< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/10

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: أقسام التَّوَاتُر/الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 الحالة الثَّانية: أن يوجد هناك مدلول ومعنى مشترك منظور إليه فِي هذه الأَخْبَار الكثيرة يُخبر الجميع عنه، ويكون ذاك الْمَدْلُول المشترك عبارة عن مدلول تحليلي لِكُلّ خبر، إما بنحو الْمَدْلُول التَّضَمُّنِيّ لِكُلّ خبر، أو بنحو الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ العرفيّ لِكُلّ خبر، مع عدم التطابق بين الأَخْبَار فِي الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ بكامله، وهذا هو الَّذِي يُسَمَّىٰ فِي كلماتهم بـ>التَّوَاتُر الإجمالي< كما إذا أخبر جماعة بوقائع وقضايا كثيرة ومتغايرة فِي حياة >حاتم< فكل واقعة وقضية ينقلها أحدهم هي غير الواقعة والقضية الَّتِي ينقلها الآخر، لكنها كُلّهَا تتضمن أو تستلزم كرم حاتم، فهنا المصب الواحد المشترك لهذه الشهادات مدلول تحليلي، والشهادات رغم تغايرها تتضمن جَمِيعاً مظاهر من كرمه، كما إذا قال أحدهم: إن الرماد فِي بيته كان كثيراً جِدّاً، وقال الآخر: إِنَّهُ كان يوقد النار فِي بيته ليراه الضيوف من بعيد. وقال الثَّالِث: إِنَّهُ كان يفرح كثيراً إذا جاءه عبده بضيفٍ إلى حدٍّ بحيث كان يعته. وقال الرَّابِع: إِنَّهُ كان يرسل مواليه وخدمه إلى الأقطار لاستحصال الضيوف، وهكذا..
 وفي هذه الحالة أَيْضاً من الواضح أن كُلّ واحد من مدلولات تلك الأَخْبَار لا يثبت بِالتَّوَاتُرِ؛ إذ لم يخبر به سوى واحد حسب الفرض، لكن الْمَدْلُول المشترك بينها يثبت بِالتَّوَاتُرِ ويحصل اليقين به؛ وذلك لوجود الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ والكيفي معاً:
 أَمَّا الأَوَّل فكما رأيناه فِي الحالة السابقة؛ فَإِنَّ الكثرة العددية للمخبرين توجب ضعف احتمال كذب الجميع باعتبار ضرب الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لِلْكَذِبِ بعضها فِي بعض.
 وَأَمَّا الثَّانِي فلأن افتراض كذب الجميع معناه وجود مصلحة شخصية لِكُلّ واحد من الْمُخْبِرِينَ دعته إلى الإخبار بذاك النَّحْو، وهذه المصالح الشخصية إن كانت كُلّهَا تتعلق بذاك الْمَدْلُول المشترك (أي: الإخبار بكرم حاتم فِي المثال) فهذا يعني أن هؤلاء الْمُخْبِرِينَ عَلَىٰ الرغم من اختلاف ظروفهم وتباين أحوالهم اتفق صدفةً أن كانت لهم مصالح متماثلة تماماً بحيث اقتضت مصلحة كُلّ واحد منهم أن يختلق كرم حاتم لا شَيْئاً آخر عن حاتم غير الكرم ولا أي شيء عن شخص آخر غير حاتم، فيلزم تماثل المصالح تماماً واتفاقهم عَلَىٰ مصب واحد بعينه صدفةً وَاتِّفَاقاً.
 وإن كانت تلك المصالح الشخصية تتعلق كُلّ واحدة منها بكامل الْمَدْلُول الْمُطَابَقِيّ وتمام الْقَضِيَّة الَّتِي ينقلها، فالمحذور السابق (وهو تماثل المصالح تماماً واتحادها) وإن كان لا يلزم؛ لأَنَّ مصلحة الأَوَّل اقتضت أن ينقل كثرة الرماد مثلاً، بينما مصلحة الثَّانِي اقتضت أن ينقل إيقاد النار وهكذا...
 إلا أَنَّهُ مع ذلك يلزم تقارب المصالح صدفةً بحيث اقتضت مصلحة كُلّ واحد أن يختلق قضيةً هي وإن كانت غير الْقَضِيَّة الَّتِي اقتضت مصلحة الآخر اختلاقها لٰكِنَّهَا تَدُلُّ ضِمْناً أو اِلْتِزَاماً عَلَىٰ نفس ما تَدُلُّ عليه الْقَضِيَّة الأخرى ضِمْناً أو اِلْتِزَاماً وهو عبارة عن كرم حاتم، وكل ذلك (أعني تماثل المصالح واتحادها صدفةً وكذلك تقاربها بِالنَّحْوِ الَّذِي يتضمن أو يستلزم أَمْراً واحدا) بعيد بحساب الاحتمالات، وهذا هو الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ يضاف إلى ذلك الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ، ولهذا نجد أن قوة الاحتمال (أي: احتمال صدق المصب والمدلول المشترك وهو كرم حاتم مثلاً) الَّتِي تحصل فِي هذه الحالة أكبر من قوة احتمال صدق واحد من المائة فِي الحالة السابقة؛ لأَنَّ احتمال كذب الجميع هنا أضعف بكثير منه هناك؛ لوجود مضعفين له هنا بخلافه هناك.
 وَيَتَحَوَّل الاحتمال الْقَوِيّ هنا (وهو احتمال صدق الْمَدْلُول المشترك) إلى يقين، بسبب ضآلة احتمال الخلاف (أي: احتمال كذب الجميع). وهذه الضآلة (أي: ضَآلَة احتمال كذب الجميع) وإن كانت موجودة فِي الحالة السابقة (كَمَا عَرَفْتَ) حيث أن احتمال كذب جميع المائة الملتقَطة عِشْوَائِيّاً كان ضعيفاً وضئيلاً، نتيجة وجود الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ، إِلاَّ أَن الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ وحده لم يكن كَافِياً لإذابة هذا الاحتمال الضعيف (أي: احتمال كذب الجميع) وانعدامه فِي النفس كي يحصل اليقين بصدق واحد منها عَلَىٰ الأقل، وقد عرفت السر فِي ذلك.
 أَمَّا هنا فباعتبار وجود الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ أيضاً إلى جانب الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ، فلذا يذوب الاحتمال الضعيف (أي: احتمال كذب جميع الأَخْبَار فِي النفس) وينعدم ويحصل لنا اليقين بصدق الْمَدْلُول المشترك.
 ولا يقال هنا بما كنّا نقوله هناك فِي وجه استحالة ذوبان اِحْتِمَالِ كذب جميع المائة الْمُلْتَقَطَة عِشْوَائِيّاً (من أن هذه المائة طرف من أطراف الْعِلْم الإِجْمَالِيِّ بوجود مائة خبر كاذب فِي مجموع الأَخْبَار الكثيرة، وكل مائة نختارها من الأَخْبَار فلا محالة نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها. وهذه المائة الْمُلْتَقَطَة عِشْوَائِيّاً أيضاً هي إحدى تلك المئات، فنحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها وكونها هي المائة الكاذبة)؛ وذلك بأن يقال هنا أَيْضاً إن هذه المجموعة من الأَخْبَار المتضمِّنة لكرم حاتم مثلاً وَالَّتِي يبلغ عددها مثلاً مائة خبر هي طرف من أطراف الْعِلْم الإِجْمَالِيِّ بوجود مائة خبر كاذب فِي مجموع الأَخْبَار الَّتِي تُنقَل فِي العالَم، فنحتمل إذن انطباق المعلوم بالإجمال عليها وكونها هي المائة الكاذبة.
 وعليه، فاحتمال كذب الجميع لا ينعدم هنا أَيْضاً ولا يحصل لنا اليقين بالمدلول المشترك.
 لأنه يقال فِي الجواب عَلَىٰ هذا الْكَلاَم: إن الْعِلْم الإِجْمَالِيَّ بوجود مائة خبر كاذب فِي مجموع الأَخْبَار المنقولة فِي العالم وإن كان مَوْجُوداً، إِلاَّ أَنّ هذه المائة المتضمنة أو المستلزمة لكرم حاتم مثلاً ليست من أطرافه، ولا نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها وكونها بأجمعها كاذبة؛ وذلك لوجود الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ الَّذِي ذكرناه، حيث يسبب ذوبان احتمال كذب الجميع فِي النفس وتحوّلَ الاحتمال الْقَوِيّ (وهو اِحْتِمَال صدق الْمَدْلُول المشترك، أي: كرم حاتم مثلاً) إلى اليقين، مِنْ دُونِ أن يلزم من ذلك ذوبان اِحْتِمَال كذب الجميع فِي كُلّ مائة خبر أخرى نجمعها بأيّ شكل من الأشكال؛ فَإِنَّ كُلّ مائة أخرى من الأَخْبَار نجمعها بشكل وآخر ليست مثل هذه المائة المشتركة فِي مدلول واحد، لوجود الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ فِي هذه جون تلك المئات؛ فَإِنَّ الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ المذكور لا يتواجد إلا فِي مائةٍ تشترك ولو فِي جانب من مدلولاتها الخبرية.
 أَمَّا المئات الأخرى الَّتِي لا تشترك فِي نقطة واحدة فهي أطراف ذاك الْعِلْم الإِجْمَالِيّ ويحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عَلَىٰ كُلّ واحدة منها؛ لعدم وجود الْمُضَعِّف الْكَيْفِيّ فيها، فيبقى فيها الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ فقط، وقد عرفت أَنَّهُ وحده لا يكفي لذوبان احتمال كذب الجميع.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ دليلنا هناك (فِي الحالة السابقة) عَلَىٰ استحالة ذوبان احتمال كذب جميع المائة كان عبارة عن أَنَّهُ لو ذاب هذا الاحتمال بِالنِّسْبَةِ إلى هذه المائة ولم نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها، للزم ذوبانه بِالنِّسْبَةِ إلى أيّ مائة أخرى؛ إذ لا فرق بين المئات من حيث ضَآلَة اِحْتِمَال كذب جميع المائة بسبب الْمُضَعِّف الْكَمِّيّ، فيلزم أن يحصل هذا اليقين فِي بقية المئات، وَبِالتَّالِي يلزم أن تبقى المائة الكاذبة المعلومة بالإجمال بلا مصداق، وهذا معناه زوال الْعِلْم الإِجْمَالِيّ، وهو خُلف فرض وجوده.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo