< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/06/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: أحكام الجماعة
تتمة الأمر الثالث : مناقشة الآراء التي قالت بجواز القراءة في الركعتين الأوليين في الصلاة الجهرية.
أشرنا في الدرس الماضي إلى أنه ثمة اختلاف بين الفقهاء الكرام في مسألة القراءة في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، فذهب المشهور من القدماء والمتأخرين إلى حرمة القراءة، وذهب البعض إلى جوازها، وذكرنا أكثر من رواية تدل على حرمة القراءة، في حين أن القائلين بجوازها حملوا النهي في هذه الروايات على الكراهة، غير أننا ناقشنا ما استدلوا في المقام، وقد ثبت لنا بعد الوقوف عند صحيحة علي بن جعفر أن حمل النهي في هذه الصحيحة على الكراهة ليس بسديد. واليوم نود أن نتطرق إلى بعض الروايات الأخرى التي استدلوا بها على كراهة القراءة.
فمن تلك الروايات التي استدل بها على جواز القراءة في الركعتين الأوليين في الصلاة الجهرية، رواية البصري والمرافقي، هي – كما رواه صاحب الوسائل - وَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ بْنِ عُقْدَةَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْحَازِمِيِ‌[1] عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُرَافِقِيِّ وَ عُمَرَ[2] بْنِ الرَّبِيعِ الْبَصْرِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ع‌ ( أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ إِذَا كُنْتَ خَلْفَ الْإِمَامِ تَوَلَّاهُ‌[3] وَ تَثِقُ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِيكَ قِرَاءَتُهُ وَ إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَقْرَأَ فَاقْرَأْ فِيمَا تَخَافَتَ فِيهِ فَإِذَا جَهَرَ فَأَنْصِتْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‌ وَ (أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‌)[4][5] الْحَدِيثَ ).[6]
وجه الاستدلال عند من قال بجواز القراءة : أن قوله عليه السلام : (أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ إِذَا كُنْتَ خَلْفَ الْإِمَامِ تَوَلَّاهُ‌[7] وَ تَثِقُ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِيكَ قِرَاءَتُهُ ) يدل على أن التبعير بالإجزاء يكشف عن جواز القراءة، وإن كان السماع يجزي عنها؛ وذلك أن قول الإمام عليه السلام : ( فإنه يجزيك قراءته) لا يدل على أن القراءة محرمة، بل إنما يدل على أن قراءة الإمام تجزي عن قراءة المأموم، فإذا اكتفى المأموم بقراءة الإمام سقط عنه التكليف، ولا يلزم من ذلك أنه إذا قرأ أتى بالحرام. مضافا إلى ذلك، يستفاد ترك القراءة من أن الإمام عليه السلام أمر بالإنصات، لأجل طلب الرحمة، وتعريض النفس لطب الرحمة ليس واجبا، بل إنما يجب على الإنسان دفع العذاب، فمن هنا نستنج أن ترك القراءة مستحب، ليتمكن المصلي من الإنصات لطب الرحمة.
إلا أن هذا الاستدلال ليس بتام، وذلك – أولا – أن الإجزاء يدل على جواز السماع بالمعنى العام، ويدل على أن المأموم يصح له أن يكتفي بقراءة الإمام؛ لأنها مجزية عن قراءته، لكنه لا يدل على أن قراءة المأموم مكروهة أو محرمة، أو أن ترك القراءة بنحو الوجوب أو الرخصة. بل يمكن أن نقول إن قوله عليه السلام : (فَإِنَّهُ يُجْزِيكَ قِرَاءَتُهُ ) يدل على حرمة القراءة، وذلك أن القول بالإجزاء يكشف عن أن القراءة ساقطة عن المأموم، فلا وجه أن يأتي بما هو ساقط عنه، وهذا كما درسنا في مسألة إجزاء البديل عن المبدل عنه، وللتوضيح نأتي بالمثال، وهو أننا لو افترضنا أن صلاة الجمعة مجزية عن صلاة الظهر، فمن صلى صلاة الجمعة، ليس له أن يصلي صلاة الظهر، لأن التكليف سقط عنه بأداء صلاة الجمعة، وما نحن فيه كذلك، لأن قراءة الإمام مجزية عن قراءة المأموم – حسب ما ورد في الرواية – فلا وجه أن يقال بجواز قراءة المأموم والحال أن قراءة الإمام تجزي عنها.
وأما ما قالوا من أن طلب الرحمة ليس واجبا، فذكرنا – في الدرس الماضي – أن هذا القول ليس في محله، وأشرنا إلى أن طلب الرحمة يجب، كما يجب دفع العذاب. ثانيا – ذكرنا سابقا أن سند الرواية ساقد عن الاعتبار، وذلك لأن الحازمي أو الخازمي وإبراهيم بن علي المرافقي من المجاهيل، وأن حسن بن الحسين مشترك بين الثقة وغير الثقة. ومن هنا يمكن القول بأن هذه الرواية لا تصلح لتعارض الروايات التي دلت على حرمة القراءة.
ومن الروايات التي استدلوا بها على جواز القراءة، موثقة سماعة، وهي – كما رواه صاحب الوسائل : وَ عَنْهُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ زُرْعَةَ عَنْ سَمَاعَةَ فِي حَدِيثٍ قَالَ: ( سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَؤُمُّ النَّاسَ فَيَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَ لَا يَفْقَهُونَ‌ مَا يَقُولُ فَقَالَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَهُ فَهُوَ يُجْزِيهِ وَ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهُ قَرَأَ لِنَفْسِهِ).[8] وجه الاستدلال بها على جواز القراءة نفس ما ذكرنا في الرواية السابقة، وهو أن التبعير بالإجزاء يكشف عن جواز القراءة، وإن كان السماع يجزي عنها، والجواب نفس ما ذكرنا آنفا من أن الإجزاء يدل على جواز السماع بالمعنى العام، ويدل على أن المأموم يصح له أن يكتفي بقراءة الإمام؛ لأنها مجزية عن قراءته، لكنه لا يدل على أن قراءة المأموم مكروهة أو محرمة، أو أن ترك القراءة بنحو الوجوب أو الرخصة. بل إن الإجزاء يدل على حرمة القراءة لأنه ظرف سقوط التكليف. وفي المقام نكتة أخرى أشار إليها السيد الخوئي رحمه الله تعالى، وإليك نص ما قاله :
" بل يمكن أن يقال بدلالة الموثّقة على أنّ الترك بنحو العزيمة وأنّ القراءة ليست بجائزة، بقرينة المقابلة بين هذه الفقرة وبين قوله ( عليه السلام ) : « وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه »، فإنّ القراءة لدى عدم السماع جائزة لا واجبة نصاً وفتوى كما ستعرف، ومقتضى المقابلة عدم الجواز لدى السماع، إذ لو جاز معه أيضاً لما صحّ التقابل، مع أنّ التفصيل قاطع للشركة.
وبعبارة أخرى : لا شكّ أنّ القراءة في الصورة الثانية ليست بواجبة للنصوص الدالَّة على جواز الترك، فتركها حينئذ رخصة قطعاً، فان كان الترك في الصورة الأُولى أيضاً رخصة لم يبق فرق بين الصورتين فلا يصح التقابل فلا مناص من كونه عزيمة.وعليه فالموثّقة تعاضد النصوص المانعة، لا أنّها تعارضها كي تصلح قرينة لصرف النهي الوارد فيها إلى الكراهة."[9]
يتبن لنا ما قاله السيد الخوئي رحمه الله أن الموثقة تدل على حرمة القراءة، وذلك أن قول الإمام عليه السلام : « وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه » يدل على جواز القراءة عند عدم سماع صوت إمام الجماعة، وهذ يكشف - بمقتضى قرينة المقابلة بين قوله : (إِذَا سَمِعَ صَوْتَهُ فَهُوَ يُجْزِيهِ)، وبين قوله : (وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه) – عن عدم جواز القراءة عن سماع قراءة الإمام، وإلا لما صح التقابل بين الحالتين.
ومن الروايات التي استدل بها القائلون بجواز القراءة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، وهي كما ورد في الوسائل : وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ جَمِيعاً عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ:(سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ أَقْرَأُ خَلْفَهُ فَقَالَ أَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جُعِلَ إِلَيْهِ فَلَا تَقْرَأْ خَلْفَهُ وَ أَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا فَإِنَّمَا أُمِرَ بِالْجَهْرِ لِيُنْصِتَ مَنْ خَلْفَهُ فَإِنْ سَمِعْتَ فَأَنْصِتْ وَ إِنْ لَمْ تَسْمَعْ فَاقْرَأْ ).[10]
وجه الاستدلال عندهم عبارة عن أن الإمام عليه السلام منع عن القراءة؛ لأنها مقدمة للإنصات، ولما كان الإنصات أمرا استحبابيا، فالقراءة التي هي مقدمة له كذلك أمر استحبابي، بعبارة أخرى، أن القراءة يقابلها الإنصات، وبما أن الإنصات أمر استحبابي، فمقابل الاستحباب كراهة لا حرمة.
غير أننا ذكرنا سابقا أن هذا الاستدلال ليس تاما، وذلك – أولا – أنه لا تعليل في المقام، ثانيا لا نقبل أن الإنصات أمر استحبابي كما أشرنا إليه سابقا، وثالثاً – أن قوله عليه السلام : ( فإن سمعت فأنصت ) ظاهر في الوجوب، لأن صيغة الأمر تدل على الطب، وإذا لم توجد قرينة تدل على الترخيص، فيدل على الوجوب بحكم العقل.
قال السید الحكيم رحمه الله تعالى عليه : " و التعليل في الرابع إنما كان لأمر الإمام بالجهر- الذي هو واجب عليه جزما- لا للنهي عن القراءة. وحينئذ لو فرض كون المراد من الإنصات ترك القراءة كان دالا على حرمتها، لأن علة الواجب واجبة." نلاحظ من خلال هذا النص أن السيد يرى أن الجهر في الركعتين الأوليين واجب على الإمام في الصلاة الجهرية، وإنما وجب عليه الجهر ليتمكن المأموم من الإنصات، فوجوب الجهر على الإمام علة لإنصات المأموم القراءة، وبما أن الجهر في الركعتين الأوليين واجب على الإمام في الجهرية، فكذلك يجب على المأموم الإنصات، ومن هنا نستنتج أن ترك القراءة واجب، ليتمكن المأموم من الإنصات.
إلا أن ما قاله السيد الحكيم في المقام يمكن أن يناقش فيه؛ وذلك أن وجوب الجهر على الإمام ليست علة تكوينة، بل الداعي إلى أن ينصت المأموم، فلذلك يحتمل أن يكون الإنصات غير واجب على المأموم، بل يجب على الإمام أن يوفر له التمكن من الإنصات بجهره في الركعتين الأوليين، وذلك أن المأموم إذا أراد أن ينصت فينغي أن يكون الإنصات متوفرا له بسبب جهر الإمام. ومن هنا فهذا القول لا يثتب وجوب الإنصات، ومن ثم لا يدل على حرمة القراءة. المحصل أن صحيحة عبد الرحمن بن حجاج تدل على حرمة القراءة.
مضافا إلى هذه الروايات المباركة، عندنا في المقام روايتان تدلان على حرمة القراءة، ولا يمكن حملهما على الكراهة، الأولى صحيحة زرارة، حيث جاء فيها : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ وَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالا ( قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع يَقُولُ‌ مَنْ‌ قَرَأَ خَلْفَ‌ إِمَامٍ‌ يَأْتَمُّ بِهِ فَمَاتَ بُعِثَ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ ).[11] فقول الإمام عليه السلام : ( من قرأ خلف إمام يأتم به فمات بعث على غير الفطرة )، يدل على حرمة القراءة، لأنه لا يمكن أن يحمل قوله هذا على الكراهة، وذلك – أولا - أن قوله عليه السلام (بعث على غير الفطرة) ليس صيغة النهي، فلا يحمل على الكراهة، وثانيا – أنه لا يصح أن يكون الفعل المكروه سبب الخروج من الدين، فلذلك تأبى هذه الرواية أن تحمل على الكراهة، فهي تدل مع التأكيد على حرمة القراءة.
الرواية الثانية التي تدل بصراحة على حرمة القراءة، ولا يمكن حملها على الكراهة، صحيحة علي بن جعفر، وهي - كما رواه صاحب الوسائل، وقد ذكرناها في الدروس الماضية - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِي قُرْبِ الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيهِ ع‌ (سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ خَلْفَ الْإِمَامِ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَ هُوَ يَقْتَدِي بِهِ هَلْ‌ لَهُ‌ أَنْ‌ يَقْرَأَ مِنْ خَلْفِهِ قَالَ لَا وَ لَكِنْ يَقْتَدِي بِهِ ).[12] فمن يتأمل في هذه الرواية، يدرك بكل وضوح أن نوعية السؤال تدل على تأكيد المنع، وذلك أن السائل قال : ( هل له أن يقرأ من خلفه )، فقال الإمام عليه السلام : ( لا ولكن يقتدي به )، أي : ليس له أن يقرأ، وهذا التعبير أعنى : " ليس له أن يقرأ." آكد دلالة على النهي، وأوضح من تعبير : " لا تقرأ." لأنه يمكن أن يحمل النهي على الكراهة إذا وجدت القرينة على الترخيص، في حين أن تعبير : ليس له أن يقرأ، أو ليس له أن يفعل، لا يحمل على المنع التنزيهي، كما هو واضح.
وبعد كل ما ذكرناه في المقام اتضح لنا أن ما ذهب إليه المشهور من أن ترك القراءة واجب صحيح، فكل هذه الروايات أكدت على أن المأموم يجب عليه أن يترك القراءة في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، وأما ما ذكر القائلون بجواز القراءة من الأدلة التي تفيد جوازها، ليست في محلها.


[1] ( 3)- في المصدر- الخازمي.
[2] ( 4)- في المصدر- عمرو.
[3] ( 5)- في المصدر- إمام تتولاه.
[4] ( 6)- الأعراف 7- 204.
[7] ( 5)- في المصدر- إمام تتولاه.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج8، ص358، أبواب صلاة الجماعة، الباب31، الحديث10، ط آل البيت.
[9] شرح العروة الوثقى، ج1، ص117.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo