< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/05

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 وَأَمَّا فِي الفرض الثَّانِي؛ فلأننا ما دمنا نعلم مسبَقاً (وقبل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ الَّتِي رأينا بالاستقراء تطابق جملة من المجتمعات عليها) بوجود عنصرٍ مشتركٍ فِي جميع تلك المجتمعات (سَوَاء كان هذا العنصر أمرا نفسانياً أم كان أمراً موضوعياً خارجياً) ورأينا بالاستقراء أن هذا العنصر المشترك مقارن لتلك السِّيرَة ولا ينفك عنها، إذن فقد يصح لنا أن نكتشف بالاستقراء المذكور عِلِّيَّتَه لتلك السِّيرَة أو تلازمهما، لتوفّر شروط الاِسْتِدْلاِل بالاستقراء وانطباق قانون التَّجْرُبَة (الَّذِي ذكرناه آنفاً) فِي المقام، فيكون الاستقراء موجباً لحصول العلم لنا بعلّيّة ذاك العنصر لتلك السِّيرَة أو تلازمهما؛ لأَنَّهَا توجد متى وجد وتنعدم مثلاً متى انعدم، لكن بشرط أن نرى أن سائر الأمور المقارنة لتلك السِّيرَة (غير هذا العنصر المشترك) لا يُحتمل علّيّتها لِلسِّيرَةِ أو تلازمهما وَإلاَّ فمع احتمال عِلِّيَّة أمر آخر مقارنٍ أَيْضاً لِلسِّيرَةِ أو تلازمهما لا يمكن إثبات المطلوب، لوضوح أَنَّهُ إذا وجد فِي كُلّ مجتمع من تلك المجتمعات المطبِقة عَلَىٰ سيرة مُعَيَّنة مقارن آخر لتلك السِّيرَة يحتمل كونه هو العلة لتحقيق السِّيرَة أو كونهما متلازمين، فَحِينَئِذٍ لا يثبت المطلوب ولا يحصل لنا العلم من خلال الاستقراء بعلية ذاك العنصر لِلسِّيرَةِ أو تلازمهما.
 إذن، فمع توفّر هذا الشَّرْط نثبت عِلِّيَّة ذاك العنصر لِلسِّيرَةِ أو تلازمهما وَحِينَئِذٍ إذا علمنا بوجود ذاك العنصر فِي زمان الشَّارِع فَسَوْفَ نعلم قهراً بوجود تلك السِّيرَة فِي ذلك الزمان، ومثال ذلك هو أن نفترض أننا استقرأنا مجتمعات عديدة فرأينا أن سيرتها مطبِقة عَلَىٰ الملكية الخاصة ورفض الملكية الاشتراكية، وعلمنا مسبَقاً بوجود درجة مُعَيَّنة من القدرة والسلطة للحكومة فِي هذه المجتمعات، ورأينا بحسب التَّجْرُبَة التقارن بين تلك الدرجة من السلطة الحكومية وبين قيام السِّيرَة عَلَىٰ الملكية الخاصة، مع عدم مقارنٍ آخر لهذه السِّيرَة يحتمل عِلِّيَّتَه لها أو تلازمها، فإذا رأينا أن تلك الدرجة من السلطة كانت ثابتة فِي عصر الْمَعْصُوم الحاضر، ثبتت هذه السِّيرَة لأصل ذاك الزمان.
 ويمكننا أن ندرج فِي هذا الباب حُجِّيَّة الظُّهُور، بدعوى أننا رأينا المقارنة بين كون ميزان التفهيم والتفهّم هو اللغة وبين قيام السِّيرَة عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور( [1] )، فنعلم أن الأَوَّل عِلَّة للثاني أو هما متلازمان ومعلولان لشيء واحد، فنستكشف من ذلك ثبوت هذه السِّيرَة فِي زمان الشَّارِع، باعتبار أن ميزان التفاهم آنذاك كان هو اللغة بلا إشكال.
 نعم، هذا الاستكشاف مشروط بدفع احتمال وجود مانعٍ فِي زمان الشَّارِع يمنع عن تأثير المقتضي فِي تَحَقُّق هذه السِّيرَة؛ وَذَلِكَ لأَنَّ تجربة المقارنة بين «أ» و«ب» إِنَّمَا تثبت أن «أ» مقتضٍ لـ«ب»، ولا تثبت عدم وجود مانع صدفةً يمنع عن تأثير فرد خَاصّ من «أ».
 ويمكن إحراز عدم مَانِعِيَّةِ سائر المقارنات فِي زمان الشَّارِع فِي ما نحن فيه، باعتبار أن الْمَانِعِيَّة فِي باب السير الْعُقَلاَئِيَّة مَانِعِيَّة مفهوميّة، فلا يُحتمل أيّ شيء عنها، وليست كَالْمَانِعِيَّةِ فِي الأمور التكوينية، من قبيل مَانِعِيَّة الرطوبة عن احتراق النار مثلاً الَّتِي لا يمكن إثباتها أو نفيها إلا بالتجربة؛ فَإِنَّ الْمَانِعِيَّة فِي باب السير الْعُقَلاَئِيَّة مرتبطة بوعي البشر واختياره؛ فقد تُنفى بحكم العقل، بلا حاجة إلى التَّجْرُبَة.
 وبهذا الطريق ننفي مَانِعِيَّة المقارنات فِي زمان الشَّارِع عن تَحَقُّق السِّيرَة عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور.
 مُضَافاً إلى أَنَّهُ فِي خصوص حُجِّيَّة الظُّهُور يمكن القول بأن الْمُقْتَضِي والملاك لها لَيْسَ عبارة عن مجرد كون اللغة هي أساس التفاهم، بل الملاك عبارة عَمَّا فيه من الكشف النوعي وتطابق درجة الكشف الموجود فيه مع درجة اهتمام الْعُقَلاَء بأغراضهم عند الشَّكّ، ولا نَشُكُّ فِي أن نفس هذه الحالة كانت موجودة فِي زمان الشَّارِع؛ لأَنَّهَا نابعة عن الأغراض الْعُقَلاَئِيَّة الَّتِي نتعقّلها والتي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وهذا ما سيأتي قريبا - إن شاء الله - فِي الطريق الخامس.
 هذا تمام الكلام فِي الطريق الرَّابِع، وقد عرفت أَنَّهُ أَيْضاً تَامّ فِي بعض الفروض عند توفر الشروط الَّتِي ذكرناها.
 الطريق الخامس: ما ذكره سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي الحلقة الثَّانية من إثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام عن طريق الملاحظة التحليلية الوجدانية، بمعنى أن الإنسان إذا عرض مسألةً عَلَىٰ وجدانه ومرتكزاته الْعُقَلاَئِيَّة فرأى أَنَّهُ منساق إلى اتخاذ موقفٍ مُعَيَّن، ولاحظ أن هذا الموقف واضح فِي وجدانه بدرجة كبيرة، واستطاع أن يتأكد بملاحظة تحليلية وجدانية من عدم ارتباط هذا الموقف بالخصوصيات الَّتِي تتغيّر من حالة إلى حالة ومن شخص إلى شخص آخر، أمكنه أن ينتهي إلى الوثوق بأن ما ينساق إليه من موقفٍ حالةٌ عَامَّةٌ فِي كُلّ الْعُقَلاَء، وقد يدعم ذلك باستقراء حالة الْعُقَلاَء فِي مجتمعات عُقَلاَئِيَّة مختلفة للتأكد من هذه الحالة العامة.
 وكأن سَيِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِيدَ & قد ذكر هذا الطريق علاجاً للنقض الَّذِي كان يواجهه الطريق الرَّابِع وهو الاِسْتِدْلاِل بالاستقراء، فليس هذا الطريق مبنيا عَلَىٰ روح التَّمَسُّك بالاستقراء والتجربة واستنتاج النَّتِيجَة الكلية من الموارد الْجُزْئِيَّة كي يواجه النقص الَّذِي ذكرناه هناك، وَإِنَّمَا هو مبنيّ عَلَىٰ تحليل وجداني يقوم به الإنسانُ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة الَّتِي نعاصرها نحن كثيراً ما يمكن لنا بناءًا نحن عقلاء أن ندرك منشأها ونكتتها وأساسها، وذلك من خلال التحليل الوجداني الَّذِي ذكره سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ &؛ فإننا إذا حدسنا أن منشأ هذه السِّيرَة الَّتِي نعاصرها وأساسها وملاكها عبارة عن الأمر الفلاني ورأينا أن ذاك الأمر من الجهات المشتركة بين جميع الْعُقَلاَء وليس مِمَّا يحتمل وقوع تغيّر فيه بلحاظ الفوارق الحاصلة بين الأجيال بسبب مرور الزمان. يثبت لنا حِينَئِذٍ أن هذه السِّيرَة نفسها كانت ثابتة فِي عصر الشَّارِع أَيْضاً. فَمَثَلاً بِالنِّسْبَةِ للعمل بخبر الثِّقَة إن ثبتت فِي زماننا سيرة عُقَلاَئِيَّة عليه؛ فَإِنَّ منشأها ونكتتها (بحسب حدسنا بمن نحن عقلاء) عبارة عن تطابق درجة كشفه النوعي عن الواقع (والتي هي عبارة عن 80% مثلاً) مع درجة اهتمام الْعُقَلاَء غالباً بأغراضهم الَّتِي هي أَيْضاً عبارة عن «80%»، ونحن لا نحتمل اختلاف زمان الشَّارِع عن زماننا فِي هذه النكتة، فيحصل لنا الوثوق بثبوت هذه السِّيرَة آنذاك أَيْضاً؛ وكذلك الأمر بِالنِّسْبَةِ لقيام السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة فِي عصرنا عَلَىٰ الْعَمَل بالظهور، حيث يمكننا (بما نحن عقلاء) أن نحدث منشأ هذه السِّيرَة وأساسها وهو عبارة عن عدم وجود طريق آخر أفضل منه لتنظيم التفاهم بين النَّاس، حيث أن درجة الكشف النوعي الموجود فِي الظُّهُور تتطابق وتتناسب مع درجة اهتمام الْعُقَلاَء عادةً بأغراضهم عند الشَّكّ، ولا نحتمل الْفَرْق فِي ذلك بين زماننا وزمان الْمَعْصُوم عليه السلام.
 إذن، فهذا الطريق يختلف عن الطريق الأَوَّل الَّذِي كان مبنياً عَلَىٰ روح التَّمَسُّك بالاستصحاب القهقرائي وافتراض توارث السِّيرَة يداً بيد، ويختلف أَيْضاً عن الطريق الرَّابِع الَّذِي كان مبنياً عَلَىٰ روح التَّمَسُّك بالاستقراء كما قلنا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مبنياً عَلَىٰ هذا ولا عَلَىٰ ذاك، بل هو مبنيّ عَلَىٰ هذا ولا عَلَىٰ ذاك، بل هو مبني عَلَىٰ تحليل الإنسان لِلسِّيرَةِ الَّتِي يعاصرها تحليلاً وجدانياً ينتهي به إلى الوثوق بثبوت هذه السِّيرَة نفسها فِي عهد الْمَعْصُوم عليه السلام أَيْضاً؛ فَإِنَّ السير الْعُقَلاَئِيَّة ليست (غالباً) غامضة السَّبَب والنكتة كُلّ الغموض، فيمكن للإنسان الحاسّ بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة فِي زمانه أن يدرك علّتها وملاكها، ولذا فإن هذا الطريق نعتبره طَرِيقاً استدلالياً موضوعياً بقطع النَّظَر عَمَّا يتاح للملاحِظ والمحلِّل من استقراء مجتمعات عُقَلاَئِيَّة مختلفة، وإن كان هذا خلاف ما ذكره سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي الحلقة الثَّانية فِي مقام التعليق عَلَىٰ هذا الطريق حيث قال:
 وهذا الطريق قد يحصل للإنسان الوثوق بسببه، ولٰكِنَّهُ لَيْسَ طريقاً اِسْتِدْلاَلِيّاً مَوْضُوعِيّاً إلا بقدر ما يتاح للملاحِظ من استقراء للمجتمعات الْعُقَلاَئِيَّة المختلفة».
 أقول: حتَّى بِغَضِّ النَّظَرِ عن استقراء عدة مجتمعات عُقَلاَئِيَّة؛ فَإِنَّ هذا الطريق استدلال موضوعي لإثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام، أَيْ: أَن أيّ عاقل آخر غيرنا فهو أَيْضاً يحدس كحدسنا ويدرك لَيْسَ فحسب عدم ارتباط هذه السِّيرَة بالخصوصيات المتغيرة من حال إلى حال، بل يدرك العلة والنكتة والأساس لها، فإذا كانت تلك العلة والنكتة ثابتة فِي مجتمع زمان الْمَعْصُوم عليه السلام يثبت المقصود بلا دخل لمسألة استقراء عدة مجتمعات.
 هذا تمام الكلام فِي الطريق الخامس، وقد عرفت أَنَّهُ تَامّ.
 الطريق السادس: هو إثبات السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام فِي المورد الَّذِي تتوفّر فيه هذه الخاصية وهي أَنْ يَكُونُ لِلسِّيرَةِ الَّتِي يُراد إثباتها بدليل بحيث لاَ بُدَّ من أَنْ تَكُونَ السِّيرَة آنذاك قائمة إما عَلَىٰ هذا الَّذِي نريد إثبات قيام السِّيرَة عليه أو عَلَىٰ ذاك البديل، ويكون ذلك البديل بنحوٍ بحيث لو كانت السِّيرَة آنذاك قائمة عليه فِي زمن الْمَعْصُوم لنقل ذلك إلينا، نظراً إلى كونه ظاهرة اجتماعية غريبة ومهمة عَلَىٰ نحوٍ لا تقتضي العادة أن تمرّ هذه الظاهرة ويتحقق هذا البديل فِي المجتمع مِنْ دُونِ التفات إليه وتسجيل له، وذلك لخطورته وكونه فِي نفسه مِمَّا يبحث عنه ويُهتم به اهتماماً كبيراً، فمتى ما تَحَقُّق هذا الشَّرْط وكان للسلوك الَّذِي يُرَاد إثبات كونه سلوكاً عاماً للمعاصرين للأئمة عليهم السلام سلوك بديل عَلَىٰ نحو لو لم نفترض ذاك الأَوَّل يتعين افتراض هذا البديل، ويكون هذا السلوك البديل معبِّراً عن ظاهرة اجتماعية غريبة بحيث لو كانت قد وقعت وتحققت حَقّاً فِي المجتمع لَسُجِّلَت وانعكست عينا باعتبارها غريبة وعلى خلاف المألوف، فهنا نقول: حيث أن ذاك الْبَدِيل لم يُسَجَّل وتلك الظاهرة لم تنعكس علينا، نعرف أن الَّذِي وقع خارجاً آنذاك كان هو المبدل الَّذِي نريد إثبات قيام السِّيرَة آنذاك عليه لا الْبَدِيل.
 ولعل من أحسن الأمثلة عَلَىٰ ذلك السِّيرَةُ عَلَىٰ الْعَمَل بالظهور، بأن نقول: إن السلوك الْعَامّ المعاصر للمعصومين عليهم السلام كان منعقداً عَلَىٰ اعتبار الظُّهُور والعمل به وَالأَخْذِ بظاهر الكلام؛ إذ لو لا ذلك لكان لاَ بُدَّ من سلوك بديل يمثّل طريقةً أخرى فِي التفاهم، ولما كانت الطريقة البديلة تشكّل ظاهرة غريبة عن المألوف، كان من الطبيعي أن تنعكس علينا ويُشار إليها، والتالي غير واقع، فكذا المقدم، وبذلك يثبت استقرار السِّيرَة آنذاك عَلَىٰ الْعَمَل بالظواهر.
 والحاصل أَنَّهُ لو لم تكن هذه السِّيرَة موجودة فِي عهد الْمَعْصُوم عليه السلام ولم يكن بناء الصحابة وأصحاب الْمَعْصُوم عَلَىٰ جعل الظُّهُور مقياساً لاقتناص المعنى وكانوا يرون مثلاً أن اقتناص المعنى متوقف عَلَىٰ القطع بمراد الْمُتَكَلِّم وقيام قرائن قطعية عَلَىٰ ذلك، إذن فحتماً كان لديهم نظام آخر لاقتناص المعنى من اللَّفْظ غير ظهور الكلام وكان لهم طريق آخر بديل عن الظُّهُور لتلقّي الأحكام؛ إذ لا شك فِي أنهم كانوا ملزَمين بالعمل بالأحكام مثلنا، وكانوا يقتنصون الأحكامَ والمعاني من النصوص وَالأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَىٰ كُلّ حال، فلو لم يكن ذلك عَلَىٰ أساس الظُّهُور والأخذ بظاهر الكلام لكان لهم إذن مسلك آخر لتلقّي الأحكام من الأَدِلَّة، وهذا المسلك الآخر البديل الَّذِي يُفترض لو كان حق قد وقع خارجاً لكان يشكّل (أيّاً كان) ظاهرة اجتماعية فريدة وغريبة عَلَىٰ الطباع الْعُقَلاَئِيَّة النَّوْعِيَّة وملفِتة للنظر؛ لأَنَّ الطباع الْعُقَلاَئِيَّة النَّوْعِيَّة لا تعهد قاعدة أخرى بديلة عن الظُّهُور، فلو كان النَّاس آنذاك قد تبانوا حَقّاً عَلَىٰ مسلك آخر لفهم مراد الْمُتَكَلِّم (غير الأخذ بظاهر كلامه) وجروا عَلَىٰ قاعدة أخرى غير قاعدة الظُّهُور فترة طويلة من الزمن، لكان هذا بلا شك ظاهرة اجتماعية غريبة وخارجة عن المألوف، وكان أمراً واسعاً وفي غاية الأهميّة بحيث يهتمّ به منذ البدء كُلّ باحث وكاتب فِي الفقه والأصول، وكان قد وصل ذلك إلينا حتما؛ إذ لا يمكن عادةً أن تمرّ أمثال هذه الظاهرة مِنْ دُونِ أن تصل إلينا آثارها وأخبارها بشكل من الأشكال؛ فَإِنَّ ما هو أقل منها (سعةً وأهمّيّةً وغرابةً) من الظَّوَاهِر الاجتماعية تصل آثاره عَادَةً إلى المتأخرين بالتدريج، وَحَيْثُ أَنَّ هذا البديل لم يصل إلينا رائحةٌ منه بوجهٍ من الوجوه، نستكشف من ذلك بالقطع واليقين أَنَّهُ لم يكن هناك بديل للظهور إطلاقا، بل كان هو الحجة عندهم.
 لا يقال: إن الْعَمَل بالظهور أَيْضاً يشكّل ظاهرة اجتماعية مهمّة، ولم يصلنا نقل عن أنهم فيما سبق كانوا يعملون بالظهور.
 فَإِنَّهُ يقال: صحيح أن هذا أَيْضاً سلوك اجتماعيّ مهم، ولكن قد يكون عدم نقله لأجل الاعتماد فِي وصوله إلى نفس استمرار السِّيرَة، أو لأجل أن استقرار السِّيرَة عليه فِعْلاً كان مانعاً عن الالتفات التفصيلي إلى أهميّته؛ فَإِنَّ سيرة الْعُقَلاَء إذا كانت عَلَىٰ الْعَمَل بالظهور فسيرة الْمُتَشَرِّعَة حِينَئِذٍ عندما تكون عين سيرة الْعُقَلاَء فهي لا تجلب انتباهاً ولا تلفت النَّظَر كي تُنقَل، أو أنها قد لا تُنقَل اِعْتِمَاداً عَلَىٰ السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة نفسها، ولو كانت غيرها لنقلت. وكيف كان فَالسِّيرَةُ عَلَىٰ الْعَمَل بالظهور من أحسن أمثلة هذا الطريق.
 وبالإمكان أن نمثّل له أَيْضاً بتملّك الفرد للمعدن؛ إذ لو لم تكن السِّيرَة المعاصرة للمعصوم عليه السلام منعقدة عَلَىٰ أن مَن يستخرج معدناً يكون مالكاً له، لكان لهذه السِّيرَة بديل ولكان هناك طريق آخر لاستفادة النَّاس من المعدِن حتماً، وكان هذا البديل ظاهرة اجتماعية كبيرة ومهمة، لكثرة حاجة النَّاس إلى الاستفادة من المعدن ولكان يصل ذلك إلينا، فقيام السِّيرَة فِي عصر الْمَعْصُوم عليه السلام عَلَىٰ تملّك المستخرِج للمعدن رغم أَنَّهُ لم يمكننا إثباته بالطريق الثَّالِث المتقدم (لعدم توفّر شروطه فيه كما سبق) يمكننا إثباته بهذا الطريق.
 هذا تمام الكلام فِي الطريق السادس وهو الأخير وقد عرفتَ صِحَّتَه.
 هذه هي الطرق الستة الَّتِي يمكن التَّمَسُّك بها والاستناد إليها أو إلى بعضها عَلَىٰ الأقل لإثبات «معاصرة السِّيرَة لعصر المعصومين عليهم السلام) الَّتِي هي الركن الأَوَّل من ركني السِّيرَة المشرِّعة الَّتِي يُرَاد الاِسْتِدْلاِل بها عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. وهذه الطرق هي طرق عَامَّة ولها ضوابط كما عرفنا.
 وهناك طرق أخرى كثيرة جُزْئِيَّة وخاصة ومتناثرة هنا وهناك لا يمكن استيعابها جميعاً، وليست لها ضوابط، وَإِنَّمَا هي قائمة عَلَىٰ أساس نكات وخصوصيات غير منضبطة يواجهها الفقيه فِي الفقه عادةً. فمن جملتها مثلاً ألسنة الروايات وطرز الأسئلة والأجوبة الواردة فيها؛ فإنها قد تكون كاشفة (أحياناً أو فِي كثير من الأحيان) إِثْبَاتاً أو نفياً عن سيرة الْمُتَشَرِّعَة وارتكازهم فِي عصر المعصومين عليهم السلام، ومن هنا فقد استفدنا نحن فِي الفقه من نفس الروايات الَّتِي يُتمسك بها لإثبات نجاسة أهل الكتاب ذَاتاً أن السِّيرَة آنذاك لم تكن قائمة عَلَىٰ نجاستهم الذاتية، فالروايات الَّتِي استند إليها المشهور لإثبات نجاستهم الذاتية واستدلوا بها عَلَىٰ ذلك، جعلناها نفسها دليلا عَلَىٰ أَنَّهُ لم تكن نجاسة أهل الكتابة مِمَّا انعقدت عليه السِّيرَةُ آنذاك عند الْمُتَشَرِّعَةِ وأصحاب الْمَعْصُوم عليه السلام؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الأسئلة الواردة فِي تلك الروايات تكشف عن ذلك، حيث يسأل السائل مثلاً عن حكم لبس ثوب اليهودي مع أَنَّهُ يشرب الخمر ويأكل لحم الميتة؛ فَإِنَّ هذا الأُسْلُوبَ من السؤال يكشف عن عدم انعقاد السِّيرَة آنذاك عَلَىٰ نجاستهم الذاتية؛ إذ لو كانت النجاسة الذاتية أمراً مشهوراً ومفروغاً عنه عند الْمُتَشَرِّعَة آنذاك وكانت هي مصبّ السؤال، أي: كان السؤال عَلَىٰ حكم لبس ثوبه ناظراً إلى حيثية نجاسته الذاتية وأنه باعتبار نجساً ذَاتاً، فهل يجوز لنا لبس ثوبه أم لا؟
 إذن، فلماذا يفترض السائل النجاسة العَرَضيّة الناشئة من شرب الخمر وأكل لحم الميتة وكون اليهودي فِي معرض الابتلاء بها، ويضيف إلى سؤاله أَنَّهُ يشرب الخمر ويأكل لحم الميتة؟ من الواضح أَنَّهُ مع فرض النجاسة الذاتية لا معنى لضمّ السائل النجاسة العرضية والمعرضية لها إلى سؤاله.
 ومن جملتها فقه الْعَامّة المشتمل عَلَىٰ فتاوى فقهائهم خُصُوصاً فِي باب المعاملات، حيث يمكن أن يستفاد منه بعض القرائن الدالّة عَلَىٰ ثبوت السلوك الخارجي للناس فِي عصر الْمَعْصُوم أو عَلَىٰ نفين، وذلك باعتبار أن قسماً من فقه العامة وفتاوى فقهائهم متفرّع عن الوضع والتعامل الخارجي فِي زمن الأئمة عليهم السلام وكاشف عنه.
 إلى غير ذلك من الخصوصيات الروائية والتأريخية وغيرهما مِمَّا لا يمكن ضبط قواعد كُلّيّة لها وَإِنَّمَا يترك أمر تفصيلها إلى الفقه حسب المسائل الفقهية الَّتِي يواجهها الفقيه وطبيعتها.
 هذا تمام الكلام فِي الركن الأَوَّل من ركني الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وهو إثبات معاصرة السِّيرَة لزمان حضور الْمَعْصُوم عليه السلام.


[1] - اللهم إلا أن يقال: إننا لم نشاهد مجتمعاً لا يكون ميزان التفاهم عنده اللغة، كي نرى أَنَّهُ هل تنتفي عنده السِّيرَة عَلَىٰ الْعَمَل بِالظُّهُورِ أم لا؟ فالمقارنة المذكورة تكون من قبيل ما لو رأينا النار فِي كُلّ الأمكنة ورأينا الاحتراق فِي كُلّ الأمكنة ولم نشاهد مكاناً خالياً من النار كي نرى أَنَّهُ هل ينتفي فيه الاحتراق أم لا؟ ومن الواضح أَنَّهُ عندئذٍ لا نستطيع أن نفهم عِلِّيَّة النار للاحتراق أو تلازمهما.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo