< قائمة الدروس

الأستاذ السيد حیدر الموسوي

بحث الفقه

39/05/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضـوع: معنى تواري الجدران/ حد الترخّص/ الشرط الثامن من شروط القصر/ صلاة المسافر.

أقول: بالنسبة لصحيحة محمد ابن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله (ع) رجل يريد السفر فيخرج، متى يقصّر؟ قال: إذا توارى من البيوت. الصريحة في كون العلامة هي تواري المسافر من البيوت، مع ذلك فقد حملها الأصحاب على تواري البيوت عن المسافر، وجعلوا العلامة أحد الخفائين، أي خفاء الآذان وخفاء البيوت، مع أن نص الصحيحة تواريه من البيوت وخفاؤه منها، فقد التزموا في هذه العلامة بالقلب، وأن الخفاء ليس للمسافر عن البيوت، وإنما للبيوت عن المسافر، وهو نحو من المجاز، والوجه فيما ذهبوا إليه على ما أفاده بعض شراح المتن أنه لو أُبقي على ظاهره كان بحاجة إلى تقدير الإبصار، مضافاً إلى عدم مناسبته لكون ذلك علامة للمسافر يُعوّل عليها في التقصير متى ما حصلت، وبعبارة أخرى: أنه لما كان الشرط عبارة عن البعد الخاص المستكشف من خفاء الآذان، ومن تواري المسافر من البيوت، بأن يضرب في الأرض ويبتعد عن بلده إلى حد يكون بينه وبين البيوت حاجب وحائل يمنع من الرؤية، ومنشأ هذا الحائل هو البعد، لا وجود الظلمة، أو النزول في وهدة أو وادٍ، أو الالتفات من وراء تل، أو جبل، وهذا التواري تارة يكون بحيث لا يراها، وأخرى بحيث لا تراه، والثاني بحاجة إلى تقدير الابصار، ولو بتقدير أهل البيوت، لوضوح أن البيوت غير قابلة للرؤية، فلا تكون قابلة للسلب عنها، ولما كان محتاجا إلى تقدير الابصار مع أنه لا ينسجم مع كون التواري علامة للمسافر، لذا يُلتزم بالقلب، وأن التواري للبيوت عنه لا للمسافر عن البيوت، ولذا عبر المشهور بخفاء الجدران وتواريها، باعتبار أن المواراة قائمة بالطرفين من الرائي والمرئي، إلا أن فاعل المواراة هو المسافر، لذا تم التعبير في الصحيحة بـــ " إذا توارى من البيوت" باعتباره هو فاعل المواراة، رغم قيام المواراة فيما بينهما.

والحاصل: أنهم جعلوه من باب القلب، أي توارت البيوت عنه، فلا يراها أنه توارى عن البيوت فلا تراه.

أقول: تواري المسافر من البيوت لا يشتمل على حيثيتين: تارة بنحو لا يراها، وأخرى بنحو لا تراه، بل لا يشتمل إلا على حيثية أن لا تراه البيوت، والذي يحتاج إلى تقدير الابصار ولو بتقدير أهل البيوت، فيكون من المجاز بالحذف، وبالتالي لا مجال لاحتمال أن يراد من التواري أن لا يراها، وبهذا نجيب عما سوف يأتي من صاحب الجواهر من دعوى أنه إضمار بلا قرينة، فإنه لا يحتاج الاضمار هذا إلى قرينة، لتعين تواري المسافر عن البيوت بذلك، أي يتوارى عن البيوت بأن لا تراه، لا أنه يتوارى عنها بأن لا يراها، وإلا هي التي تتوارى عنه ولأجل ذلك حمل المشهور الرواية على تواري الجدران عن المسافر لا تواريه عن البيوت.

إلا أن جملة من الفقهاء أبقوا الصحيحة على ظاهرها، ولكن بتقدير أهل البيوت، بحيث لا يراه أهل البيوت، فهو من المجاز في الحذف. وهذا كما عرفت بحاجة إلى تقدير الأهل مضافاً إلى أنه شبيه بالأكل من القفا، لأنك كما عرفت هي علامة للمسافر، لا للبيوت ولا لأهلها، والتواري عن أهل البيوت كناية عن عدم رؤيتهم إياه، ولا يعلم المسافر بعدم رؤية أهلها إياه، إلا بالتلازم بين رؤيتهم إياه وعدم رؤيته لهم، فجعل العلامة عدم رؤيتهم له عجز في التعبير، وأكل من القفا، ينزه عنه كلام العارف بأساليب المحاورة، فكيف بمثل الإمام الصادق (ع)، بل كان اللازم جعل تواري البيوت عنه علامة بعدم رؤيته لأهلها.

وقد تحصل مما تقدم: أن لا تقدير لأهل البيوت، وذلك لكونه مجازاً بالحذف، ولأنه شبيه بالأكل من القفا، لذا صاروا إلى القلب، وأن التواري إنما للبيوت عن المسافر، لا للمسافر عن البيوت، وأن هذا ما يُناسب كون التواري علامة للمسافر.

قال في الجواهر:" واحتمال إرادة من في البيوت من البيوت في الصحيح يدفعه مع أنه إضمار بلا قرينة ، وعدم معلومية كون من في البيوت على السطوح أو الأرض ، ومقدار الارتفاع والانخفاض ونحو ذلك - أن المناسب حينئذ أن يقدره باستتار من في البيوت عليه لأنه هو الذي يستطيعه المسافر حتى يكون علامة ، ضرورة عدم معرفته أنه استتر عن أهل البيوت أولا ، إذ ذاك أمر لا يرجع إليه ، اللهم إلا أن يجعل ذلك على سبيل التخمين ، وفيه أنه لا وجه له مع تمكنه منه على طريق التحقيق بأن ينظر إلى من في البيوت ولم ير أحدا منهم ، فيعلم أنه توارى عنهم ، لأن الغالب مساواة الأشخاص والأنظار ، فلو كان ذلك هو العلامة لاعتبر الشارع الطريق إليها ، فعلم كون المعتبر خفاء نفس البيوت لا من فيها "[1] .

أقول: قد اعتبر أن ما في صحيحة محمد ابن مسلم لبيان الحكمة في تحديد الترخص بذلك، فما دام لم يتوارَ لم يخرج عن حد الحضور ويدخل في حد الغيبة، بخلاف ما إذا توارى. لا أن المراد به اعتبار ذلك لمعرفة إبتداء قصره، إذ لا سبيل له إلى معرفة أنه توارى من البيوت، بل إذا أراد ذلك اختبره بالآذان فهو الأمارة على التواري حينئذٍ.

إلا أن الصحيح: هو كونه من باب المجاز بالحذف والتقدير أهل البيوت، وذلك: أن ما ذُكر وإن كان يحتاج إلى تقدير، ومن باب المجاز في الحذف إلا أن التجوّز حاصل على كل حال في قوله (ع): إذا توارى من البيوت؛ لأن التواري لو كان للبيوت عن ناظري المسافر، ومن ثم عُبّر بتواري المسافر عنها، فإنه مجاز أيضاً، بل مؤونة المجاز فيه أشد وآكد، لا سيما مع تعارف المجاز بالحذف وكثرة تداوله في الاستعمالات. فنحن أمام مجازين: أحدهما أكثر تقديراً وكلفة وأشد مؤونة من الآخرة، مضافاً إلى ما في المجاز الآخرة من كونه متعارفاً ومتداولاً في الاستعمال، بخلاف المجاز الأول، ولذا يتعين في قبال المجاز الأول.

وأما حديث الأكل من القفا ففيه: بأن ليس مفاد التواري عدم الرؤية، وإنما هو الغيبة والخفاء الذي تنقطع وتنتفي معه الرؤية، ولما كان فاعل التواري هو المسافر لتسمُّر الحاضر في بلده وابتعاد المسافر عن بلده إلى الحد الذي توارى وغاب واختفى فيه عن البيوت، وإن لم يكن للبيوت إبصار، لذا كنا بحاجة إلى تقدير من في البيوت، أي أهل البيوت. ولمكان الملازمة ما بين خفاء المسافر عن أهل البيوت، وخفاء أهل البيوت عنه، لذا كان الشرط في الصحيحة هو تواري المسافر عن البيوت بفعل ضربه في الأرض وابتعاده إلى الحد الذي توارى فيه عن أهل البيوت وخفي عنها رغم أن التواري قائم بين شخصين. من دون التزام بالقلب، وما لم يبلغ ذلك البعد الخاص يكون حاضراً في بلده غير غائب عنه، فالتواري عن البيوت هي الغيبة ولازم ذلك عدم رؤيتهم.

ومن مطاوي ما ذكرناه يتضح مناسبة جعل خفاء المسافر عمّن في البيوت علامة للمسافر الذي ضرب في الأرض، وأنه بلغ البعد الخاص عن بلده، وبلغ الموضع الذي يجيب عليه فيه التقصير، وأنه قد خرج عن حد الحضور ودخل في حد الغيبة، لذا توارى من البيوت، وهذه هي نكتة تحديد الترخص بتواري المسافر عن البيوت، فما دام لم يتوارَ هو حاضر، وبالتالي يكون حكمه التمام.

وقد تحصل: أن المدار على تواري الشخص من البيوت، وقد اسند في صحيحة محمد أبن مسلم إليه، لا إليها، والمراد تواريه عن أهل البيوت، لا تواري البيوت عنه، فإن خفاء المسافر أسرع من خفاء البيوت؛ لصغر جثته، وأنه لا بد من بُعد المسافر عن البيوت وأهلها بمقدار لا يرونه، وإن لم يتوارَ عن البيوت لأن تواريه عن أهل البيوت يستلزم تواريهم عنه.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo