< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/07/04

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الإجماع الْمُرَكَّب/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 وَأَمَّا فِي الفرض الثَّانِي وهو ما إذا لم نكتشف مدركَ المجمعين ولم نجده، ولم نجد أَيْضاً ما نحتمل كونه مَدْرَكاً لهم، فهنا قد يَكشف إجماعُهم بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ عن مدرك صحيح لم يصلنا وبه يثبت الحكم المجمع عليه، وهذا هو الَّذِي كان يسميه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & بالتطبيق الصَّحِيح القويّ لمبدأ كاشفية الإجماع، وهو أن يُرَاد بالإجماع استكشاف أصل وجود المدرك بنحو مفاد كان التامة؛ وذلك فيما إذا أجمع الفقهاء عَلَىٰ فتوى ولم يكن عليها دليل فيما بين أيدينا من مدارك وأدلّة.
 وتوضيح ذلك: أننا إذا افترضنا أن فقهاء الإمامية المعاصرين للغيبة الصغرى أو بُعيدها إلى فترة كالكليني والمفيد والمرتضى والصدوق والشيخ الطوسي - رحمهم الله - وغيرهم ممّن يُعَبَّر عنهم بـ>قدماء الأصحاب< قد أجمعوا عَلَىٰ رأي واحد واستقرّ فتواهم جَمِيعاً فِي مسألة من المسائل عَلَىٰ حكمٍ، ولم يكن يوجد بأيدنا مدرك يَدُلّ عَلَىٰ تلك الفتوى بحسب الصِّنَاعَةِ، نَظَراً إلى كون تلك الفتوى عَلَىٰ خلاف القواعد الْعَامَّة المنقولة مِنْ قِبَلِ نفس هؤلاء فِي كتب الحديث مثلاً، ولم يكن بأيدنا مُخَصِّصٌ لتلك القواعد، ففي مثل ذلك نستكشف وجودَ مأخذ ومدرك دال عَلَىٰ ذاك الحكم بأيديهم؛ وذلك ببيان أن إفتاء أولئك الأجلاء والأساطين مِنْ دُونِ دليل ومدرك أمر غير محتمَل فِي حقهم مع جلالة قدرهم وتثبّتهم فِي الدين وشدة تورّعهم عَلَىٰ الإفتاء بلا دليل، كما أَنَّهُ لا يحتمل فِي حقّهم أن يكونوا قد غفلوا عن أن هذا الحكم الَّذِي أفتوا به لَيْسَ عَلَىٰ طبق القواعد الْعَامَّة كي لا يكون بحاجة إلى دليل خَاصّ، بل هو عَلَىٰ خلاف القاعدة الأولية؛ لأنهم هم نَقَلَة القاعدة الأولية إلينا بحسب الفرض، خُصُوصاً إذا كانت تلك القاعدة واضحة ومشهورة ومطبَّقة من قبلهم فِي نظائر المسألة، فَحِينَئِذٍ نجزم بأنهم قد استندوا فِي فتواهم إلى مدركٍ خرجوا بموجبه عن مُقْتَضَىٰ تلك القاعدة الأولية، وهذا المدرك الْمُخَصِّص لحكم القاعدة الأولية والَّذِي لم يصلنا يتردّد فِي بادئ الأمر بين احتمالين:
 الاحتمال الأَوَّل: أَنْ يَكُونَ عبارة عن دليل لَفْظِيّ ورواية عن الأئمة ^ دالّة عَلَىٰ هذا الحكم الَّذِي أفتوا به، وقد استندوا إليها وبها خرجوا عن مُقْتَضَىٰ القاعدة، إِلاَّ أَن هذه الرواية لم تصل إلينا ولا غرابة فِي عدم وصولها.
 وهذا الاحتمال ساقط عَادَةً؛ وذلك لأَنَّهُ لو كان توجد لديهم رواية من هذا القبيل قد استندوا إليها وأفتوا عَلَىٰ أساسها، فلماذا لم يذكروها فِي كتبهم الفقهية الاستدلالية ولا فِي مجاميعهم الحديثية الروائية؟ إذ من غير المعقول أنهم جَمِيعاً استندوا إلى رواية واضحة الدِّلاَلَة عَلَىٰ ذلك، ولذا أجمعوا عَلَىٰ مضمونها، ومع ذلك لم يتعرّض لذكرها أحد منهم مع أنهم أصحاب مجاميع حديثية وكتب فِقْهِيَّة استدلالية، وطالما تعرّضوا لرواياتٍ رغم أَنَّهَا ضعاف ورغم أنهم لم يستندوا إليها سنداً أو دلالةً، فضلا عن ما يستندون إليه من الصحاح، بل كيف يحتمل ذلك بشأنهم مع ملاحظة أن فتاواهم ومتونهم الفقهية كانت عَلَىٰ حسب الروايات الواردة غالباً ولم تكن عبارة عن تفريعات وتشقيقات مستقلّة كما فِي المتون الفقهية المتأخرة، فكيف يفترض وجود رواية لم يجعلوا لها متناً فِي كتبهم وغفلوا عنها نهائيا؟
 كُلّ هذا يوجب العلمَ عَادَةً بسقوط هذا الاحتمال واليقين أو الاطمئنان بعدم وجود مثل هذه الرواية، وَبِالتَّالِي يوجب تعيّن الاحتمال الثَّانِي.
 الاحتمال الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذاك المدرك الَّذِي استند إليه المجمِعون والَّذِي لم يصلنا عبارة عن دليل لُبِّيّ غير لَفْظِيّ وارتكاز عَامّ عاشوه فِي وجدانهم ولمسوه فِي الطبقة السابقة عليهم والجيل الَّذِي كان قبلهم وهو جيل أصحاب الأئمة ^ الَّذِي هو حلقة الوصل بين هؤلاء الفقهاء المجمِعين وبين الأئمة ^، ومنهم انتقل كُلّ هذا العلم والفقه إليهم.
 فالفقهاء تلقّوا الحكم الَّذِي أفتوا به لا بشكل دليل لَفْظِيّ ورواية، بل بشكل هذا الارتكاز الْعَامّ الَّذِي كان مَوْجُوداً لدى الجيل السابق عليهم.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الارتكاز لَيْسَ دَلِيلاً لَفْظِيّاً وروايةً محددَّةً كي تُنقَل وتدوَّن فِي الكتب الفقهية فِي مقام الاِسْتِدْلاِل الفقهي أو فِي المجاميع الروائية فِي مقام جمع الأحاديث، بل هو مستفاد بشكل من الأشكال من مجموع دلالات السُّنَّة ومفاداتها من فعل الْمَعْصُوم أو تقريره أو قوله عَلَىٰ إجمالها، ولهذا لم يُضبط فِي أصل من الأُصُول، فهذا الارتكاز يكشف عن جامع السُّنة ووجود سُنَّةٍ إجمالا إما قولاً أو فِعْلاً أو تقريراً تثبت هذا الحكم الشَّرْعِيّ، لا أَنَّهُ يكشف عن خصوص قول الْمَعْصُوم أو فعله بالخصوص، وإجماع الفقهاء الأقدمين يكشف عن وجود هذا الارتكاز الْعَامّ عند جيل أصحاب الأئمة ^، وهذا هو التفسير الوحيد الَّذِي تلتئم به قطعيّاتنا الوجدانيّة فِي المقام، وَحَيْثُ أَنَّ الارتكاز المذكور شيء بعيد عن الحدس وقريب من الحس لو لم يكن حسياً، وليس كالبراهين الْعَقْلِيَّة الحدسية، فلا يقال: لعلّهم أَخْطَئُوا جَمِيعاً فِي فهمه، فالخطأ فِي هذا الارتكاز غير محتمل عَادَةً.
 إذن، فيحصل بذلك القطع بِالْحُكْمِ الشرعي، باعتبار أن الإجماع قائم عَلَىٰ أساس الإحساس بهذا الارتكاز، والارتكاز قائم عَلَىٰ أساس الحسّ، فلا محالة يحصل الجزم أو الوثوق بالحكم، لكن ضمن شروط وتحفّظات يجب أخذها بعين الاعتبار لتَتُِمَّ كاشفية الإجماع حسب حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، وسنذكرها قَرِيباً - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَى -.
 هذا هو التطبيق الصَّحِيح والأقوى لمبدأ كاشفية الإجماع، وبما قلنا اتضح أن هذا التطبيق إِنَّمَا يصح فِي إجماع القدماء من فقهائنا الذين تلوا عصر الرواة وأصحاب الأئمة ^، ولعلّ ذاك >الارتكاز< الَّذِي ذكرناه لم يكن اسمه غير >الإجماع<، ولذلك كثرت دعوى >الإجماع< مِنْ قِبَلِ الشيخ الطوسي والمفيد والصدوق - رحمهم الله - لٰكِنَّهُ إجماع غير مكتوب وهو الَّذِي نسمّيه اليوم بـ>الارتكاز<. فعند ما يدّعي الشيخ الطوسي & مثلاً الإجماعَ عَلَىٰ شيء، قد يكون المقصود به هو الإجماع غير المكتوب الَّذِي حقيقته عبارة عن >الارتكاز< الَّذِي ذكرناه.
 وهذا التطبيق كما يَتُِمّ فِي مسألة من المسائل الَّتِي تعرض لها هؤلاء الفقهاء القدماء وطرحوها للبحث فِي كتبهم ومتونهم واتفقوا فيها عَلَىٰ فتوى معيّنة، كذلك يَتُِمّ فِي مسألة لم يتعرضوا لها ولم يطرحوها للبحث فِي كتبهم ومتونهم الاستدلالية والحديثية، فإذا اطّلعنا مثلاً عَلَىٰ متونهم الفقهية ووجدناهم يتفقون عَلَىٰ فتوى مِنْ دُونِ أن يعنونوا المسألة ويطرحوها للبحث، فَحِينَئِذٍ يأتي نفس هذا التطبيق.
 والنكتة فِي ذلك هي أن هذه الفتوى إذا أخذناها من متونهم الفقهية فأيضا نقول بشأنها: إِنَّهُ لا يحتمل صدورها منهم بلا دليل ومدرك، ولا يحتمل كون مدركها رواية أهملوا ذكرها (كَمَا عَرَفْتَ)؛ فَإِنَّ كتب الفقه حينذاك كانت حسب متون الروايات، ولا يحتمل أن هذا الحكم كان مفاد رواية خاصة وصلت إليهم بطرقهم ثُمَّ لم يعنونوا مسألة بإزاء مفاد تلك الرواية وغفلوا جَمِيعاً عن ذلك؛ فَإِنَّ هذا بعيد جِدّاً، فيحصل الوثوق بأنهم تلقوا الحكم من الارتكاز الَّذِي عاشوه، والَّذِي لمسوه فِي الجيل المتقدم عليهم وهو جيل الرواة وأصحاب الأئمة ^.
 وفي ضوء ما ذكرناه تندفع الإشكالات المعروفة الَّتِي أُورِدَتْ عَلَىٰ التَّمَسُّك بالإجماع، ونختار منها فيما يلي أربعة وهي:
 الإشكال الأَوَّل: هو النقاش الصغرويّ فِي كَيْفِيَّة تحصيل الإجماع، وذلك باعتبار أننا لسنا قادرين عَلَىٰ الاطّلاع عَلَىٰ آراء جميع الفقهاء بِالنِّسْبَةِ إلى أيّ عصرٍ من العصور، ولا نقطع بعدم وجود فقيهٍ فِي ذاك العصر يخالف الرأي الَّذِي وصلنا من ذاك العصر إلا فِي الضروريات وما يتلو تلوها، فكم من فقيهٍ لم يكتب فتواه، وكم ممّن كتب فتواه لم يصل كتابه إلينا، وغاية الأمر نفترض أن أقوال العلماء الذين وصلت إلينا أقوالهم أورثت لنا القطع بأن العلماء الآخرين الذين كانوا واقعين فِي خطّهم والتلامذة الذين تربّوا عَلَىٰ أيديهم كانوا أَيْضاً يرتئون نفس الرأي، ولكن كيف نعرف آراء الآخرين الذين كانوا معاصرين لأساتذتهم وكانت لهم تحقيقات وأتباع، إلا أنهم انقرضوا وانتهت مدرستهم وبقي هذا الخط الْعَامّ؟
 مثل ما وقع فِي العصر القريب حيث كان الشيخ هادي الطهراني معاصراً للعَلَمَيْنِ المحقق الخراساني صاحب الكفاية، والسيد اليزدي صاحب العروة، وكانت له آراء وطلاب ومدرسة ولكن انقرضت مدرسته وبقي هذا الخط الموجود الآن.
 والحاصل أَنَّهُ كيف يمكن تحصيل الإجماع بعد الالتفات إلى أن الأقوال الواصلة إلينا فِي المسألة هي عَلَىٰ أحسن التقادير عبارة عن فتاوى أصحاب الكتب والمجاميع ممّن كانت له كتب ومجاميع، أو كان له منبر يجل تحته أصاحب كتب، وأصحاب الكتب أو المنابر هؤلاء هم الذين وصلت إلينا آراؤهم ونُقلت إلينا فتاواهم، ولكن هذا المقدار لا يمكن أن يمثّل إجماع علمائنا فِي عصر واحد، فضلاً عن أكثر من عصر؛ إذ لَيْسَ كُلّ فقهاء الإمامية كانوا إما أصحاب كتب أو أصحاب منابر، بل كثيرون منهم لم يكن لهم كتب ولا مجاميع، أو كانت لهم كتب لكنها غير مشتهرة بحيث يُنظر إليها ويؤخذ منها؛ لأَنَّهَا لم تكن تؤخذ بنظر الاعتبار فِي مقام جمع الفتاوى وأخذ الأقوال، ولهذا نجد أن من يُنقل عنهم عَادَةً الفتاوى الفقهية وتُذكر أسماؤهم فِي مجال نقل الأقوال عددٌ قليل نسبياً، مع أننا نجزم أن عدد علمائنا الإمامية الاثنى عشرية فِي تلك العصور يزيد عن هذا العدد، وليس هذا إلا لأَنَّ عَدَداً كبيراً منهم لم تُدوَّن لهم أسماء، وبقوا خارج دائرة الآراء، إما لبُعدِهم عن المراكز والحوزات الَّتِي كانت تصدر منها الآراء، كمن كان يسكن النواحي والأقطار النائية جِدّاً، أو كان مغموراً فِي وسطه وبيئته، أو لسبب آخر وهكذا.. وَحِينَئِذٍ فتحصيل الإجماع فِي المقام غير ممكن.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo