر بِالاِسْتِدْلاِلِ، بل هو مؤيد للمطلوب.
 وأخرى نفترض أن الحكم الَّذِي يُراد نفيه والاستدلال عَلَىٰ عدمه بِالسِّيرَةِ بالطريق الثَّالِث حكم هو فِي معرض النفي تقيةً مِنْ قِبَلِ الإمام عليه السلام، كما إذا أردنا أن ننفي وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ فِي الوضوء من خلال الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ بِالنَّحْوِ المتقدم، وافترضنا أن وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ فِي معرض النفي تقيةً؛ نَظَراً إلى رأي الْعَامّة عَلَىٰ عدم المسح مثلاً، فَحِينَئِذٍ لا يكفينا فِي مقام الاِسْتِدْلاَل بِالسِّيرَةِ عَلَىٰ نفي ذاك الحكم عدمُ ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ ثبوته، بل يشترط فيه أَيْضاً عدم ورود رواياتٍ عديدة دالة عَلَىٰ نفيه الَّذِي هو المطلوب؛ لأَنَّهُ لو وردت روايات عديدة دالة عَلَىٰ النفي المطلوب، فَحِينَئِذٍ يبطل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ مَحْضاً (أي: التقريب الأَوَّل) لانتفاء شرطه الخامس (وهو عدم ورود روايات عديدة عَلَىٰ وفق المطلوب).
 وَأَمَّا الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ كجزءٍ من الدَّلِيل (أي: التقريب الثَّانِي) فهو بنفسه بَاطِل فِي هذه الحالة؛ إذ من المحتمل أَنَّهُ لم تكن هناك سيرة قائمة آنذاك عَلَىٰ وفق المطلوب (أي: عَلَىٰ الاجتزاء بالمسح ببعض الْكَفّ وعدم التقيُّد بِتَمَامِ الْكَفِّ) وكثر السؤال عن الوجوب وجاء الجواب وفق المطلوب (أي: عدم الوجوب) تقيةً.
 إذن، فورود روايات وفق المطلوب هنا لا ينفعنا، بل عدم ورودها أفضل؛ إذ عَلَىٰ تقدير عدم ورودها تثبت السِّيرَة بِالتَّالِي ويثبت المطلوب وهو عدم الوجوب وجداناً، بينما عَلَىٰ تقدير ورودها لا يثبت المطلوب فِي أحسن التقادير إلا بالتَّعَبُّد؛ لأَنَّ الدَّلِيل عَلَىٰ المطلوب (أي: عدم الوجوب فِي فرض ورود روايات وفق المطلوب) ينحصر بنفس تلك الروايات بعد بطلان الاِسْتِدْلاَلِ بِالسِّيرَةِ بكلا تقريبيه كما تَقَدَّمَ آنفاً، وَحِينَئِذٍ إن كانت تلك الروايات حجةً تَعَبُّداً (أي: توفرت فيها شروط الْحُجِّيَّة) ولم يكن لها معارض (إذ مع وجود المعارض تحمل هذه الروايات عَلَىٰ التقية) يثبت المطلوب وهو عدم الوجوب تَعَبُّداً.
 بقيت فِي المقام نقطة لاَ بُدَّ من التَّنْبِيه عليها وهي أننا ذكرنا فِي الشَّرْط الرَّابِع من شروط الاِسْتِدْلاَل بِالسِّيرَةِ بالطريق الثَّالِث أن لا يكون الحكم المقابل مِمَّا دَلَّتْ عليه روايات عديدة، أو أفتى به كثير من فقهائها المتقدمين، وذكرنا فِي الشَّرْط الخامس الَّذِي أصبح من شروط الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ مَحْضاً (أي: من شروط التقريب الأَوَّل) أن لا يكون نفس الحكم المقصود إثباته بِالسِّيرَةِ أَيْضاً مِمَّا دَلَّتْ عليه روايات عديدة، وَإلاَّ فيبطل التقريب الأَوَّل للاستدلال بِالسِّيرَةِ بالطريق الثَّالِث كما عرفت.
 وعليه، فنواجه هذا السؤال وهو أننا كما ألحقنا فتاوى الكثير من فقهائها المتقدمين بالروايات فِي الشَّرْط الرَّابِع وقلنا بأنه يشترط أن لا يكون الحكم المقابل مِمَّا دَلَّتْ عليه روايات عديدة أو أفتى به كثير من فقهائها المتقدمين؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل؛ إذ لو كان قد كثر السؤال لكثر الجواب، ولو كثر الجواب لوصول الجواب إلينا إما ضمن روايات عديدة أو ضمن فتاوى. فهل نلحقها بها فِي الشَّرْط الخامس أَيْضاً ونقول بأنه يشترط أن لا يكون الحكم المقصود إثباته بِالسِّيرَةِ أَيْضاً مِمَّا دَلَّتْ عليه روايات عديدة أو أفتى به كثير من فقهائنا المتقدمين؟ بحيث يبطل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ مَحْضاً (أي: التقريب الأَوَّل) فيما إذا كان الحكم الَّذِي يُراد إثباته بِالسِّيرَةِ مِمَّا أفتى به كثير من فقهائنا المتقدمين، كما يبطل فيما إذا وردت روايات عديدة دالة عليه، أم لا نلحقها بها فلا يبطل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ بنحو التقريب الأَوَّل فيما إذا كانت فتاوى الفقهاء القدامى مطابقة للحكم المقصود إثباته بِالسِّيرَةِ؟
 مُقْتَضَىٰ القاعدة هو الإلحاق؛ إذ لا خصوصية للروايات فيما نحن فيه؛ فَإِنَّ النكتة الَّتِي بها كان ورود روايات عديدة دالة عَلَىٰ المقصود مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاِلِ، موجودة فِي الفتاوى المطابقة للمقصود أَيْضاً، والنكتة ما تَقَدَّمَ فِي الشَّرْط الخامس من أن ورود روايات عديدة يكشف عَلَىٰ كُلّ حال (أي: سَوَاء كانت الروايات دالة عَلَىٰ الحكم المقابل أم كانت دالة عَلَىٰ الحكم المقصود إثباته) عن كثرة السؤال وكثرة الجواب، فيبطل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ بنحو التقريب الأَوَّل حِينَئِذٍ؛ فمجرد كثرة السؤال والجواب يمنعنا عن إثبات السِّيرَة، سَوَاء كان الجواب بالإثبات أو النفي، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذه النكتة سارية وجارية فِي الفتاوى أَيْضاً، فتاوى من الفقهاء المتقدمين مطابقة للحكم المقصود إثباته بِالسِّيرَةِ يضر بِالاِسْتِدْلاِلِ بِالسِّيرَةِ؛ إذ نحتمل حِينَئِذٍ كثرة السؤال والجواب ووصول الحكم إلينا ضمن هذه الفتاوى.
 وفي ضوء هذا الإلحاق تكون النتيجةُ عبارة عن بطلان الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ مَحْضاً (أي: التقريب الأَوَّل) فِي مسألة المسح فِي الوضوء، فلا يصح الاِسْتِدْلاِل عَلَىٰ كفاية المسح ببعض الْكَفّ وعدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ بِالسِّيرَةِ بنحو التقريب الأَوَّل؛ إذ حتَّى لو لم ترد أية رواية فِي المقام، ففتاوى الفقهاء المتقدمين هي مطابقة للحكم الَّذِي نريد إثباته بِالسِّيرَةِ.
 وعليه، فنحن نحتمل كثرة السؤال والجواب ووصول الأمر إلينا ضمن هذه الفتاوى.
 والَّذِي يهوّن الخطب هو أن الإفتاء بكفاية المسح ببعض الْكَفّ وعدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ غير متوقّف عَلَىٰ الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ بنحو التقريب الأَوَّل، بل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ بنحو التقريب الثَّانِي تَامّ فِي المسألة كما تَقَدَّمَ.
 هذا، مُضَافاً إلى أن بالإمكان الاستغناء عن الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ رأساً؛ إذ لا يبعد القول بعدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ لأحد دليلين:
 الأَوَّل: أنا ما ورد من إجزاء المسح بشيء من ظَهر الرجل فِي ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع بناءً عَلَىٰ أن حمله (فِي مقام الجمع بينه وبين ما دَلَّ عَلَىٰ وُجُوبِ المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ) عَلَىٰ المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ الَّذِي هو غير مستوعب لتمام ظهر الرجل حمل غير عرفي يتعارض مع ما دَلَّ عَلَىٰ وُجُوبِ المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ، فإذا لم يمكن حمل الثَّانِي عَلَىٰ الاستحباب وتساقطا، نرجع إلى الأصل وهو عدم وجوب أكثر من مسمّى المسح.
 الثَّانِي: أن ما قام من إجماع الإمامية أو ما يشبه الإجماع مِنْ قِبَلِ قدماء الأصحاب عَلَىٰ عدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ يوجب سقوطَ الخبر الدَّال بظاهره عَلَىٰ وُجُوبِ المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ عن الْحُجِّيَّة، والنكتة فِي ذلك ليست عبارة عن مجرد التَّمَسُّك بالإجماع كي يقال: إِنَّهُ مدركيّ أو محتمل المدركية، ولا هي عبارة عن مجرد إعراض الأصحاب عن الخبر المذكور كي يقال:
 أوَّلاً: بعدم ثبوت إعراض الأصحاب عن سنده؛ لاحتمال حملهم له عَلَىٰ الاستحباب.
 وَثَانِياً: بأن إعراض الأصحاب عن السند لا يُسقط السند عن الْحُجِّيَّة عَلَىٰ ما هو الصَّحِيح.
 وَإِنَّمَا النكتة فِي ذلك عبارة عن وضوح أن المسح عَلَىٰ الرجل كان محل ابتلاء كُلّ الشيعة فِي كُلّ يوم عدة مرات، فافتراض أن الحكم بقي غامضاً لديهم إلى آخر زمان الأئمة عليهم السلام بحيث لم يكن الوجوب ولا عدم الوجوب واضحا عندهم، احتمال غير وارد أصلاً، ولو افترضنا أن وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ كان هو الواضح عندهم، إذن فاحتمال أن ينقلب الأمر دفعةً من أول عصر الغيبة إلى إجماع الفقهاء عَلَىٰ عدم الوجوب، احتمالٌ غير وارد.
 وعليه، فمثل هذا البيان قد يوجب القطع أو الاطمئنان (عَلَىٰ الأقل) بعدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْكَفِّ.
 هذا تمام الكلام فِي الطريق الثَّالِث من طرق إثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام وقد عرفت أَنَّهُ طريق تَامّ إذا توفّرت شروطُه الَّتِي ذكرناها.
 الطريق الرَّابِع: وهو مُخْتَصّ بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة، وهو إثبات السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة المعاصرة لزمان الشَّارِع من خلال الاستقراء الناقص، بأن نستقرئ أوضاعاً اجتماعيةً متعددة فِي مجتمعات كثيرة ومختلفة زماناً ومكاناً، فنلاحظ تطابقها عَلَىٰ سلوك مُعَيَّن وثبوت سيرة واحدة معينة فِي جميعها، فمن خلال ذلك نعمّم الحكم عَلَىٰ جميع المجتمعات الْعُقَلاَئِيَّة حتَّى المعاصرة لعهد الْمَعْصُوم عليهم السلام نستكشف ثبوت هذه السِّيرَة فِي زمان الشَّارِع، عَلَىٰ حد الاستكشاف الثابت فِي جميع موارد التجربة والاستقراء الناقص، فكما أننا حينما نستقرئ حال قطعة من الحديد ونراها تتمدّد بالحرارة، ونستقرئ حال القطعة الثَّانية وهكذا الثَّالثة والرابعة، ونرى أن نتيجة الاستقراء فِي الجميع واحدة، حِينَئِذٍ نعمّم الحكم عَلَىٰ كُلّ حديد بأنه يتمدّد بالحرارة، رغم أن استقراءنا كان نَاقِصاً وتجاربنا لم تكن إلا عَلَىٰ مصاديق معينة ومحدودة من الحديد، وكذلك الأمر حينما نحكم بأن كُلّ نار محرقة مع أن تجاربنا لم تكن إلا عَلَىٰ مصاديق محدودة من النار، أو نحكم عَلَىٰ كُلّ دجاجة مثلاً بأن فيها حالة خاصة مع أننا لم نستقرئ سوى كمّيّة محدودة من أفراد الدجاج الَّتِي رأينا فيها تلك الحالة الخاصة، فكذلك حينما نستقرئ مجتمعات عديدة (غير مجتمع الْمَعْصُوم الحاضر) ونرى فيها ثبوت سيرة معينة، نحكم حِينَئِذٍ عَلَىٰ كُلّ مجتمع عقلائي بما فيه مجتمع الْمَعْصُوم الحاضر بثبوت تلك السِّيرَة فيه وباستقرار التعايش فِي جميع المجتمعات الْعُقَلاَئِيَّة عَلَىٰ تلك الْوَضْعِيَّة.
 وهذا الطريق يختلف عن الطريق الأَوَّل المتقدم الَّذِي كان مبنياً عَلَىٰ روح الاستصحاب القهقرائي وافتراض توارث السِّيرَة يداً عن يد؛ فَإِنَّ هذا الطريق لَيْسَ مبتنياً عَلَىٰ ذلك، بل هو مبتنٍ عَلَىٰ روح التَّمَسُّك بالاستقراء واستنتاج النَّتِيجَة العامة والكلّية من الاستقراء الناقص للجزئيات، كما هو الحال دائما فِي باب التجربة الَّتِي هي أساس العلوم الطبيعية.
 وفي مقام التعليق عَلَىٰ هذا الطريق يوجد بيانان قد يرجعان بِالتَّالِي إلى مطلب واحد:
 البيان الأَوَّل: أن يورد عَلَىٰ هذا الطريق بعدم تماميته فِي جملة من الأحيان؛ لأننا بهذا الاستقراء إِنَّمَا نلاحظ غالباً المجتمعات المعاصرة لنا، بينما يُرَاد بالاستقراء تعميم الحكم عَلَىٰ مجتمع لم نعاصره، بل يفصلنا عنه زمان طويل بما كان يشتمل عليه هذا الفاصل الزمني البعيد من أحداث وظروف ووقائع، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مثل هذا التعميم متعذر بحسب قوانين الاستقراء وقواعد حساب الاحتمالات غالباً وفي كثير من الأحيان؛ فَإِنَّ التعميم فِي المقام إِنَّمَا يصح فيما إذا لم نحتمل وجود نكتة وخصوصية فِي ظروف هذا المجتمع تميّزه من غيره من المجتمعات، والحال أن هذا الاحتمال موجود وثابت فِي المقام؛ لأننا نعلم إجمالا بأن المجتمعات الْعُقَلاَئِيَّة قد اختلفت كثيراً بمرور الزمان فِي كثير من خصوصياتها ومرتكزاتها وسلوكها، وأن الأوضاع الاجتماعية قد تغيّرت فِي الجملة عَمَّا كانت عليه فِي الأزمنة السابقة ولم تثبت جميعاً عَلَىٰ ما كانت عليه نتيجة طروّ عوامل مختلفة، وبهذا الاختلاف والتغيّر تبدَّلَ كثير من سلوك النَّاس ومرتكزاتهم، إذن، فلا يمكن أن نخرج من استقراء المعاصرين إلى تعميم يشمل المجتمع الَّذِي لم نعاصره؛ لاحتمال تَحَقُّق بعض تلك العوامل بِالنِّسْبَةِ إلى السِّيرَة الَّتِي يُرَاد إثباتها.
 البيان الثَّانِي: أن يورد عليه بأن هذا الطريق حيث أَنَّهُ قائم عَلَىٰ أساس التَّمَسُّك بالاستقراء فتحقيق حاله بنحو التفصيل يرتبط ببحث الأسس المنطقية للاستقراء ودراسة قواعد التجربة وقوانين المنطق الذاتي، وليس المقام موضع تفصيلها، إلا أننا نقول إجمالا:
 تَارَةً يقصد بهذا الطريق (أي: الاستقراء) إثبات أصل وجود قريحة مشتركة بين المجتمعات وعلّيّتها لتحقّق هذه السِّيرَة، أو تلازمها بحيث أننا لم نعرف هذه القريحة لم نعلم بوجود هذا الشيء المشترك مسبَقاً وقبل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ بل نحتمل وجوده، وَإِنَّمَا نريد اكتشافه وإثبات وجوده مِنَ السِّيرَةِ نفسها، كي نقول بعد ذلك: إِنَّهُ العلة لتلك السِّيرَة أو أنهما متلازمان.
 وأخرى يقصد به إثبات العلية أو التلازم بين أمرٍ مشتركٍ (- نَفْسَانِيّ أو خارجي - معلومٍ لنا مسبقاً وقبل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ) وبين السِّيرَة.
 ففي الفرض الأَوَّل لا يُجدينا هذا الطريق فِي المقام، ولا ينفعنا الاستقراء المذكور لإثبات السِّيرَةِ المعاصرة للمعصوم عليه السلام. أَمَّا فِي الفرض الثَّانِي فقد يكون نَافِعاً لإثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام.
 توضيح ذلك:
 أَمَّا فِي الفرض الأَوَّل؛ فلأننا ما دمنا لا نعلم بأصل وجود عنصرٍ مشتركٍ فِي جميع تلك الموارد الَّتِي جرّبناها والمجتمعات الَّتِي استقرأناها ولاحظنا تطابقها عَلَىٰ شيء واحد وسيرة معينة، إذن فلا يصح لنا أن نكتشفه ونستدلّ عَلَىٰ أصل وجوده بهذا الاستقراء، كي نقول بعد ذلك: إن هذا العنصر المشترك هو السَّبَب والعلة لتحقق هذه السِّيرَة أو هما متلازمان، وَالسَّبَب فِي عدم صحة هذا الاكتشاف والاستدلال هو عدم توفر شرط الاِسْتِدْلاِل بالاستقراء وعدم انطباق قانون التجربة فِي المقام؛ فَإِنَّ قانون التجربة والاستقراء إِنَّمَا ينطبق فِي ما لو علمنا بوجود عنصر مشترك فِي جميع الموارد الَّتِي جرّبناها واستقرأناها، فنستكشف حِينَئِذٍ من التجربة علّيّة ذاك العنصر المشترك لكل تلك الْمَوَارِد الداخلة تحت التَّجْرُبَة والاستقراء أوتلازمهما، وَأَمَّا إذا لم نعلم بوجوده بل احتملنا ذلك فالتجربة لا توجب لنا القطع بعليّة ذلك العنصر المحتمل لتلك الموارد أو تلازمه معها، فَمَثَلاً لو رأينا آلاف الأشخاص تناولوا قرصاً معيّناً فماتوا؛ فَإِنَّ هذا الاستقراء حِينَئِذٍ يوجب لنا العلم بأن ذاك القرص سُمّ قاتل وأنه العلة لموتهم؛ لأَنَّ العنصر المشترك فِي جميعهم (وهو تناول القرص) نعلم بوجوده مسبَقاً، فنستكشف عِلِّيَّته للموت من الاستقراء، أَمَّا لو رأينا آلاف الأشخاص ماتوا، واحتملنا أنهم تناولوا قرصاً مُعَيَّناً، فإن هذا الاستقراء لا يوجب لنا العلم بأن ذاك القرص سمّ قاتل ولا يكون كاشفا عن عِلِّيَّته للموت، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإننا ما دمنا قد فرضنا (فِي الفرض الأَوَّل) أننا لا نعلم بأصل وجود عنصر مشترك فِي جميع المجتمعات الَّتِي استقرأناها ورأيناها مطبِقةً عَلَىٰ سيرة مُعَيَّنة، ولا نعرف شَيْئاً مشتركاً فِي ما بين هذه المجتمعات يحتمل كونه هو العلة وَالسَّبَب لتحقّق تلك السِّيرَة أو تلازمها، إذن فليس من الصَّحِيح أن نكتشف بواسطة استقراء جملة من المجتمعات وملاحظة وجود تلك السِّيرَة فيها عِلِّيَّة عنصرٍ يُفترض اشتراكه فِي ما بين تلك المجتمعات لتلك السِّيرَة أو تلازمهما.
 هذا مُضَافاً إلى أَنَّهُ حتَّى لو صحّ هذا الاكتشاف وفرضنا أن استقراء تلك المجتمعات أوجب لنا العلم بأن ذاك العنصر المشترك المحتمل وجوده فِي تلك المجتمعات هو العلة وَالسَّبَب لتحقق تلك السِّيرَة أو هما متلازمان، لكن لا طريق لنا إلى معرفة أن ذاك العنصر المشترك كان مَوْجُوداً فِي مجتمع الْمَعْصُوم الحاضر عليه السلام أَيْضاً كي نثبت من خلاله وجود تلك السِّيرَة فِي مجتمعه عليه السلام، إذن ففي الفرض الأَوَّل لا يَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بالاستقراء لإثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo