< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/07

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِي حصول اليقين/الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 العامل الثَّانِي: المتبنَّيات القبلية للإنسان الَّتِي قد توقف الذِّهْن وتشكّل فيه حركة حساب الاحتمال وإن لم تكن إلاَّ وهماً خالصا لا منشأ موضوعي له، وشبهةً لا مبرّر واقعي لها، لكنها عَلَىٰ كُلّ حال تؤثر أثرها باعتبار أن الإنسان يتبنّاها ويؤمن بها ويراها مطابقة للواقع وإن لم تكن كذلك حقيقةً؛ فالإنسان الَّذِي كان لمدّة بعيدة من الزمن معتقداً بخلاف الْقَضِيَّة المتواترة أو كانت لديه شبهة حولها، بحيث أصبح هذا الاعتقاد أو الشبهة عَادَةً نفسانيةً وأُلفةً ذهنيةً له، فمثل هذا الاعتقاد أو الشبهة يُشَكِّل مَانِعاً ذَاتِيّاً نَفْسِيّاً وَعَقْلِيّاً يقف أمام حصول اليقين بالقضية المتواترة، بحيث يكون تأثير التَّوَاتُر حِينَئِذٍ فِي إفادة اليقين أبعد وأبطأ من تأثيره فيما إذا لم يكن يوجد لديه اعتقاد أو شبهة من هذا القبيل، ويحتاج إلى عدد أكثر من الشهود والمخبرين.
 العامل الثَّالِث: مشاعر الإنسان العاطفية الَّتِي قد تزيد أو تنقص من قيمة احتمال كُلّ خبر خبرٍ لدى الإنسان، أو تزيد أو تنقص من قدرة الإنسان عَلَىٰ التشبّث بالاحتمال الضَّئِيل تَبَعاً للتفاعل معه إِيجَاباً وَسَلْباً؛ فالإنسان وإن كان قد خلقه الله تبارك وتعالى مركبّاً من عقل وعاطفة، لٰكِنَّهُ أحياناً يحكّم عاطفته عَلَىٰ عقله، وَحِينَئِذٍ فقد تكون الْقَضِيَّة المتواترة الَّتِي يُرَاد إثباتها بِالتَّوَاتُرِ وشهادات الشهود عَلَىٰ خلاف مشاعره وعواطفه وأشواقه، بنحو بحيث يشكّل حبّه وشوقه لضد الْقَضِيَّة المتواترة حجاباً بينه وبين إدراكه العقلي للحقيقة، فتكون هذه الحالة موجبةً لبطء حصول اليقين له بِالْقَضِيَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وتوجب أَيْضاً الافتقار إلى عدد أكثر من الشهود والمخبرين.
 وهذا بخلاف ما إذا حكّم عقله؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يزول ذاك الحجاب العاطفي ويستطيع العقل مع عدد قليل من الشُّهُود أن يسيطر عَلَىٰ العاطفة ويدرك الحقيقة.
 وبعبارة أخرى: التفاعل العاطفي مع الاِحْتِمَالاَت الضَّئِيلة والضعيفة >إِيجَاباً< يوجب ازدياد قدرة الإنسان عَلَىٰ التشبّث بهذه الاِحْتِمَالاَت وَبِالتَّالِي بطء حصول اليقين، كما أن التفاعل العاطفي معها >سَلْباً< يوجب نقصان قدرته عَلَىٰ التشبّث بها وَبِالتَّالِي سرعة حصول اليقين كما هو واضح.
 وبهذا تَمَّ الْكَلاَم عَمَّا هو المهم من القسم الثَّانِي، أي: العوامل الذَّاتِيَّة الَّتِي تؤثر فِي إيجاد اليقين أو فِي الحيلولة دون حصوله فِي باب التَّوَاتُر عَلَىٰ أساس دخلها فِي نفسيّة السامع ومن يُرَاد ثبوت الْقَضِيَّة له بِالتَّوَاتُرِ، وبذلك تَمَّ الْكَلاَم فِي الجهة الثَّانية.
 
 الجهة الثَّالثة: التَّوَاتُر مع الواسطة
 أَمَّا الجهة الثالثة: ففي التَّوَاتُر غير المباشر، وتوضيح الْكَلاَم فِي ذلك: أن الْقَضِيَّة الأصلية المطلوب إثباتها بِالتَّوَاتُرِ وَالَّتِي نسمّيها بِالْقَضِيَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ:
 تَارَةً يتلقاها الإنسان مباشرةً فيستمع بنفسه للشهادات والإخبارات الَّتِي يتكون منها التَّوَاتُر، كما إذا أخبرك (بصورة مباشرة) العديد من النَّاس بموت زيد مثلاً؛ فَإِنَّ هذه الإخبارات والشهادات محسوسة لك بصورة مباشرة، وهذا هو التَّوَاتُر المباشر حيث أن الإنسان يعاصر مفردات هذا التَّوَاتُر ولا كلام فيه.
 وأخرى: لا تكون موضعاً للإخبار المباشِر للإنسان فِي الإخبارات والشهادات المحسوسة له ولا يتلقّاها مباشرةً، بل يستمع للشهادات والإخبارات الَّتِي تنقل له هذا التَّوَاتُر مِنْ دُونِ أن يعاصر هو مفرداته الَّتِي يتكوّن منها، فَالتَّوَاتُرُ منقول له بالواسطة، وهذا هو التَّوَاتُر غير المباشر، وهو الغالب فِي الروايات، حيث أن الْقَضِيَّة الأصلية المطلوب إثباتها بالروايات (وهي عبارة عن صدور الدَّلِيل الشَّرْعِيّ من الْمَعْصُوم ×) ليست موضعاً للإخبارات الَّتِي استمعنا إليها مباشرةً والشهادات الَّتِي أحسسنا بها؛ فَإِنَّ الرواة والمخبرين الَّذِي استمعنا إليهم نحن مباشرة وأحسسنا بشهاداتهم لم ينقلوا لنا صدور الدَّلِيل الشَّرْعِيّ (من قبيل كلام الْمَعْصُوم ×) وَإِنَّمَا نقلوا لنا عن رواةٍ آخرين أنّهم سمعوا من الْمَعْصُوم × كذا وكذا؛ فالقضية المطلوب إثباتها منقولة لنا بواسطة شهادات أخرى، فإذا كانت الْقَضِيَّة متواترة فنحن لم نعاصر مفردات هذا التَّوَاتُر، وَإِنَّمَا مفرداته منقولة لنا.
 وَحِينَئِذٍ يقع الْكَلاَم فِي أَنَّهُ كيف تثبت عندنا الْقَضِيَّة المتواترة ثُبُوتاً قَطْعِيّاً؟ وهل يكفي فِي مقام الثبوت القطعي لها بِالنِّسْبَةِ إلينا أن يَنقل لنا عن كُلّ واحدٍ من الرواة الآخرين (الذين سمعوا الْكَلاَم من الْمَعْصُوم ×) شخص واحد، فتكون كُلّ مفردة من مفردات التَّوَاتُر منقولة لنا بخبر واحد؟
 فَمَثَلاً إذا فرضنا أنفسنا فِي الطبقة الثَّالثة الَّتِي هي بعد طبقة الصحابة وطبقة التابعين، وهي طبقة تابعي التابعين الذين لم يدركوا النَّبِيّ ولا الصحابة، بل أدركوا التابعين الذين أدركوا الصحابة، وفرضنا أن الْحَدّ الأدنى والأقل للتواتر هو إخبار مائة شخص، وفرضنا أن الصحابة الذين نقلوا حديث الغدير عن النَّبِيّ وكوّنوا التَّوَاتُر هم مائة صحابي، فمفردات التَّوَاتُر الَّتِي لم نعاصرها نحن، إذن إخبارات مائة صحابي، فهل يكفي فِي حصول التَّوَاتُر مع الواسطة أن ينقل لنا (نحن تابعي التابعين) عن كُلّ صحابيٍّ تابعيٌّ واحد، فيكون فِي الطبعة الأولى (طبقة الصحابة) مائة راوٍ، وفي الطبقة الثَّانية (طبقة التابعين) مائة راوٍ، وتكون كُلّ مفردة من مفردات التَّوَاتُر (أي: كلّ خبر صحابيّ) منقولة لنا بخبر واحد، أم أن التَّوَاتُر مع الواسطة مشروط بحصول التَّوَاتُر (فِي كُلّ طبقة متأخرة) عَلَىٰ كُلّ نقلٍ من نُقُول الطبقة المتقدمة؛ ففي المثال المتقدم لاَ بُدَّ لنا (نحن الطبقة الثَّالثة) من أن نحرز كُلّ واحدة من مفردات التَّوَاتُر (أي: كُلّ خبر صحابي) بِالتَّوَاتُرِ (أي: بإخبار مائة تابعي)، فلا يكفي أن ينقل لنا عن كُلّ صحابي تابعي واحد، بل يحتاج إثبات المتواتر وإحرازه بنحو قطعي إلى أن يتوافر النقل عن كُلّ صحابي، فيكون فِي الطبقة الأولى (طبقة الصحابة) مائة راوٍ، وفي الطبقة الثَّانية (طبقة التابعين) عشرة آلاف راوٍ، وفي الطبقة الثَّالثة (طبقة تابعي التابعين) مليون راوٍ، وهكذا..؟
 وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ هل يكفي فِي التَّوَاتُر مع الواسطة نقلٌ واحد عن واحد، أم لاَ بُدَّ من حصول التَّوَاتُر فِي كُلّ حلقة وطبقة؟
 ذهب الأصحاب إلى الثَّانِي وقالوا: إن التَّوَاتُر مع الواسطة مشروط بحصول التَّوَاتُر فِي كُلّ حلقة وطبقة، ولا يكفي نقل واحد عن واحد، فلو فرضنا أن أقل التَّوَاتُر مائة والناقلون المباشرون للقضية (كالصحابة فِي المثال) كانوا مائة، فَلاَ بُدَّ فِي الطبقة الثَّانية من أن يتواتر نقلُ كُلّ واحد من الطبقة الأولى بمائة نقل، وَلاَ بُدَّ فِي الطبقة الثَّالثة من أن يتواتر نقل كُلّ واحد من الطبقة الثَّانية بمائة نقل، وهكذا الحال فِي سائر طبقات الرواة إلى أن ينتهي الأمر إلينا ومن دون ذلك لا يثبت التَّوَاتُر بِالنِّسْبَةِ إلينا؛ وَذَلِكَ لأَنَّ كُلّ نقلٍ واقعة وحادثةٌ مستقلةٌ عن النقل الآخر، فَلاَ بُدَّ من إحراز كُلّ نقل بِالتَّوَاتُرِ، فلا يكفي أن ينقل مثلاً عن كُلّ صحابي تلميذه التابعي، وَبِالتَّالِي فلا يكفي أن ينقل مائة تابعي عن مائة صحابي حديث الغدير وإن كان هذا العدد (أي: المائة) هو عدد التَّوَاتُر الَّذِي يستحيل تواطؤهم عَلَىٰ الكذب؛ لأَنَّ مائة صحابي وإن كان يمتنع تواطؤهم عَلَىٰ الكذب، وكذلك مائة تابعي، إلا أَنَّهُ لَيْسَ من المستحيل تواطؤ خمسين صحابياً وكذلك تواطؤ خمسين تابعياً عَلَىٰ الكذب، وَحِينَئِذٍ فلا يثبت نقل مائة عن مائة. هذا ما قالوه وذكروه.
 وهذا التصوير للتواتر مع الواسطة وإن كان صحيحاً بمعنى أن التَّوَاتُر يتحقق به بلا إشكال، إِلاَّ أَن وقوعه خارجاً لا يعدو عادةً أَنْ يَكُونَ أَمْراً خيالياً، وبذلك يُصبح ثبوت التَّوَاتُر فِي الروايات بِالنِّسْبَةِ إلينا أَمْراً مثالياً خيالياً لا يتّفق له مصداق عادةً إلا فِي البديهيات والضروريات الَّتِي لا تحتاج إلى إثبات.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo