< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/06/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: أحكام الجماعة
الأمر الرابع : بل الأحوط والأولى الإنصات وإن كان الأقوى جواز الاشتغال بالذكر ونحوه.
بعد أن بين السيد اليزدي حكم قراءة المأموم في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، ذكر في الأمر الرابع من المسألة الأولى أن مقتضى الاحتياط والأولوية الإنصات، وذلك أنه اتضح لنا - من خلال ما سبق - أن الفقهاء انقسموا إلى طائفتين بالنسبة إلى الإنصات، فمنهم من اختار وجوبه، ومنهم من اختار استحبابه، ولم يفتِ أحد بحرمته، ومن هنا فوجه الاحتياط والأولوية أن ينصت المأموم في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية.
ثم أشار المصنف إلى أن جواز الاشتغال بالذكر ونحوه أقوى في الركعتين الأولى والثانية، من الصلاة الجهرية، المراد من قوله : ( ونحوه ) الدعاء. والدليل على جواز الاشتغال بالذكر الروايات التي أكدت على اشتغال المأموم بالذكر في الركعتين الأوليين من الجهرية. ومن هنا فنود أن نتوقف عند بعض الروايات التي تصرح بجواز الاشتغال بالذكر.
من تلك الروايات موثقة أبي المغراء حيث جاء فيها : وَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ حُمَيْدِ بْنِ الْمُثَنَّى ( قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فَسَأَلَهُ حَفْصٌ الْكَلْبِيُّ- فَقَالَ أَكُونُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَ هُوَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فَأَدْعُو وَ أَتَعَوَّذُ قَالَ نَعَمْ فَادْعُ ).[1]
سند الرواية : من ناحية السند لا بأس به، لأن سند الشيخ الصدوق رحمة الله تعالى عليه إلى أبي المغراء سند صحيح، لا إشكال فيه، إلا أن في سند الشيخ إلى أبي المغراء عثمانَ بن عيسى، وهو واقفي، غير أن الرجل موثوق به، ومن هذه الناحية تعبر عن الرواية بموثقة أبي المغراء، ومن العجب أن بعض المعاصرين عبروا عن هذه الرواية بصحيحة أب المغراء، والحال أنها ليست صحيحة، بل موثقة، لأن في سندها عثمان بن عيسى، وهو واقفي.
مضافا إلى أن عثمان بن عيسى من الثقات، هو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء، وتصديقهم لما يقولون، وأقرّوا لهم بالفقه. وهنا أود أن أشير إلى مسألة مهمة، وهي أن ما ذكره العلامة الكشي رحمه الله تعالى من أنه : " أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح من هؤلاء، وتصديقهم لما يقولون، وأقروا لهم بالفقه‌."[2] ليس المراد من قوله هذا أن كل سند ورد فيه من هؤلاء أصحاب الإجماع فهو سند صحيح، ولا ينظر فيه من حيث وثاقة الرواة من قبلهم أو من بعدهم، كما اختاره بعض الفقهاء، بل الأصح في المقام أن قوله هذا يدل على وثاقة أصحاب الإجماع، وجلالة قدرهم ومنزلتهم عند الرجاليين، بعبارة أخرى، أنه يدل على أن السند صحيح من جهتهم فقط، ومن هنا فلابد أن ننظر فيه من حيث وثاقة الرواة الآخرين من قبلهم، ومن بعدهم، فإذا كانوا من الثقات والعدول، فيؤخذ بالرواية، وإن كانوا من الضعاف أو المجاهيل، فلا وجه بقبول الرواية، وإن كان في سندها أحد من أصحاب الإجماع، لأن أقصى ما يفيد قول الكشي رحمه الله تعالى وثاقتهم، وأنهم صادقون فيما يقولون. يقول السيد الخوئي رحمه الله تعالى في المقام : " وكيف كان فمن الظاهر أن كلام الكشي لا ينظر إلى الحكم بصحة ما رواه أحد المذكورين عن المعصومين عليهم السلام، حتى إذا كانت الرواية مرسلة أو مروية عن ضعيف أو مجهول الحال، وإنما ينظر إلى بيان جلالة هؤلاء، وأن الاجماع قد انعقد على وثاقتهم وفقههم وتصديقهم في ما يروونه. ومعنى ذلك أنهم لا يهتمون بالكذب في أخبارهم وروايتهم، وأين هذا من دعوى الاجماع على الحكم بصحة جميع ما رووه عن المعصومين عليهم السلام، وإن كانت الواسطة مجهولا أو ضعيفا."[3]
فنلاحظ أن السيد الخوئي رحمه الله أكد على أن قول الكشي ناظر إلى بيان جلالة أصحاب الإجماع، وأن الطائفة أجمعت على أنهم صادقون وموثوقون فيما يقولونه أو يروون، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنهم لا يُرمَون بالكذب في رواياتهم وأخبارهم.
ثم أضاف قائلا : " ثم إنا لو تنزلنا عن ذلك، وفرضنا أن عبارة الكشي صريحة في ما نسب إلى جماعة واختاره صاحب الوسائل، فغاية ذلك دعوى الاجماع على حجية رواية هؤلاء عن المعصومين عليهم السلام تعبدا، وإن كانت الواسطة بينهم وبين المعصوم ضعيفا أو مجهول الحال، فترجع هذه الدعوى إلى دعوى الاجماع على حكم شرعي. وقد بينا في المباحث الأصولية : أن الاجماع المنقول بخبر الواحد ليس بحجة، وأدلة حجية خبر الواحد لا تشمل الاخبار الحدسية. بقي هنا شيء : وهو أنه قد يقال : إن دعوى الاجماع على تصحيح ما يصح عن الجماعة المذكورين لا ترجع إلى دعوى حجية روايتهم تعبدا كما ذهب إليه صاحب الوسائل، وإنما ترجع إلى دعوى أن هؤلاء لا يروون إلا عن ثقة. وعليه فيعتمد على مراسيلهم وعلى مسانيدهم، وإن كانت الوسائط مجهولة أو مهملة. ولكن هذا القول فاسد جزما، فإنه لا يحتمل إرادة ذلك من كلام الكشي.ولو سلم أنه أراد ذلك فهذه الدعوى فاسدة بلا شبهة، فإن أصحاب الاجماع قد رووا عن الضعفاء في عدة موارد تقف عليها في تراجمهم في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى."[4]
يتضح لنا من خلال ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله في هذا النص، أولا – أنه لو سلم أن الإجماع يدل على حجية رواية هؤلاء عن المعصومين عليهم السلام تعبدا، فهذا ليس في محله؛ وذلك أن هذا الإجماع منقول بخبر واحد، وهو ليس بحجة، ثانيا – لو قيل : إن المراد من الإجماع هو أن الطائفة أجمعت على أنهم لا يروون إلا عن الثقات، وعليه فيعتمد على مراسيلهم كمسانيدهم، وإن كانت الواسطة بينهم وبين الإمام عليه السلام مجهولة، قيل : إن هذا القول لا يلتزم به، وفاسد، لأن هذا ما لا يحتمل من كلام العلامة الكشي رحمه الله، ولو سلم أنه أراد ذلك، فما ذهب إليه غير سديد؛ وذلك أن أصحاب الإجماع رووا عن الضعفاء.
وهذا نفس ما ذكره الميرزا جواد التبريزي حيث قال : " وذكرنا غير مرة أنه لا يستفاد من كلامه إلاّ الاتفاق على وثاقة تلك الجماعة، وأنه لا تسقط الرواية عن صحتها بتوسطهم، لا أنه لا يلاحظ الواسطة أو الوسائط بينهم وبين الإمام ( عليه السلام )."[5]
المحصل أن الأصح فيما ذكره العلامة الكشي رحمه الله تعالى من دعوى إجماع الطائفة على تصحيح ما يصح عن هؤلاء، هو أن المراد من قوله : أجمعت العصابة، الإجماع على وثاقتهم وجلالة قدرهم، وأنهم لا يتهمون بالكذب والدجل، لأنهم صادقون فيما يروونه، فإذا ورد أحد منهم في سند الرواية، فيكون السند صحيح من جهتهم، ثم ينظر في الرواة الآخرين من قبلهم، ومن بعدهم، إذا كانوا ثقاة وعدولا، فيحكم على الرواية بالصحة، وإلا فلا.
دلالة الرواية
تدل الرواية على جواز الاشتغال بالذكر؛ وذلك أن قول الإمام عليه السلام (فَقَالَ أَكُونُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَ هُوَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فَأَدْعُو وَ أَتَعَوَّذُ قَالَ نَعَمْ فَادْعُ) صريح في الجواز؛ لأن السائل سأل عنه عن جواز الدعاء والتعوذ وهو يقتدي خلف الإمام في الصلاة الجهرية – كما هو واضح من نص السؤال – فأجاز الإمام بقوله : ( نعم فادع ). بعد أن ذكر صاحب الوسائل هذه الرواية قال : " أَقُولُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِمَاعِ وَ الدُّعَاءِ أَوْ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِ الْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةَ لِمَا مَر."[6]
إلا أن ما قاله ليس في محله؛ وذلك أولا – أنه لا يمكن أن يحمل هذا الجواز على ما قبل شروع الإمام في القراءة، وذلك أن حرف الواو في قول السائل : ( وهو يجهر بالقراءة )، حالية، فهو يسأل عن جواز الاشتغال بالذكر في حال قراءة الإمام. ثانيا – ولا يمكن أن يحمل على عدم سماع المأموم القراءة، وذلك أن كيفية السؤال لا تدل على ما ذهب إليه صاحب الوسائل رحمه الله تعالى. وذلك أن قوله عليه السلام : وهو يجهر بالقراءة، يدل على أنه في صورة سماع صوت الإمام هل يجوز له أن يشتغل بالذكر أو لا، نعم لو سأل قائلا : ( أكون خلف الإمام في الصلاة الجهرية فأدعو وأتعوذ) لكان ما ذهب إليه صاحب الوسائل من المحتمل.
ومن المهم أن نتوقف هنا عند نكتة مهمة، وهي أنه إذا فسرنا الإنصات بالسكوت فقط، فهذه الرواية تكون مخصصة للروايات التي أمر بوجوب الإنصات، وعليه فيقال إن الإنصات واجب إلا إذا كان الذكر أو التسبيح أو الدعاء، ولكن إذا فسرناه بالعمنى الأعم من السكوت والذكر بالقول الخافت، فلا تكون هذه الرواية مخصصة للروايات الدالة على وجوب الإنصات، بل إنما تبقى على عمومها، وتكون هذه الرواية في مقام بيان المورد من موارد الإنصات، ألا وهو الذكر بالقول الخافت. والصحيح أن يفسر الإنصات بالمعنى الأعم، لأن ذهب إليه أكثر من أهل اللغة والأدب، ومنهم أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم‌ الثعلبي النيشابوري حيث قال : " وقد يسمى‌ الرجل‌ منصتا وهو قارئ مسبّح إذا لم يكن جاهرا به، ألا ترى‌ أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم‌قال‌: «من أتى الجمعة فأنصت ولم يلغ حتى يصلي الإمام كان له كذا و كذا» فسمّاه منصتا وإن كان مصلّيا ذاكرا، وقيل للنبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ما تقول أيضا؟ قال: «أقول اللّهمّ اغسلني من خطاياي» فدلّ أنّ الإنصات وهو ترك الجهر بالقراءة دون المخافتة بها."[7]
ومن الرويات التي تدل على جواز الاشتغال بالذكر في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، هي ما رواه صاحب الوسائل حيث قال : وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا ع قَالَ ( إِذَا كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ تَأْتَمُّ بِهِ فَأَنْصِتْ وَ سَبِّحْ‌ فِي‌ نَفْسِكَ‌).[8]
فقول الإمام ( فأنصت وسبح لنفسك) صريح في جواز الاشتغال بالذكر، وهذه الرواية تدل أيضا على اجتماع الإنصات مع الذكر بالقول الخافت، ومن هنا فنقول : إن الإنصات واجب في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، ويستحب معه الاشتغال بالذكر، فما ذكره السيد اليزدي قائلا " بل الأحوط والأولى‌ الإنصات وإن كان الأقوى جواز الاشتغال بالذكر ونحوه، فهذا ما لا غبار عليه.







[2] - رجال الكشي، ص375.
[3] - معجم رجال الحديث، ج1ـ ص 59.
[4] - المصدر نفسه، ج 1، ص 60.
[5] - تنقيح مباني العروة الوثقى، ج1، ص393.
[7] - الكشف و البيان عن تفسير القرآن، ج‌1، ص: 134.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo