< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/01/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 {خبر الواحد/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 
 كنا نتكلم في الجواب الثَّانِي عن الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ وهذا الجواب الثَّانِي هو أن هذه الآيات عَلَىٰ فرض دلالتها عَلَىٰ عدم الحجية تتعارض مع الأدلة اللفظية الدَّالَّة عَلَىٰ الحجية وَالَّتِي سوف يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى (وهي آيات وروايات) وبعد التعارض نقدّم الأدلةَ الدَّالَّةَ عَلَىٰ الحجية إما بنكتة التخصيص وإما بنكتة النسخ.
 أَمَّا نكتة التخصيص فقد بيّنّاها بالأمس.
 وَأَمَّا نكتة النسخ فبالقول بأنّ آيات الحجية وعمدتها آية النبأ وآية النفر عَلَىٰ فرض دلالتها عَلَىٰ الحجية (يأت الحديث عنهما إن شاء الله) تكون ناسخةً لآيات عدم الحجية وهي الآيات الناهية عن العمل بالظن، وهذا النسخ قائم عَلَىٰ أساس الإيمان بصغرى وكبرى:
 أَمَّا الصغرى فهي ما تقدمت بالأمس من ادعاء تأخّر آيات الحجية زمنياً عن آيات عدم الحجية، وذلك عَلَىٰ أساس ادعاء أن آيات الحجية مدنية، بينما آيات عدم الحجية مكية. إذا آمنا بهذا المطلب عَلَىٰ أساس القرائن والشواهد الَّتِي ذكرناها بالأمس حِينَئِذٍ تَتُِمّ هذه الصغرى لدينا. ونحن نعلم أن النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه، ففي مادة الاجتماع (وهي خبر الثقة الظني الَّذِي لا يفيد العلم) تتعارض آياتُ الحجية مع آيات عدم الحجية، لكن يُدعى هنا أَنَّ الأمر دائر بين شيئين:
 1- إما أن نقول: إن آيات عدم الحجية (المتقدمة عَلَىٰ آيات الحجية) تُخَصِّص آياتِ الحجية وتُخرج مادةَ الاجتماع عن تحت آيات الحجية.
 2- وإما أن نقول: إن آيات الحجية تنسخُ آياتِ عدم الْحُجِّيَّة، باعتبار أننا أثبتنا بالأمس أن آيات الحجية متأخرة زمنياً عن آيات عدم الحجية.
 إِلَىٰ هنا تَتُِمّ الصغرى القائلة بأن الآيات الدَّالَّة عَلَىٰ عدم الْحُجِّيَّة متقدمة زَمَنِيّاً ومكية كما أن لدينا آيات دالة عَلَىٰ الْحُجِّيَّة متأخرة زَمَنِيّاً ومدنية، والنسبة بينهما العموم والخصوص من وجه وفي مادة الاجتماع يقع التعارض، والأمر دائر بين التخصيص والنسخ.
 وَأَمَّا الكبرى فهي عبارة عن القول بِأَنَّهُ كُلَّمَا دار الأمر في الأدلة الواردة في عصر التشريع بين أن يكون الدليل المتقدِّم زَمَنِيّاً مخصصِّا للدليل الْمُتَأَخِّر وبين أن يكون الدليل الْمُتَأَخِّر زمنياً ناسخاً للدليل المتقدم (كُلَّمَا دار الأمر بين التخصيص والنسخ) يَتَعَيَّنُ النسخ.
 طَبْعاً إثبات هذه الكبرى وإقامة الدليل عليها موكول إِلَىٰ بحث التعارض، وهكذا تَتُِمّ الكبرى أَيْضاً.
 
 فروض القضيتين:
 وهاتان القضيتان (الصغرى والكبرى) إما أن نؤمن بهما معاً وإما أن نؤمن بالصغرى وننكر الكبرى وإما بالعكس نؤمن بالكبرى وننكر الصغرى، وإما أن ننكر كلا الأمرين الصغرى والكبرى معاً، فلا يوجد فرض خامس في البين.
 أَمَّا الفرض الأول فنتيجته ثبوت المطلوب وهو واضح.
 أَمَّا الفرض الثَّانِي وهو فرض عدم تمامية الصغرى وعدم القبول بتأخّر آيات عدم الْحُجِّيَّة زَمَنِيّاً عن آيات الْحُجِّيَّة فنقول بِأَنَّهُ لو ثبت لدينا أن آيات الحجية متأخرة زمنياً عن آيات عدم الْحُجِّيَّة لكانت ناسخة (أي: نقبل الكبرى) ولكننا لا نقبل تأخر آيات الْحُجِّيَّة (آية النبأ وآية النفر) عن آيات عدم الْحُجِّيَّة، ولا نعني بذلك أن آيات عدم الْحُجِّيَّة مكية، بل نقبل بكونها مدنية إِلاَّ أننا لا نقبل أن آيات عدم الْحُجِّيَّة مكية، فلعلها مدنية أَيْضاً وَبِالتَّالِي لم يثبت لدينا أن آيات عدم الْحُجِّيَّة متأخرة زَمَنِيّاً عن آيات الْحُجِّيَّة؛ ذلك لأَن احتمال كونها مدنية موجود رغم اندراجها في سور مكية؛ فإننا نعلم من الأحاديث والروايات أنَّ النبي كان إذا نزل الوحي أمر بإدراج ما أوحي إليه في سورة نزلت سابقةً واختار لها موضعاً مناسباً في سورة نزلت قبلها، فلعل آيات عدم الحجية من هذا القبيل تكون نازلة في المدينة ولكن النبي أمر بإدراجها في سور مكية. فكونها مدرجة في سورة مكية ليس دَلِيلاً عَلَىٰ أنها مكية، وَبِالتَّالِي لا تَتُِمّ الصغرى.
 وَحِينَئِذٍ نقول: لو كانت آيات الحجية في علم الله تعالى وفي الواقع هي المتأخرة زماناً تكون ناسخةً لآيات عدم الحجية؛ لأَن المفروض التسليم بالكبرى، ولو كانت آيات عدم الحجية هي المتأخرة زماناً في الواقع لا نحتمل أن تكون ناسخة لآيات الحجية (أي: لا نحتمل أن الحجية جعلت أَوَّلاً لخبر الواحد ثم نُسخت)؛ لأَنَّهُ كيف يقع مثل هذا النسخ ولا يقول به أحد من المسلمين؟ فإن المسلمين بين فريقين:
 1- بين قائل بإنكار حُجِّيَّة خبر الواحد.
 2- وبين قائل بالحجية وبقائها وعدم نسخها.
 ولكن لا يوجد قائل يقول بأن الْحُجِّيَّة جعلت لخبر الواحد ثم نُسخت بعد ذلك كما لم ترد بهذا النسخ حَتَّىٰ رواية واحدة (لا من طرقنا ولا من طرق العامة) تدل عَلَىٰ أن الحجية جُعلت للظن أو لخبر الواحد ثم نُسخت، مع أن رسول الله كان يفسّر الآياتِ ويبيّن المقصود منها عندما كانت تنزل عليه.
 إذن، هذا كله مِمَّا يوجب العلم أو الاطمئنان عَلَىٰ أقل تقدير بعدم نسخ الْحُجِّيَّة، وإذا كانت آيات عدم الحجية هي المتأخرة فهي ليست ناسخة لآيات الحجية وَإِنَّمَا معارضة لها. وَبِالتَّالِي يوجد لدينا احتمالان متساويان:
 الاحتمال الأول: احتمال تأخر آيات الْحُجِّيَّة، وعليه تكون آيات الْحُجِّيَّة ناسخة؛ لأَن المفروض القبول بالكبرى (وهي أن الدليل الْمُتَأَخِّر هو الناسخ)، فيثبت المطلوب وهو حُجِّيَّة خبر الواحد.
 الاحتمال الثَّانِي: احتمال تأخر آيات عدم الْحُجِّيَّة، وعليه لا تكون آيات الْحُجِّيَّة منسوخةً وَإِنَّمَا تتعارض آيات عدم الْحُجِّيَّة مع آيات الْحُجِّيَّة، فلا يوجد احتمال النسخ في هذا الجانب.
 وَبِالتَّالِي نحن نعلم بسقوط آيات عدم الحجية إما بالنسخ أو بالمعارِض، لكن آيات الحجية لا نعلم بسقوطها عَلَىٰ كل حال فتبقى عَلَىٰ حجيتها ونتمسك بها، فتكون آيات الْحُجِّيَّة حجة لنا. هذه هي النتيجة عَلَىٰ الفرض الثَّانِي (وهو فرض إنكار الصغرى وقبول الكبرى).
 أَمَّا الفرضان الثالث والرابع، فالثالث منهما ينكر الكبرى (على عكس الفرض الثاني) والرابع منهما ينكر الصغرى والكبرى، فهما يجتمعان معاً في إنكار الكبرى وبإنكار الكبرى تكون النتيجة وقوع التعارض بين آيات الْحُجِّيَّة وآيات عدم الْحُجِّيَّة من دون فرق في تقديم بعضها عَلَىٰ بعض أو تأخير بعضها عَلَىٰ بعض؛ لأَنَّنَا أنكرنا الكبرى وبذلك نكون قد أنكرنا النسخ فتتعارضان في مادة الاجتماع (وهي الخبر الظني الَّذِي لا يفيد العلم) وتتساقطان، وتكون السيرة العقلائية القائمة عَلَىٰ العمل بخبر الثقة هي المرجع بعد السقوط، ويأت الحديث حول هذه السيرة ضمن أدلة حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، وهذه السيرة سليمة عن الردع؛ فَإِنَّ طريق الشَّارِع للردع عنها محصورة في آيات عدم الْحُجِّيَّة وهي معارضة مع آيات الْحُجِّيَّة، ووجود إطلاق قرآني يعارضه إطلاق قرآني آخر بنحو العموم والخصوص من وجه ليس مِمَّا يمكن للشارع أن يكتفي به في مقام الردع عن السيرة، ولو كان الشَّارِع في مقام الردع عن السيرة لكان يردع عنها من خلال نصوص متعددة وما اكتفى بإطلاق {ما ليس لك به علم} الَّذِي يعارضه إطلاق آخر في آية النبأ؛ فَإِنَّ الردع يجب أن يكون بحجم السيرة كما ردع الشَّارِع عن الربا ردعاً متناسباً مع السيرة القائمة عَلَىٰ مشروعية الربا. فالنتيجة هي حُجِّيَّة خبر الواحد.
 هذا هو الجواب الثَّانِي عن الاستدلال بهذه الآيات عَلَىٰ عدم الحجية وقد عرفنا أن هذا الاستدلال غير تامّ لهذا الجواب الثَّانِي بقطع النظر عن الجواب الأول الَّذِي كان يقول بأن هذه الآيات لا تدل أَسَاساً عَلَىٰ عدم الحجية، بينما يقول الجواب الثَّانِي بِأَنَّهَا لو كانت دالة عَلَىٰ عدم الحجية فهي مبتلاة إما بالتخصيص أو بالنسخ أو بالتعارض والتساقط.
 
 الجواب الثالث:
 هو أننا لو غضضنا النظر عن الجواب الأول وقلنا بأن الآيات الناهية عن العمل بالظن تدل فعلاً عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ وغضضنا الطرف أَيْضاً عن الجواب الثَّانِي وقلنا بأن هذه الآيات ليست مبتلية لا بالمخصِّص ولا بالناسخ ولا بالتعارض، مع ذلك نقول إن هذه الآيات لا تصلح للردع عن السيرة العقلائية الراسخة القائمة عَلَىٰ العمل بخبر الثقة وَالَّتِي يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى؛ لأَن هذه الآيات مطلقة {ولا تقف ما ليس لك به علم} سواء كان ما ليس لك به علم خبراً أو أي شيء آخر، ولا يكفي هذا الإطلاق للردع عن هذه السيرة الراسخة.
 وبهذا تم الكلام عن الاستدلال بالقرآن الكريم عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد، هذا الاستدلال الَّذِي كان يتمثل بالاستدلال بهذه الآيات الناهية وعرفنا أن هذا الاستدلال غير صحيح لوجوه ثلاثة نلخصها فيما يلي:
 أَوَّلاً: لأَن هذه الآيات لا تدل أَسَاساً عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ.
 وَثَانِياً عَلَىٰ فرض دلالتها عَلَىٰ عدم الْحُجِّيَّة فهي مبتلاة بالمخصص أو بالنسخ أو بالمعارض.
 وثالثاً عَلَىٰ فرض عدم ابتلائها أَيْضاً بالمخصص والناسخ والمعارض مع ذلك هي لا تكفي للردع عن السيرة الراسخة القائمة عَلَىٰ حُجِّيَّة العمل بخبر الثقة.
 هذا موقفنا من هذه الآيات الَّتِي استدل بها عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد، وبهذا انتهينا من الاستدلال بالقرآن الكريم، بعد ذلك ننتقل إِلَىٰ الاستدلال بالسنة عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد.
 وقبل التعرض للسنة عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد يجب أن نتعرض للمنهج الَّذِي يجب اتباعه أَسَاساً للاستدلال بالسنة عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد؛ لأَن السنة الَّتِي يراد الاستدلال بها عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد إما هي عبارة عن سنة قطعية الصدور وإما هي عبارة عن سنة ظنية الصدور، ولا يخلو الأمر من هذين الأمرين.
 أَمَّا الفرض الأول فلا يوجد محذور ثبوتي في هذه الطريقة من الاستدلال؛ لأَنَّهُ لا يوجد أي مانع عقلي في أن يستدل شخص بخبر قطعي عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الخبر الظني.
 أَمَّا الفرض الثَّانِي وهو أَنَّهُ لو أريد الاستدلال بالسنة الظنية عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد فهل هو صحيح ومنطقي أم لا؟ فتارة نفترض أننا نقطع بِأَنَّهُ لا فرق بحسب الملاك بين هذا الخبر الَّذِي يُراد الاستدلال به عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الواحد وبين غيره من أخبار الآحاد، فالاستدلال بهذا الخبر عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة أخبار الآحاد غير منطقي وباطل؛ لأَنه يلزم من حُجِّيَّة هذا الخبر القطع بكذب هذا الخبر نفسه؛ لأَن هذا الخبر لو كان حجة فباعتبار أننا نقطع بِأَنَّهُ لا يوجد فرق بينه وبين غيره من أخبار الآحاد فيكون غيره حجة أَيْضاً، وإذا كان غيره حجة فهذا يكون كاذباً؛ لأَنَّهُ يريد تكذيب حُجِّيَّة سائر أخبار الآحاد. فيلزم من حجيته العلم والقطع بكذبه، ومن المستحيل أن تُجعل الْحُجِّيَّة مِنْ قِبَلِ الشَّارِع لخبرٍ يلزم من حجيته القطعُ بكذبه؛ لأَن جعل الحجية لمثل هذا الخبر لغو وصدور اللغو من الشَّارِع غير محتمل.
 يبقى الفرض الثَّانِي ويأت الحديث عنه غدا إن شاء الله تعالى. هذا ما أعدَّه وأقرَّه الشيخ محسن الطهراني بيديه الداثرتين عفى الله عنه بحق محمد وآله الطاهرين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo