< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/11/07

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الشهرة/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 وحلّ هذه المغالطة هو ما قلناه آنفاً من أنَّ المولى لعلَّه لَمْ يَرَ مقتضياً لجعل الحجيّة لهذه الأمارة رغم مساواتها في الكشف أو أقوائيتها من الأمارة الأخرى المعتبرة الَّتِي جعل الحجيّة لها؛ لأنَّ المقدار الَّذِي أصابه المولى وحصَّل عليه من الأغراض والملاكات الواقعية من خلال جعل الحجيّة لتلك الأمارة الأخرى كان في مقام التزاحم الحفظي الَّذِي حصل بين الملاكات الواقعية كافياً عنده لحفظ أهم الملاكات الواقعية، فلا تلازم أصلاً بين حجيّة الأمارة المساوية لها في الكشف أو الأقوى منها.
 وقد يقال في المقام بأنَّ هذا الكلام يتنافى مع القول بحجيّة مثبتات الأمارة المعتبرة؛ فنحن إذا كنّا نقول بحجيّة مثبتات الأمارة الَّتِي قام الدليل على حجيّتها، فلا بدَّ لنا من القول بحجيّة الأمارة المساوية أو الأقوى.
 وتوضيح ذلك أن يُقال: إذا كان العرف يفهم من دليل حجيةِ الأمارة حجيّةُ مثبتاتها أيضاً بنكتة أن تمام الملاك في الحجيّة هو الكشف الَّذِي نسبته إلى المفاد الأوّليّ (المدلول المطابقي) وإلى الملازمات(أيْ: المداليل الالتزامية) على حدٍ سواء، فنفس النكتة توجب التعدّي إلى الأمارة الأخرى المساوية أو الأقوى من هذه الأمارة؛ لأنَّ المفروض هو أنَّنا استظهرنا من دليل الحجيّة أنَّ تمام النكتة والملاك لحجيّة تلك الأمارة عبارة عن الكشف، وهو ثابت حسب الفرض في الأمارة الأخرى بدرجة مساوية أو أقوى.
 وإذا كان العرف لا يفهم من دليل حجيّة الأمارة أنَّ تمام الملاك في الحجيّة هو الكشف، بل يَحتمل دخل خصوصيّة أخرى غير الكشف في حجيّة الأمارة وملاكها، فكما لا يمكن التعدّي حينئذٍ إلى الأمارة الأخرى المساوية أو الأقوى لعدم إحراز وجود تلك الخصوصية الأخرى فيها، كذلك لا يمكن التعدّي إلى مثبتات نفس الأمارة المعتبرة، ولا يبقى مبرّر لحجيّة مثبتاتها ومداليلها الالتزامية؛ إذ لعلَّ نكتة الحجيّة(الَّتِي فرضنا أنَّها ليست عبارة عن الكشف أيضاً) تختص بالمفاد الأَوَّلِيِّ والمدلولِ المطابقيّ للأمارةِ. هذا ما قد يُقال.
 والواقع أنَّ دليلَ حجيّة الأمارة:
 تارةً يُفرض شموله ابتداءً لمثبتات الأمارة ومداليلها الالتزامية في عرض شموله لمدلولها الأوّلي المطابقي، وعندئذٍ لا شكَّ في حجيّة المثبتات بموجب ذاك الدليل الَّذِي شملها، ولا يلزم من ذلك النقضُ بعدم حجيّة الأمارة الأخرى المساوية أو الأقوى؛ لأنَّ المفروض هو أنَّ المثبتات قد قام الدليل ابتداءً على حجيّتها، بخلاف الأمارة الأخرى المساوية أو الأقوى الَّتِي فرضنا فيها عدم قيام الدليل على حجيّتها كما هو واضح.
 ومثاله ما إذا كان الدليلُ على حجيّة خبر الثقّة عبارة عن >السيرة الْعُقَلاَئِيّة<؛ فإنَّ نسبتها إلى المدلول الأولي المطابقي الَّذِي قَصَده المخِبر والمدلولِ الالتزاميِّ الَّذِي لم يقصدْهُ على حدٍ سواء؛ حيث أنَّ السيرةَ كما هي قائمة على العمل بالمدلولِ المطابقي لخبر الثقة، كذلك هي قائمة على العمل بلوازمه و مثبتاته.
 وأخرى يُفرض أنَّ دليل حجيّة الأمارة قد انصَبَّ بمضمونه ابتداءً على الْمَدْلُول الأَوَّلِيّ الْمُطَابَقِيّ للأمارة، كما إذا انصبّ على عنوان >الإخبار< الَّذِي يقال مثلا بأنه لا يشمل الْمَدْلُولَ الاِلْتِزَامِيَّ الَّذِي لم يقصده المخبِر ولم يلتفت إليه؛ إذ لم يُخبر عنه حينئذٍ. لكنَّنا تعدينا إلى الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيِّ بنكتة عدم الفرق بينه وبين الْمَدْلُولِ الْمُطَابَقِيِّ في كشفِ الإِخْبَار عنهما.
 فهذا هو الذي يمكن أن يُتخيَّل وروده نقضاً في المقام، حيث يُقال: إن استظهرنا من دليل حجيّة أنَّ تمام الملاك والموضوع للحجيّة هو هذه المرتبة من الكشف الثابت في الإِخْبَار، فكما تعدّينا من الْمَدْلُولِ الْمُطَابَقِيِّ إلى الْمَدْلُولِ الاِلْتِزَامِيِّ بنكتة عدم الفرقِ في كشفِ الإِخْبَار عنه، كذلك نتعدّى من خبرِ الثِّقَةِ مثلاً إلى كلِّ أمارةٍ مساويةٍ له أو أقوى منه في الكشفِ، وأمّا إن لم نستظهر ذلك من دليل الْحُجِّيَّةِ، فكما لا نتعدّى من الخبر إلى ما يساويه أو يرجّح عليه في الكشفِ، كذلك لا نتعدّى إلى الْمَدْلُولِ الاِلْتِزَامِيِّ.
 والجواب على هذا الكلام هو أنَّ المستظهر من دليل حجيّة الأخبار الإلزاميَّةِ ومنجزّيتِها هو أنَّ ملاك حجيّتها عبارة عن أنَّ صدقها أكثر من كذبها عدداً؛ فإنَّ هذه الأكثرية العدديّة للصدق هي الَّتِي توجب أن تكون حجيّةُ هذه الأخبار تُربِّحُ المولى أغراضَهُ وملاكته الإِلْزَاميَّةِ الثابتة في موارد صدق هذه الأخبار أكثر مّما تخسّره أغراضَه الترخيصيةَ الثابتة في موارد كذبها.
 وإذا لم يكن هذا هو المستظهَرُ من دليل الْحُجِّيَّة فلا أقل من اِحْتِمَالِ ذلك وأنَّ النظر إنمّا هو إلى الأكثرية العدديّة للصدق من الكذب، لا مجرَّد الكشف وأقوائية الاِحْتِمَال بمعناها النفسي.
 وكذلك الأمر في الأخبار الترخيصية؛ فإنَّ المستَظهَر (أو المحتمل على الأقل) هو أنَّ ملاك حجيّتها ومعذرّيتها هو أنَّ صدقها أكثر من كذبها عدداً، مّما يوجب أن تكون بمعذريّتها مُرَبِّحَةً للمولى أغراضَه وملاكاتِهِ الترخيصيةَ الثابتةَ في موارد صدقها أكثر مّما تخسّره أغراضاً إِلْزَاميةً ثابتة في موارد كذبها.
 وهذه الأكثرية العدديّة بهذه النسبة قد لا تكون محفوظة في الشهرات المساوية في الكشف لأخبار الثِّقَات أو الأقوى كشفاً منها (بعد استثناء الشهرات المتطابقة مع أخبار الثِّقَاتِ)؛ فلعلَّ نسبة الصدق في الباقي من الشهرات (بعد هذا الاستثناء) أقلُّ من نسبة الصدق الموجودة في الأخبار؛ وذلك لاِحْتِمَال وقوع أكثر الشهرات الصادقة في دائرةِ مَا طَابَقَ الأخبارَ. إذن، فنكتة عدم التعدّي من أخبار الثِّقَاتِ إلى الشهرات هي هذه.
 وأمّا نكتة التعدّي من الْمَدْلُولِ الْمُطَابَقِيِّ لخبر الثِّقَةِ إلى مدلوله الاِلْتِزَامِيِّ فهي عبارة عن عدم تماميّة هذا البيان (الذي ذكرناه للشهرات) في المداليل الاِلْتِزَامِيّة، فلا يصّح أن يُقال هنا: إِنَّ المثبتات والمداليل الاِلْتِزَامِيّة لأخبار الثِّقَاتِ (بعد استثناء ما طابَقَ منها صدفةً مع المداليل الاِلْتِزَامِيّة لأخبار أخرى) لعلَّ نسبة الصدق في الباقي منها إلى الكذب فيه تكون أقلّ من نسبة الصدق في المداليل الْمُطَابَقِيّة إلى الكذب فيها؛ فإنَّه يُقال في الجواب على ذلك:
 إنَّنا نشير إلى ذاك العدد الباقي من الأخبار بعد الاستثناء المذكور (أيْ: نشير إلى الأخبار الَّتِي لم تكن مثبتاتها متطابقة مع المداليل الْمُطَابَقِيّةِ لأخبار أخرى، أيْ: لم تكن مثبتاتها مستفادة من أخبارٍ أخرى بالمطابقة) ونقول: إِنَّ الدلالاتِ الْمُطَابَقِيّةِ لتلك الأخبار لا شك في مساهمتها في خلق الترجيح بغلبة الصدق (أيْ: لا شك في أنَّ صدقَ هذه المداليل الْمُطَابَقِيّةِ أكثر من كذبها، ولا نشك أيضاً من أنَّ هذه المساهمة ثابتة لها، سواء وُضعت هذه الأخبارُ في دائرة الأخبار المستثناة (وهي الَّتِي طابقت مثبتاتُها مع المداليل الْمُطَابَقِيّة للأخبار أخرى) أم وُضعت في دائرة الأخبار الباقية بعد الاستثناء، وهي الَّتِي لم تتطابق مثبتاتها مع المداليل الْمُطَابَقِيّة لأخبار أخرى.
 ولا شك أيضاًً في أنَّ مثبتاتِ هذا العدد الباقي من الأخبار (بعد الاستثناء ودلالتها الاِلْتِزَامِيّة) إذا وضعت في نفس تلك الدائرة (أيْ: دائرة الأخبار الباقية) بدلاً عن دلالاتها الْمُطَابَقِيّة، تكون لها المساهمة أيضاً في خلق ذاك الترجيح، بمعنى أنَّ صدقها يكون أكثر من كذبها. ولا شكَّ أيضاً في أَنَّ نسبة المساهمة الأولى (وهي مساهمة الدلالات الْمُطَابَقِيّة في خلق ذلك الترجيح) ليست بأكبر من نسبة المساهمة الثانية (وهي مساهمة المثبتات والدلالات الالتزامية في خلق ذاك الترجيح) بمعنى أنَّه ليست أكثرية صدق تلك من كذبها أكبرُ من أكثريةِ صدق هذه من كذبها إذا وضُعت (بدلاً من تلك) في نفس الدائرة الَّتِي وضُعت فيها تلك؛ لأنَّ المفروض أنَّه لا يحتمل كذب المثبتات والدلالات الاِلْتِزَامِيّة مع عدم كذب الدلالات الْمُطَابَقِيّة.
 إذن، فالنتيجة هي أنَّنا نستدل بحجيّة الدلالاتِ الْمُطَابَقِيّةِ لهذا العدد من الأخبار الباقي بعد الاستثناء على حجيّة مثبتاتها ودلالاتها الاِلْتِزَامِيّة؟
 هذا تمام الكلام في الوجه الثالث من وجوه الاستدلال على حجيّة الشُّهْرَة الفتوائية وقد تبيّن عدم صحّته.
 
 الوجه الرابع:
 التمسّك بعموم التَّعْلِيل الوارد في ذيل آية النبأ وهو قوله تعالى{أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}( [1] )، وذلك بتقريب أنَّ الْعِلَّة تُعمِّم وتُخَصِّص. فإذا قال القائل: >لا تأكل الرّمان؛ لأنَّه حامض< يكون التَّعْلِيل دالاًّ على اختصاص المنع بالرمّان الحامض وعلى عموم المنع للحامض غير الرمّان.
 وعليه، فيقال في المقام: إِنَّ تعليلَ وجوبِ التبيّن بإصابة القوم بجهالة (أيْ: بسفاهة) يَدُلُّ على اختصاص الوجوب بمورد الإصابة بجهالة، وعدم لزوم التبيّن في كل موردٍ لا يكون العمل سفاهةً وإصابةً بجهالةٍ؛ فإنَّ الْعِلَّةَ كما تكون معمِّمةً تكون مُخصِّصةً أيضاً. ومن الواضح أنَّ الأخذَ بالشُّهْرَة والعمل بها ليس سفاهةً، فلا يجب التبيّن عند قيام الشُّهْرَة، وهذا هو معنى الْحُجِّيَّة.


[1] - سورة الحجرات (49): الآية 6.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo