< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان:
 الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 تلخص من بحث أمس أن القضايا اليقينية الست الضرورية تُعتبر القاعدة الرئيسية للمعرفة البشرية وهي المعرفة الجديرة بالقبول حسب المنطق الأرسطي. والقضايا الَّتِي تُستنتج من هذه القضايا الست تُشَكِّلُ البناء العلوي للمعرفة البشرية. ويُطلق حسب مصطلحات المنطلق الأرسطي عَلَىٰ هذه المعرفة بقاعدتها وببنائها العرفيّ اسم المعرفة البرهانية، ويُطلق عَلَىٰ الاِسْتِدْلاِل الَّذِي يُستخدم فِي إطار هذه المعرفة واستنتاج قَضِيَّة من قَضِيَّة أخرى اسم البرهان. فالبرهان هو الدَّلِيل الَّذِي من خلاله يُراد إثبات قَضِيَّة يقينية من هذه القضايا الضرورية الست. إذن، القضايا اليقينية الست هي المبادئ الرئيسية فِي الاِسْتِدْلاِل فِي المنطق الأرسطي.
 إلا أن المبادئ الأولية للاستدلال فِي رأي هذا المنطق لا تنحصر فِي هذه القضايا، وهذه القضايا الست هي المبادئ الأولية للاستدلال اليقيني الْبُرْهَانِيّ، وهو الاِسْتِدْلاِل الَّذِي يوجب معرفةً واجبة القبول. وهذا أحد أقسام الاِسْتِدْلاِل، وهناك استدلالات لا تؤدي إلى المعرفة البرهانية؛ فَإِنَّ هناك استدلالات غير برهانية والمنطلق فِيها يختلف عن بدايات القضايا البرهانية. ومن هنا يعتبر المنطق الأرسطي مجموعَ القضايا الست (الَّتِي ذكرناها) أحد مبادئ الاِسْتِدْلاِل ويرى إلى جانبها أصنافاً أخرى من القضايا هي أَيْضاً مبادئ للاستدلال ولٰكِنَّهَا مبادئ للمعرفة غير اليقينية وهي القضايا المظنونة والمشهورة والمسلمة والمقبولة والوهمية والمشبَّهة حسب المصطلح الأرسطي.
 إذن، من حيث المجموع مبادئ الاِسْتِدْلاِل الَّذِي يستهدف إيجاد التصديق بالقضية المستدلة عبارة عن سبعة أصناف:
 الصنف الأَوَّل: اليقينيات وهي القضايا الست الضرورية اليقينية المتقدمة بالأمس.
 الصنف الثَّانِي: المظنونات، وهي القضايا الَّتِي يعرّفها المنطق الأرسطي بِأَنَّهَا قضايا يُرَجِّحُ العقلُ صدقَها (أي: يجوز كذبها فِي الوقت نفسه ولا يثق بها العقل مائة فِي المائة)، كما لو رأى إنسانٌ أن زيداً يتكلم بصورة سرية مع عدوه، فيستنتج من هذا أَنَّهُ يتكلم ضده، لأنه يُسارّ عدوه، أو أن فلاناً باعتباره عاطلاً عن الْعَمَل يكون سافلاً.
 الصنف الثَّالِث: المشهورات، وهي القضايا الَّتِي لا سند للإنسان فِي التصديق بها إلا شهرتها (قضايا لا واقع لها إلا تطابق آراء النَّاس عليها)، من قبيل حسن العدل وقبح الظلم (طَبْعاً عند المنطق الأرسطي).
 الصنف الرَّابِع: المسلّمات، وهي القضايا الَّتِي قد يحصل التسالم بينك وبين غيرك عَلَىٰ صدقها وثبوتها، كالتسالم الفقهي عَلَىٰ مسألة فِقْهِيَّة.
 الصنف الخامس: المقبولات، وهي القضايا المأخوذة تقليداً (وليس استدلالاً واقتناعاً) ممن يوثَق بصدقه، وذلك إما لأمر سماوي من قبيل الشَّرِيعَة (وسبب صدقنا بكلام النَّبِيّ هو صدور المعجزة منه!)، وَإِمَّا لأمر غير سماويّ وذلك من قبيل الأخذ بكلام الحكماء والعلماء والمتخصصين وذلك لمزيد علمهم وخبرتهم مثلاً.
 الصنف السادس: الموهومات أو الوهميات، وهي القضايا الكاذبة الَّتِي ينساق الإنسان إلى التصديق بها نتيجة الأنس والألفة الموجودة بين الإنسان وبين المحسوسات، من قبيل التصديق بالقضية القائلة بأن >كُلّ موجود له مكان وجِهَةٌ<، بينما لا يرضخ العقل له. وَالسَّبَب فِي هذا التوهم هو أَنَّ الإنسان ألِفَ المحسوساتِ ولذلك بات يعمم هذا الحكم لغير المحسوسات أَيْضاً.
 الصنف السابع: المشبَّهات، وهي القضايا الكاذبة الَّتِي قد يصدق بها الإنسان لشبهها بالقضايا اليقينية أو لأنها تشبه المشهورات، كقضيةٍ تشبه اجتماع النقيضين.
 إذن، إن هذه الأصناف السبعة هي مبادئ كُلّ استدلال يُرَاد منه إنتاج قَضِيَّة ويُطلق المنطق الأرسطي اسم البرهان عَلَىٰ كُلّ استدلال لا يستخدم من المقدمات سوى القضايا اليقينية، ويُطلق اسمَ الجدل عَلَىٰ كُلّ استدلال يستخدم من المقدمات القضايا المشهورة والقضايا المسلَّمة، ويطلق اسم الخطابة عَلَىٰ كُلّ استدلال يستخدم المظنونات أو المقبولات ويطلق اسم السفسطة أو المشاغبة عَلَىٰ كُلّ استدلال يستخدم الصنفين الأخيرين، أي: القضايا الموهمة أو المشبَّهة.
 هذا عرض سريعٍ لموقف المنطق الأرسطي من المعرفة، وبهذا العرض بصورة عَامَّة اتضح أن موقع القضية المتواترة فِي المنطق الأرسطي هو القاعدة الرئيسية الأساسية للمعرفة البرهانية الَّتِي هي أهم معرفة عند المنطق الأرسطي باعتبار أن المتواترات إحدى اليقينيات الست.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ القضية المتواترة إِنَّمَا جعلت مِنْ قِبَلِ المنطق الأرسطي من ضمن القضايا الضرورية الست باعتبار أن الكبرى الواقعة فِي القياس الَّذِي يُسْتَدَلّ به عَلَىٰ القضية المتواترة ضرورية، وَإلاَّ فإن القضية المتواترة نفسها (كموت زيد الَّذِي أخبر به ألف شخص) نتيجة مُسْتَنْتَجةٌ من القياس ومستدل عليها بالقياس وليست من القضايا الضرورية (بل من هي من القضايا المكتَسَبة)، وَبِالتَّالِي لا يكون اليقين بها يَقِيناً أَوَّلِيّاً. إذن، اليقين بالقضية المتواترة يقين موضوعي استنباطي (لأن النَّتِيجَة مستبطنة فِي المقدمات وأصغر منها( [1] )).
 هذا هو تفسير المنطق الأرسطي للقضية المتواترة وأنه كيف يحصل اليقين بسبب التَّوَاتُر، ومن خلال قياس مركَّب من صغرى حسية وكبرى عَقْلِيَّة بديهية أولية، هي استحالة اجتماع ألف شخص عَلَىٰ الكذب. فالمنطق الأرسطي يعتبر هذه الاستحالة مثل استحالة اجتماع النقيضين الَّتِي هي من الأوليات.
 وهذا التفسير الأرسطي للقضية المتواترة يشابه تماماً تفسيرَ المنطق الأرسطي للقضية التجريبية (الَّتِي هي من جملة القضايا الست المتقدمة)، فإذا اقترنت الحرارة المسلطة عَلَىٰ الحديد مثلاً بتمدد الحديد فِي ألف مَرَّة، هنا سوف تكون النَّتِيجَة عبارة عن أن الحرارة عِلَّة للتمدد، وهذه العلية الَّتِي ثبتت بالتجربة والمشاهدة (عِلِّيَّة الحرارة للتمدد) مُسْتَنْتَجةٌ من قياس مؤلف من صغرى وكبرى، صغراها حسية (وهي أن حادثة التمدد اقترنت بحادثة الحرارة فِي ألف مَرَّة) وكبراها عَقْلِيَّة تقول بأن من المستحيل أَنْ يَكُونَ هذا الاقتران المتكرر ألف مَرَّة صُدفةً، فإن الصدفة لا تكون دائمية ولا غالبية، إذن يستحيل أَنْ يَكُونَ اقتران التمدد بالحرارة فِي كُلّ هذه المرات الألف من باب الصدفة مِنْ دُونِ وجود علاقة العلية بين الحرارة والتمدد. إذن بضم هذه الكبرى إلى تلك الصغرى تكون النَّتِيجَة عبارة عن أن الحرارة هي عِلَّة التمدد، وَإلاَّ فلو لم تكن الحرارة هي العلة لتمدد الحديد بل كانت العلة فِي كُلّ مَرَّة من مرات شَيْئاً آخر غير الحرارة ولٰكِنَّهُ اقترن مع الحرارة صدفة فِي كُلّ تلك المرات وأوجب التمدد، يواجه محذوراً عَقْلِيّاً وهو تكرر الصدفة.
 ويعتبر المنطق الأرسطي هذه الكبرى القائلة باستحالة الصدفة أوليةً وبديهية، ومن هذا المنطلق يعتبر المنطق الأرسطي أن التجريبيات من القضايا الست الضرورية مثلما تَقَدَّمَ منه أَنَّهُ يعدّ القضية اليقينية المتواترة ضمن الضروريات الست أَيْضاً، وَالسَّبَب فِي ذلك لحاظ كبراها، وَإلاَّ فإن القضية المتواترة نفسها مُسْتَنْتَجةٌ وصغراها حسية أَيْضاً وليست عَقْلِيَّة كما أن النَّتِيجَة حسية أَيْضاً.
 إذن، بديهية القضية التجريبية ليست إلا بلحاظ الكبرى، وهذا الرأي يشبه تماماً رأي المنطق الأرسطي فِي المتواترات.
 ويعتقد هذا المنطق أن هذه الكبرى (القائلة باستحالة الصدفة وكونها غير غالبية وغير دائمية) لا يمكن أن تثبت بالتَّجْرُبَة؛ لأَنَّ هذه القضية تُشَكِّلُ الكبرى فِي كُلّ القضايا التجريبية الأخرى، وَإلاَّ فبأي صغرى وكبرى ثبتت استحالة الصدفة وأن الصدفة لا تكون غالبية ولا دائمية وتجريبية، فلا يمكنها أن تثبت نفسَها، وَإلاَّ أصبح من الدور المصرح المستحيل.
 وفذلكة الكلام أن ما ذكره المنطق الأرسطي بشأن القضية التجريبية (من أَنَّهَا مُسْتَنْتَجة من قياس كبراه عَقْلِيَّة) من صنف ما ذكره بشأن القضية المتواترة، وتفسيره لكلتا القضيتين تفسير واحد وهو أن كلتا القضيتين مُسْتَنْتَجةً بِالاِسْتِدْلاِلِ القياسي الاستنباطي الَّذِي تكون النَّتِيجَة فيه دَائِماً مستبطنة فِي المقدمات (مساوية للمقدمات أو أصغر منها) وليست النَّتِيجَة أكبر من المقدمات، خِلاَفاً للاستدلال الاستقرائي الَّذِي قلنا إن النَّتِيجَة فيه أكبر من المقدمات.
 وإذا دقّقنا النَّظَر أكثر وجدنا أن مرجع الكبرى الَّتِي تعتمد عليها القضيةُ المتواترة هو الكبرى نفسها الَّتِي تعتمد عليها القضيةُ التجريبية؛ فَإِنَّ الكبرى فِي القضية المتواترة كانت عبارة استحالة تواطؤ واجتماع ألف شخص مثلاً عَلَىٰ الكذب لاستحالة تكرر الصدفة وهذا شأن كبرى القضية التجريبية أَيْضاً عَلَىٰ شرح يأتي - إن شاء الله تعالى - غَداً والحمد لله رب العالمين.


[1] - الصغرى هي >اجتمع ألف إنسان فِي الإخبار عن موت زيد< والكبرى >وكلما اجتمع ألف إنسان عَلَىٰ الإخبار بقضية من القضايا أو حادثة من الحوادث ثبت صدق تلك القضية واستحال كذبها< والنَّتِيجَة >لم يثبت موت زيد<، فالنتيجة أصغرى من الكبرى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo