< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/25

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان:
 حَقِيقَة التواتر/الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 قلنا إن سَيِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِيدَ & برهن فِي كتابه القيّم >الأسس المنطقية للاستقراء< عَلَىٰ عدم كون المتواترات والتجريبيات قضايا ضرورية وبديهية، وعدم كون اليقين بها نَاشِئاً من تلك الكبرى الَّتِي افترضها المنطق القديم قَضِيَّةً عَقْلِيَّةً بديهية، ببراهين فنّية عديدة لا مجال لذكرها هنا( [1] )، وَإِنَّمَا نقتصر فِي المقام عَلَىٰ واحد منها وهو أننا نجد بالبرهان والحس أن حصول اليقين بالقضية المتواترة والْقَضِيَّة التَّجْرِيبِيَّة (بلا فرق بينهما) يرتبط ويتأثر بكل العوامل والأسباب الَّتِي هي دخيلة فِي تقوية القرائن الاحتمالية نفسها (وَالَّتِي سوف نَتَحَدَّثُ عنها - إن شاء الله تعالى - فِي الجهة الثَّانية الجهة الثَّانية من البحث عند بيان العوامل المؤثرة فِي حُصُول اليقين)، فكلما كُلّ قرينة احتمالية من تلك القرائن أقوى وأوضح كان حصول اليقين من تجمّع القرائن الاحتمالية وتراكمها أسرع.
 وعلى هذا الأساس نلاحظ أن مفردات التَّوَاتُر (أي: كُلّ خبر خبرٍ من الأخبار الكثيرة) إذا كان عبارة عن إخباراتٍ يبعد فِي كُلّ واحد منها احتمال الاستناد إلى مصلحة شخصية تدعو إلى الإخبار بصورة معينة (إما لوثاقة المخبر أو لظروف خارجية) حصل اليقين بسببها بصورة أسرع؛ فهناك فرق وجداناً بين إخبار جماعة ثقات وورعين بشيء، وبين إخبار جماعة مجهولين بشيء؛ فَإِنَّ حصول اليقين فِي الأَوَّل أسرع منه فِي الفرض الثَّانِي، فقد يكفي إخبار ثلاثة ثقات ورعين فِي حصول اليقين لنا، بينما لا يكفي إخبار عشرين مجهولين بشيء فِي حصول اليقين، وليس ذلك إلا أن كُلّ واحد من الأخبار فِي الفرض الأَوَّل (إخبار ثلاثة ورعين) حيث أن احتمال الصواب والمطابقة للواقع فيه أقوى وأكبر (مثلاً 90%) من احتمال الكذب والاستناد إلى مصلحة شخصية دعته إلى الإخبار (ومقداره 10% مثلاً) وليس مساوياً له، فلذا يكون حصول اليقين بصحة الخبر أسرع، وهذا بخلاف الفرض الثَّانِي حيث أن احتمال الصواب والمطابقة للواقع فِي كُلّ خبر مساوٍ لاحتمال الكذب والاستناد إلى مصلحة شخصية داعية إلى الإخبار، فلا يحصل اليقين بتلك الدرجة من السرعة.
 وهذا معناه أن اليقين الحاصل فِي باب التَّوَاتُر يتأثر بالقيمة الاحتمالية لِكُلّ واحد من الأخبار، ولا يتأثر بقاعدة عَقْلِيَّة قبلية موضوعها كَمٌّ مُعَيَّنٌ كما يفترضه المنطق الأرسطي، فحيث أن اليقين وليد تجمّع القرائن الاحتمالية فكلما كانت كُلّ قرينة من تلك القرائن فِي نفسها أقوى كان حصول اليقين أسرع؛ لسرعة تصاعد القيمة الاحتمالية لصدق الخبر، وكلما كانت أضعف كان حصول اليقين أبطأ لبطئ تصاعد القيمة الاحتمالية لصدق الخبر، فالنتيجة مرتبطة سرعةً وبُطأً بقوّة هذه القرائن الاحتمالية وضعفها، وهذا شاهد عَلَىٰ أن اليقين إِنَّمَا هو نتيجة هذه الاحتمالات، ولو كان نتيجة قَضِيَّة عَقْلِيَّة بديهية كما يذهب إليه المنطق الأرسطي، لَما كان هناك علاقة بين هذا اليقين وبين قوة هذه الاحتمالات وضعفها، ولَما كان اليقين يتأثّر بهذه العوامل. هذا فِي القضية المتواترة.
 وكذلك الأمر فِي باب الْقَضِيَّة التَّجْرِيبِيَّة؛ فإن مفردات التَّجْرُبَة عبارة عن الاقترانات العديدة المتكررة بين الحادثتين، فكلما كان احتمال وجود عِلَّة غير منظورة أضعف كانت الدِّلاَلَة والقرينية الاحتمالية لِكُلّ اقترانٍ عَلَىٰ العلية بين الحادثتين أقوى، وَبِالتَّالِي يكون اليقين بالعلية أسرع وأرسخ، وليس ذلك إلا لأن اليقين ناتج عن تراكم القرائن الاحتمالية وتجمّع قيمها الاحتمالية المتعددة فِي مصب واحد، وليس مشتقاً وناشئاً من قَضِيَّة عَقْلِيَّة أولية كتلك الكبرى الَّتِي يفترضها المنطق القديم.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ اليقين لو كان نَاشِئاً مِمَّا يقوله المنطق القديم (وهو تلك الكبرى) فاللازم أن يحصل هذا اليقين بشكل واحد وبدرجة واحدة من السرعة والبطء فِي جميع الحالات، مع أننا نلاحظ أَنَّهُ لَيْسَ كذلك، بل حصوله أسرع فيما لو كانت مفردات التَّوَاتُر إخبارات الثقات أو الذين يبعد فِي حقهم احتمال الاستناد إلى مصلحة شخصية، أو كانت مفردات التَّجْرُبَة اقترانات يبعد فِي كُلّ منها احتمال وجود عِلَّة غير منظورة، فهذا منبّه وجداني عَلَىٰ أن السَّبَب فِي حصول اليقين لَيْسَ هو ما ذكره المنطق الأرسطي وافترضه بديهياً، وَإلاَّ لزم أن لا يتأثر حصول اليقين سرعةً وبطأً بهذه الأمور.
 وبكلمة أخرى: إننا نتساءل عن الحد الأقل والعدد الأدنى الموجب للعلم واليقين فِي باب التَّوَاتُر وفي باب التَّجْرُبَة، فأيّ عدد من الإخبارات فِي باب التَّوَاتُر يُعتبر أقل عدد يوجب القطع بثبوت المخبَر به؟ وأي عددٍ من الاقترانات بين حادثتين فِي باب التَّجْرُبَة يُعبر أقل عدد يوجب القطع بالعلية بينهما؟
 الجواب واضح بحسب الوجدان، وهو أَنَّهُ لا يوجد عدد مُعَيَّن فِي هذا المجال، بل هو يختلف باختلاف المخبرين وباختلاف ظروفهم وأزمنتهم وأمكنتهم ونحوها. فَمَثَلاً فِي باب التَّوَاتُر قد تكون ثلاثة إخبارات من ثلاثة أشخاص موجبة للقطع؛ ذلك لوثاقتهم وورعهم عندنا، وقد لا تكون مائة إخبار من مائة شخص موجبة للقطع؛ وذلك لكونهم كذابين عندنا، وقد يكون عشرون خبراً من عشرين مخبِر موجباً للقطع؛ وذلك لأَنَّنَا لا نعرف حالهم من الوثاقة وعدمها، إذن يختلف العدد الأقل والحد الأدنى الموجب للعلم واليقين، فلماذا هذا الاختلاف؟
 الجواب هو أن تفسير ذلك وَفْقاً لرأينا واضح؛ فَإِنَّ العلم واليقين فِي باب التَّوَاتُر يتكوّن من تجمّع الاحتمالات وتراكمها عَلَىٰ مصبّ واحد، فإذا لاحظنا كُلّ إخبارٍ من الإخبارات ووجدنا أن احتمال كذبه فِي نفسه ضئيل وضعيف (نَظَراً إلى أن المخبِر ثقة ورع) فهذا معناه أن احتمال صدقه قويّ، فيكون من الطبيعي أن نحتاج إلى عدد قليل من الإخبارات كي يحصل لنا القطع بالصدق، والعكس بالعكس كما هو واضح.
 وَأَمَّا عَلَىٰ رأي المنطق الأرسطي الَّذِي يفسّر حصول اليقين فِي باب التَّوَاتُر بقضية عَقْلِيَّة بديهية وقبلية تقول باستحالة اتفاق عدد كبير من النَّاس عَلَىٰ الكذب فلا تفسير لاختلاف العدد الأقل الموجب للقطع باختلاف الأشخاص والظروف.
 إذن، فاليقين فِي باب التَّوَاتُر قائم عَلَىٰ أساس الدَّلِيل الاستقرائي وحساب الاحتمالات كاليقين فِي باب التَّجْرُبَة تماماً، فروح اليقين فِي البابين واحدة، وملاك القضية التَّجْرِيبِيَّة والمتواترة واحد، ولكي يتضح لنا أن القضية المتواترة ليست إلا قَضِيَّة استقرائية تقوم عَلَىٰ أساس الدَّلِيل الاستقرائي كالقضية التَّجْرِيبِيَّة، لاَ بُدَّ من أن نوضّح أوَّلاً الاِسْتِدْلاِل الاستقرائي عَلَىٰ القضية التَّجْرِيبِيَّة وكيفية حصول اليقين فِي باب التَّجْرُبَة عَلَىٰ أساس حساب الاحتمالات، كي يتضح من خلاله الاِسْتِدْلاِل الاستقرائي عَلَىٰ القضية المتواتر وكيفية حصول اليقين فِي باب التَّوَاتُر عَلَىٰ أساس حساب الاحتمال، وسوف نرى أن وروحهما واحدة، فنقول:
 إن الاِسْتِدْلاِل الاستقرائي عَلَىٰ القضية التَّجْرِيبِيَّة له شكلان تعرض لهما مُفَصَّلاً سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي كتابه القيّم >الأسس المنطقية للاستقراء<( [2] ) نذكرهما بإيجاز:
 الشكل الأَوَّل: هو الاِسْتِدْلاِل الَّذِي يُرَاد به إثبات عِلِّيَّة الموجود فِي المورد الَّذِي نعلم فيه بوجود شيئين خارجاً ونَشُكُّ فِي عِلِّيَّة أحدهما للآخر (كما فِي مثال الحرارة والتمدد) ولهذا الشكل قواعده وشروطه ونظامه.
 الشكل الثَّانِي: هو الاِسْتِدْلاِل الَّذِي يُرَاد به إثبات وجود العلة خارجاً بالتجربة فِي المورد الَّذِي نعلم بِعِلّيَّةِ أحد الشيئين للآخر (فِي الفرض الأَوَّل لا نعلم بالعلية وَإِنَّمَا نعلم بوجود الحرارة وبوجود التمدد) ونشك فِي أن العلة هل وُجدت خارجاً أم لا؟ كما إذا علمنا بأن أستاذ الفقه فِي زماننا إذا أراد أن يبحث فِي كتاب الزكاة فَسَوْفَ يجمع الكتب الفقهية الَّتِي تبحث عن الزكاة فِي مكتبته وعلى طاولة بحثه، فدخلنا غرفته مِنْ دُونِ أن نعلم بأنه عنده هذا البحث فِعْلاً، ولكننا رأينا كتب الزكاة عَلَىٰ طاولة بحثه، فنستدل بذلك عَلَىٰ أَنَّهُ يبحث حَالِيّاً فِي كتاب الزكاة.
 وللكلام تتمة تأتي إن شاء الله غَداً.


[1] - راجع عن ذلك >الأسس المنطقية للاستقراء<، القسم الأَوَّل من الكتاب > >نقد المبدأ الأرسطي< وأيضا القسم الرَّابِع منه في >تفسير القضية التَّجْرِيبِيَّة وتفسير القضية المتواترة<.
[2] - السيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: ص254-340.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo