< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/29

بسم الله الرحمن الرحیم

 الجهة الثَّانية:
 ضابط التَّوَاتُر والعوامل المؤثرة فِي حصول اليقين
 
 وَأَمَّا الجهة الثَّانية: ففي ضابط التَّوَاتُر والعوامل المؤثرة فِي حصول اليقين، فمتى يعتبر الخبر متواتراً وموجباً لحصول اليقين؟
 وقد اتضح إلى حَدّ كبير الجواب عن هذا السؤال من خلال البحث المتقدم فِي الجهة الأولى؛ فَإِنَّ الضَّابِط فِي التَّوَاتُر عبارة عن >الكثرة العددية< بلا إشكال؛ فَإِنَّهَا هي جوهر التَّوَاتُر وهي الَّتِي تصنع العلم الإجمالي الَّذِي ذكرناه فِي الجهة الأولى وقلنا عنه: إِنَّهُ يضعف احتمال عدم صدق الخبر المتواتر ويقوي احتمال صدفه، فالجانب العددي للمخبِرين هو الَّذِي يصنع هذا العلم الإجمالي، وكلما كثرت أطراف هذا العلم ارتفعت قيمة احتمال الصدق وتضاءلت قيمة احتمال الكذب.
 ومن الواضح أَنَّهُ كلما ازداد عدد المخبِرين كثرت أطراف هذا العلم، كما لاحظنا ذلك كله فِي البحث المتقدم فِي الجهة الأولى. إذن، فبكثرة عدد الْمُخْبِرِينَ تكثر أطراف العلم، وبكثرة أطرافه تتراكم القيم الاِحْتِمَالِيَّة الكثيرة فِي صالح صدق الْقَضِيَّة المتواترة المخبَر عنها، فكثرة عدد الْمُخْبِرِينَ هي جوهر التَّوَاتُر بلا إشكال.
 إِلاَّ أَن السؤال الَّذِي نواجهه هنا هو أن هذه الكثرة هل يمكن تحديدها فِي رقم مُعَيَّن؟ وهل توجد هناك درجة معينة للعدد الَّذِي يحصل به القين بالخبر المتواتر كأن يقال مثلاً: >إذا أخبر مائة شخص بشيء فهذا هو الخبر المتواتر وهو الَّذِي يفيد اليقين؟<.
 حاول البعض وضعَ بعض التحديدات الْكَمِّيَّة للتواتر، وقد وصفها الشهيد الثَّانِي & بسخف القول، من قبيل التحديد بعدد مَن شهد بدراً من الصحابة (وهو عبارة عن 313)، ومن قبيل التحديد بعدد نقباء بني إسرائيل (وهو عبارة عن 12) ومن قبيل التحديد بعدد أصحاب موسى (عَلَىٰ نبينا وآله وعليه الصَّلاَة والسلام) الذين اختارهم لميقات ربهم (وهو عبارة عن 70) ومن قبيل التحديد بأكثر من أربعة؛ لئلاَّ تدخل البينة عَلَىٰ بعض الأمور المتوقفة عَلَىٰ أربعة شهود (كالزّنا) فِي التَّوَاتُر، ونحو ذلك من التحديدات.
 وقد أفاد الشهيد الثَّانِي & بعد تسخيف هذه التحديدات أن الميزان فِي التَّوَاتُر إِنَّمَا هو إفادة العلم؛ فالعدد الَّذِي يفيد العلم هو ضابط التَّوَاتُر( [1] ). انتهى كلام الشهيد الثَّانِي &.
 ونحن وإن كنّا نوافقه & عَلَىٰ تسخيف التحديدات المذكورة، لكننا لا نوافقه عَلَىٰ الميزان الَّذِي ذكره؛ فَإِنَّ تفسير المتواتر بما يفيد العلم أو تفسير التَّوَاتُر بإفادة العلم لَيْسَ إِلاَّ تَفْسِيراً لِلشَّيْءِ بنفسه، كتفسير الماء بالماء.
 وكل ذلك ناتج عن عدم تحديد صورة صحيحة لجوهر كاشفية الخبر المتواتر، أَمَّا بعد تحديد ذلك فَحِينَئِذٍ يُعرف بأنه ما دام ميزان الْكَاشِفِيَّة وجوهرها وأساسها المنطقي عبارة عن حساب الاحتمالات والأسس المنطقية للاستقراء، إذن فكل عامل يؤثّر فِي حساب الاحتمالات صعوداً أو نزولاً يكون هو المؤثر فِي التَّوَاتُر، فلا يمكن وضع قاعدة ودرجة معينة للتواتر ولا يوجد تحديد دقيق لدرجة الكثرة العددية الَّتِي يحصل بسببها اليقين بالقضية المتواترة؛ لأَنَّ حصول اليقين يتأثّر بعوامل كثيرة سنذكر قَرِيباً أَهَمّهَا.
 فأساس إفادة التَّوَاتُر للعلم واليقين هو حساب الاحتمالات لا رقم وكمّ عدديّ مُعَيَّن، وَأَمَّا الأرقام والتحديدات الَّتِي ذكرت ونحوها فهي إِنَّمَا جاءت بوحي من منطق >أرسطو< الَّذِي كان يفترض أن هناك عَدَداً يحكم العقل بداهةً باستحالة اجتماعه عَلَىٰ الكذب بناءً عَلَىٰ وجود بديهة من هذا القبيل تكون قَضِيَّة قبلية ويكون التَّوَاتُر والكشف التواتري كشفاً قِيَاسِيّاً مُسْتَمَدّاً من تلك الْقَضِيَّة القبلية البديهية كما تصوّره أرسطو.
 وَحِينَئِذٍ بناءً عَلَىٰ هذا يحق للإنسان أن يبحث ويفحص ويسأل >أرسطو< عن ذلك العدد والكمّ الْمُعَيَّن الَّذِي يحكم العقل بداهةً بامتناع كذبه، فتطرح هذه التحديدات وأمثالها كنتيجة طبيعية لمثل هذا التصور وهذا الطرز من التفكير الأرسطي عن الْقَضِيَّة المتواترة.
 وَأَمَّا بناءً عَلَىٰ ما ذكرناه من عدم وجود قَضِيَّة بديهة عَقْلِيَّة قبلية فِي المقام، وَإِنَّمَا الْقَضِيَّة المتواترة مرتبطة بحساب الاحتمالات، فَحِينَئِذٍ لا مانع من افتراض المرونة فِي هذا العدد والجانب الكمي الَّذِي هو جوهر التَّوَاتُر، فهو يتأثر ويختلف (كما قلنا آنِفاً) باختلاف العوامل المؤثرة فِي حساب الاحتمالات، فقد تحصل بعض تلك العوامل لإخبار خمسة أشخاص بشيء، فيحصل للإنسان اليقين بذاك الشيء، وقد لا تحصل تلك العوامل لإخبار عشرين شخصاً بشيء، فلا يحصل للإنسان اليقين به.
 وهذه العوامل المؤثرة فِي حساب الاحتمالات وَبِالتَّالِي فِي إفادة التَّوَاتُر لليقين والعلم تنقسم إلى قسمين:
 القسم الأَوَّل: عوامل مَوْضُوعِيَّة مختلفة ترتبط بالأخبار والشهادات أو بالمخبرين والشهود.
 القسم الثَّانِي: عوامل ذَاتِيَّة مختلفة ترتبط بطبائع السامعين ومَن يُرَاد ثبوت الْقَضِيَّة له بالتواتر ونفسياتهم ومتبنَّياتهم ومشاعرهم.
 فأما القسم الأَوَّل (أي: العوامل الموضوعية) فلا يمكن إحصاء هذه العوامل تماماً، لكن المهم منها ما يلي:
 العامل الأَوَّل: نوعية الشهود والمخبرين من حيث الوثاقة، وكذلك من حيث النباهة، فكلما كان كُلّ واحد من الشهود والمخبرين أكثر وثاقةً وأصدق لهجةً كان حصول التَّوَاتُر أسرع وبعدد أقل، فَمَثَلاً حينما يكون المخبرون كلهم من طبقة الثقات فقد لا يحتاج التَّوَاتُر إلا إلى نصف ما يحتاجه التَّوَاتُر حينما يكونون من غير الثقات أو من المجهولين، أو إلى رُبع ذلك أو عُشره.
 وبرهان ذلك واضح؛ فإننا بعد أن فرضنا أن التَّوَاتُر إِنَّمَا تكون كاشفيته عن الواقع وإفادته لليقين بلحاظ تجمّع الاحتمالات الناشئية من الشهادات والإخبارات وتراكمها حول محور واحد، إذن فكلما كانت مفردات هذه الاِحْتِمَالاَت أقوى فَسَوْفَ يكون الوصول إلى النَّتِيجَة أسرع؛ فالشاهدون والمخبرون إذا كان كُلّ واحد منهم ثقةً ويُظنّ بصدقه بدرجة احتمال ثمانين بالمائة مثلاً، إذن سوف تتجمع لدينا احتمالات عديدة (بعدد المخبِرين) من وزن ثمانين بالمائة فِي صالح صدق الْقَضِيَّة وَفِي الْمُقَابِلِ يكون احتمال الكذب فِي كُلّ واحد عشرين بالمائة، وَمِنَ الطَّبِيعِيِّ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الوصول إلى النَّتِيجَة سريعاً، بينما إذا كان كُلّ واحد من الْمُخْبِرِينَ والشهود إِنْسَاناً اِعْتِيَادِيّاً وكانت درجة احتمال صدقه خمسين بالمائة مثلاً، فَسَوْفَ تتجمّع لدينا احتمالات من وزن خمسين بالمائة فِي صالح صدق الْقَضِيَّة، ويكون احتمال الكذب فِي كُلّ واحد خمسين بالمائة. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الوصول إلى اليقين سوف يكون فِي هذا الفرض أبطأ حصولا منه فِي الفرض السابق.
 إذن، فالوثاقة فِي كُلّ مخبِر توجب ازدياد درجة كاشفية خبره وقوة قيمة احتمال صدقه، وَبِالتَّالِي سرعة الوصول إلى اليقين، والعكس بالعكس. هذا عن الوثاقة.
 وكذلك الأمر فِي النباهة؛ فكلّما كان كُلّ واحد من الْمُخْبِرِينَ أكثر نباهةً وأقوى حفظاً لما يتلقّاه من الواقع الْمَوْضُوعِيّ عن طريق الحسّ كان حصول التَّوَاتُر أسرع وبعدد أقل، والعكس بالعكس؛ وذلك بنفس البرهان والنكتة الَّتِي ذكرناها فِي الوثاقة، فنباهة كُلّ مخبِر إذن توجب أَيْضاً ازدياد درجة كاشفية خبره وقوة احتمال صدقه وَبِالتَّالِي سرعة الوصول إلى اليقين.
 وهذه الزيادة فِي الْكَاشِفِيَّة والقوة فِي القيمة الاِحْتِمَالِيَّة لـ>الوثاقة< و>النباهة< هي أَيْضاً محكومة وخاضعة لقوانين حساب الاحتمالات وثابتة بهذا الملاك؛ فَإِنَّ كاشفية كُلّ خبر إِنَّمَا تكون بحسب حساب الاحتمال وبحسب علم إجمالي كما عرفنا، فإذا أخذنا المخبِر بقطع النَّظَر عن أيّ استقراء خارجي فمن الممكن أن يُعطى لصدقه قيمة احتمالية بدرجة خمسين بالمائة؛ وذلك عَلَىٰ أساس افتراض وجود علم إجمالي بأنه إما صادق وَإِمَّا كاذب، والعلم الإجمالي نسبته إلى الطرفين عَلَىٰ حَدّ واحد وكل واحد من الطرفين يأخذ نصف رقم اليقين.
 إِلاَّ أَن هذا فرض تجريدي، بمعنى أن كون نسبة الصدق فِي هذا الخبر خمسين بالمائة إِنَّمَا هو مع فرض التجرد عن الاستقراء الخارجي لإخبارات هذا المخبِر، فنسبة خمسين بالمائة إِنَّمَا هي نسبة تجريدية.
 أَمَّا حينما تتوفر لدينا استقراءات بحسب الخارج ونلحظها فِي المقام فَسَوْفَ تختلف نسبة الصدق فِي هذا الخبر، بمعنى أننا إذا لاحظنا عدد صدق كُلّ إنسان فِي مجموع إخباراته فيما مضى ورأينا أن هذا المخبِر يصدق فِي كُلّ عشر مرّات خمس مَرَّات، إذن سوف تتطابق هذه النِّسْبَة الاستقرائية مع تلك النِّسْبَة التجريدية الآنفة الذكر، وهي عبارة عن خمسين بالمائية.
 لكن إذا فرض أننا رأينا (من خلال الاستقراء) أَنَّهُ يصدق فِي كُلّ عشر مَرَّات ثماني مَرَّات (أي: فِي كُلّ عشرة إخبارات تكون ثمانية منها صادقة).
 إذن، فبعد ذلك سوف يكون احتمال صدق هذا الخبر بحسب حساب الاحتمال يعني ثمانين بالمائة لا خمسين بالمائة؛ وَذَلِكَ لأَنَّ دواعي الصدق فيه أكثر من دواعي الكذب، وهذه مرتبة من مراتب الوثاقة، فتختلف حِينَئِذٍ النِّسْبَة الاستقرائية مع تلك النِّسْبَة التجريدية وتكون أزيد منها.
 وقد تكون النِّسْبَة الاستقرائية أقل من تلك، كما إذا رأينا أَنَّهُ يصدق فِي كُلّ عشر مَرَّات مَرَّة واحدة، فهنا احتمال الصدق استقرائيا بِالنِّسْبَةِ إليه بحساب الاحتمالات هو يعني عشرة بالمائة، بينما كان احتمال الصدق تجريدياً عبارة عن خمسين بالمائة.


[1] - انظر البداية فِي علم الدراية: الطبعة الحجرية الأولى: ص12-13.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo