< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: القسم3: السِّيرَة المشرِّعة/السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 القسم الثَّانِي: السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة القائمة عَلَىٰ شيء لكن لا لوجود نكتة ثابتة فِي قريحة الْعُقَلاَء بحيث يتوقعون من الآخرين أن يدركوا هذه النكتة، بل كان اتفاقهم عَلَىٰ هذه النكتة لوجود حالات شخصية عَمّت عامةَ النَّاس صدفةً مِنْ دُونِ أن توجد أية ملازمة بين ثبوتها عند بعض الأفراد وبين ثبوتها عند بعض الأفراد الآخرين، كاستخدام بعض المواد الغذائية المعينة لدى بعض النَّاس أو بعض الفيتامينات لدى كثير من النَّاس، لكن مِنْ دُونِ أن يفترضوا أن عَلَىٰ كُلّ عاقل أن يتّبع هذه السِّيرَة، خِلاَفاً للقسم الأَوَّل حيث لا يُلام من شذ عن السِّيرَة ولا يُستغرب.
 طبعاً الظاهر مِنَ السِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة هو القسم الأَوَّل، ولعله هو المقصود لدى الأصحاب عند استعمالهم هذه الكلمة فِي الفقه أو الأُصُول، إلا أننا لا نجزم أن مقصودهم خصوص القسم الأَوَّل؛ لأَنَّهُ أساساً لم يُنقح بحثُ السِّيرَة فِي كلماتهم ولم يذكروا هذين القسمين، لكن عدم تقسيم السِّيرَة مِنْ قِبَلِ الأصحاب إلى هذين القسمين لا يمنعنا عن هذا التقسيم، بعد أن كان هذا التقسيم مؤثراً عَلَىٰ النَّتِيجَة الَّتِي نتوخاها من هذه السِّيرَة وهي عبارة عن استنباط الحكم الشَّرْعِيّ. فقد تكون السِّيرَة من قبيل القسم الثَّانِي الَّذِي يحتمل فيه أن لا تكون حالة الشَّارِع بما هو عاقل (أي: بلحاظ حيثيته الأولى الَّتِي أكد عليها المحقق الإِصْفِهَانِيّ &) مُوَافِقاً معهم؛ فقد تكون سيرة الْعُقَلاَء من القسم الثَّانِي دون الأَوَّل، والَّذِي لَيْسَ من اللازم عَلَىٰ كُلّ عاقل أن تتطابق سيرتُه مع هذه السِّيرَة، كمن لا يتفق مع الْعُقَلاَء فِي أخذ الفيتامينات.
 فقد تكون السِّيرَة الَّتِي نريد أن نستدل بها لإثبات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ سيرةً عُقَلاَئِيَّةً لكن من هذا القسم الثَّانِي الَّذِي لو شَذَّ إنسان عنها لا يلومه الْعُقَلاَء، فإن شذ الشَّارِع عنها لا يعني أن الشَّارِع بما هو عاقل يوافقهم أَيْضاً.
  • الملاحظة الثَّانية: أَنَّهُ حتَّى لو كانت السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة من القسم الأَوَّل (بِمَعْنَى أَنَّهَا قائمة عَلَىٰ نكتة ثابتة عند الْعُقَلاَء ومُدرَكة لديهم بقريحتهم العامة) لكن هذا لا يعني أننا أحرزنا أن الشَّارِع بلحاظ حيثيته الأولى الْعُقَلاَئِيَّة متحد المسلك مع الْعُقَلاَء فِي هذه السِّيرَة؛ ذلك لأننا نحتمل أَنْ يَكُونُ الشَّارِع بلحاظ حيثيته الْعُقَلاَئِيَّة مختلفاً معهم فِي المسلك فِي هذا المورد؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُ لَيْسَ من الواجب أَنْ تَكُونَ تلك النكتة تبتني عليها السِّيرَة عقليةً بحتةً دَائِماً؛ لأَنَّ السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة وإن كان معناها أَنَّهَا سيرة الْعُقَلاَء بما هم عقلاء، لكن لَيْسَ من الضروري واللازم فِي سيرة الْعُقَلاَء أَنْ تَكُونَ دائماً نابعة من حاقّ العقل؛ فَإِنَّ الْعُقَلاَء ليسوا عقولاً رياضية بحتة كي يقال: إن سيرتهم نابعة من حاق عقولهم ومتأثّرة بصميم العقل فحسب، بل هم مجموعٌ خليط من العقل والعواطف والمشاعر والانفعالات والارتكازات ونحوها.
 وعليه، فقد تكون تلك النكتة الَّتِي تبتني عليها سيرتهم راجعة إلى باب الانفعالات والعواطف ونحوها من الأمور الخارجة عن دائرة العقل، وتكون سيرتهم متأثرة بالعوامل غير الْعَقْلِيَّة من العواطف والمشاعر الموجودة لديهم والمؤثرة فِي سلوكهم وفي قراراتهم كثيراً؛ فمجرد انعقاد سيرة الْعُقَلاَء بما هم عقلاء عَلَىٰ أمرٍ من الأمور نتيجة إيمانهم ولو ارتكازاً بنكتة عامّة ثابتة عند جميع الْعُقَلاَء لا يعني أن تلك النكتة عَقْلِيَّة بحتة ولا يوجب أَنْ يَكُونَ السلوك المتّفَق عليه بينهم نابعاً من حاق العقل بينهم كي يقال: إن هذا العقل موجود عند الشَّارِع أَيْضاً؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الْعُقَلاَء كما يشتركون فِي حاق العقل، يشتركون أَيْضاً فِي كثير من المشاعر الَّتِي لا ترجع إلى حاق العقل، فقد يكون تطابقهم عَلَىٰ هذا السلوك بلحاظ حيثية أخرى تتناسب معهم غير العقل وإن كانت لا تتنافى أَيْضاً مع العقل.
 وَحِينَئِذٍ كيف يكون مجرد كون الشَّارِع من الْعُقَلاَء بل سيّدهم دليلاً عَلَىٰ موافقته لهم فِي ذلك؟! وكيف نحرز أن الشَّارِع بلحاظ حيثيته الأولى الْعُقَلاَئِيَّة متحد المسلك معهم، طالما يمكن ابتناء السِّيرَة عَلَىٰ نكتة عاطفية وانفعالية تعالى الشَّارِع سبحانه عنها علواً كبيرا! فلعل الشَّارِع بما هو عاقل لا يتّحد مع الْعُقَلاَء فِي هذه السِّيرَة.
  • الملاحظة الثَّالثة: حتَّى لو سلمنا بأن هذه النكتة الَّتِي تبتني عليها السِّيرَة عَقْلِيَّةً محضة وبحتة ولا ترجع إلى باب العواطف والأحاسيس أو رأينا أن هذه السِّيرَة الصادرة من الْعُقَلاَء (بعد تأمّل وإعمال عنايات زائدة) هي ناشئةٌ عنهم بلحاظ عقلهم لا بلحاظ حيثية أخرى من الحيثيات المشتركة بينهم، لكن مع هذا يمكن أن نحرز أن الشَّارِع بلحاظ حيثيته الأولى الْعُقَلاَئِيَّة متحد المسلك معهم فِي هذه السِّيرَة فِي هذه السِّيرَة رغم كونه عاقلاً وسيداً للعقلاء؛ وَذَلِكَ لأَنَّ من المحتمل خطأ الْعُقَلاَء فِي ما أدركوه بعقولهم، لكن الشَّارِع بما هو سيد الْعُقَلاَء وأعقلهم أدرك خطأَهم وتجنب عن سيرتهم ولم يوافقهم فِي سيرتهم.
 فكون الشَّارِع سيد الْعُقَلاَء وأعقلهم هو الموجب لاحتمال افتراقه عنهم فِي هذه السِّيرَة؛ لأَنَّ معنى كونه سيد الْعُقَلاَء هو أن مرتبة عقله أتم وأكمل من مراتب عقولهم، فهو بحسب مرتبة عقله الَّتِي يتعامل عَلَىٰ أساسها أعلى كثيراً من المرتبة الَّتِي يعيشها الْعُقَلاَء ويصدرون عنها؛ فَإِنَّ كُلّ مرتبة من العقل تناسب مرتبة من الاستنتاج، فكلما كان أعقل كان أكثر وصولاً وأدقّ وأصوب؛ فكثيراً ما يكشف الأعقل خطأَ العاقلِ ويلتفت إلى ما يمنعه من قبول ما اتفق عليه سائر الْعُقَلاَء الاعتياديين؛ فمن المحتمل أن ما به امتاز عقل الشَّارِع عن عقل غيره أوجب امتيازه عنهم فِي السلوك فاتَّخذ موقفاً أفضل أو أشمل من موقفهم.
  1. الملاحظة الرابعة: أَنَّهُ إن غضضنا النَّظَر عن الإشكالات السابقة وسلمنا بأن الشَّارِع اتحد مسلكه مع مسلك الْعُقَلاَء بلحاظ حيثيته الأولى الْعُقَلاَئِيَّة وبما هو عاقل بل سيد الْعُقَلاَء، لكن مع ذلك لا يَتُِمّ ما أفاده المحقق الإِصْفِهَانِيّ + من كفاية عدم إحراز الردع عن السِّيرَة، بل لاَ بُدَّ من الجزم بعدم الردع وذلك لأنه:
  2. تَارَةً نفترض: أن هذا الاتحاد فِي المسلك بين الشَّارِع وبين الْعُقَلاَء أوجب لنا القطع بأن الشَّارِع بلحاظ حيثيته الثانية وبما هو شارع أيضا لا يخالفهم، فهذا معناه أَنَّهُ لا نحتمل صدور الردع مِنْ قِبَلِ الشَّارِع. أي: نجزم بأن الشَّارِع بما هو شارع أمضى سيرة الْعُقَلاَء، وهذا خلف المفروض حيث أن المفروض هو الشك في صدور الردع واحتمال كونه بما هو شارع يخالفهم كما هو واضح.
  3. وأخرى: نحتمل أن الشَّارِع يختلف موقفه ومسلكه بما هو شارع عن موقفه ومسلكه بما هو عاقل(كما هو مفروض كلام المحقق الإِصْفِهَانِيّ+)، فحِينَئِذٍ نقول: كيف يُكتفى بمجرد اتحاد مسلكه الْعُقَلاَئِيّ معهم فِي ترتيب الأثر ما لم يثبت لنا اتحاده معهم فِي المسلك بما هو شارع؟ وأي أثر لمجرد إحراز موقفه بما هو عاقل فِي التنجيز والتعذير العقليين؟ فهل أن لموقفه غير المولوي مَوْضُوعِيَّة عَقْلاً فِي التنجيز والتعذير؟
 فإن ادعي الاكتفاء بذلك عَلَىٰ وجه الموضوعية فهذا باطل؛ لأَنَّ من الواضح أَنَّهُ لا مَوْضُوعِيَّة لدى العقل لموقف الشَّارِع بما هو عاقل، فاتحاده فِي المسلك مع الْعُقَلاَء بما هو عاقل لا مَوْضُوعِيَّة له عَقْلاً.
 نعم بما هو كاشف عن اتحاده فِي المسلك معهم بما هو شارع يكون موضوعاً لحكما لعقل بالتنجيز والتعذير، وهذا معناه أَنَّهُ يجب أَنْ تَكُونَ السِّيرَة كاشفة عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ودالة عَلَىٰ الإمضاء وعدم الردع، وهذا هو الَّذِي اشترطناه وعرفته مفصَّلاً خلال البحوث المتقدمة.
 أَمَّا أَنْ يَكُونَ موضوع حكم العقل عبارة عن مجرد اتحاد الشَّارِع فِي المسلك مع الْعُقَلاَء بما هو عاقل بحيث لكون بما هو عاقل يقيم الحجة علينا لا بما هو شارع، فهذا غير صحيح أَيْضاً؛ لأَنَّهُ لا يقيم الحجة علينا عَقْلاً بما هو عاقل؛ لوضوح أن الْحُجِّيَّة والتنجّز فرع إعمال المولى مولويته وصدور أيٍّ منه بما هو مولى، وَأَمَّا إذا لم يُعمل مولويته فِي ذلك ولم يحكم بما هو مولى وشارع وَإِنَّمَا تطابق رأيه وذوقه بما هو عاقل مع آراء الْعُقَلاَء وأذواقهم لا بما هو شارع، فهذا لَيْسَ موضوعاً لحكم العقل بالتنجز، غايته أَنَّهُ يكون إِرْشَادِيّاً حتَّى وإن صدر من المولى.
 وَأَمَّا إن ادعي الاكتفاء باتحاد الشَّارِع فِي المسلك بما هو عاقل مع الْعُقَلاَء لكن لا عَلَىٰ وجه الموضوعية، بل عَلَىٰ نحو الطَّرِيقِيَّة والكاشفية الطبيعية النَّوْعِيَّة الظنية له عن موقفه بما هو شارع، بحيث يُجعل الاتحاد بينه وبينهم فِي المسلك والموقف الْعُقَلاَئِيّ كاشفاً ظنياً عن موقفه بما هو شارع، بأن يقال: ما دام الشَّارِع بما هو عاقل متحد المسلك والطريقة مع الْعُقَلاَء، فهذه إمارة كاشفة عن أَنَّهُ بما هو شارع أَيْضاً متحد المسلك معهم، فمن الواضح أن هذا وإن كان كشفا، لٰكِنَّهُ لَيْسَ قطعياً وَإلاَّ لما احتملنا الردع والحال أننا فرضنا احتمال الردع، بل هو كشف ظني ولا دليل عَلَىٰ حُجِّيَّتُه ما لم يرجع إلى الظُّهُور الْحَالِيّ للشارع فِي الإمضاء والقبول عَلَىٰ أساس النكات الَّتِي تَقَدَّمَ شرحها، وَإلاَّ فلا. هذا تمام الكلام فِي الجهة الثَّانية.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo