< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/06/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:أحكام الجماعة
الأمر السادس: وأمّا في الأخيرتين من الإخفاتيّة أو الجهريّة فهو كالمنفرد في وجوب القراءة أو التسبيحات مخيّراً بينهما، سواء قرأ الإمام فيهما، أو أتى بالتسبيحات، سمع قراءته أو لم يسمع.[1]
بعد أن اتضح لنا حكم قراءة المأموم في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، نقف عند الأمر السادس من المسألة الأولى في أحكام الجماعة، وفي هذا الأمر يبحث السيد اليزدي رحمه الله عن حكم قراءة المأموم في الركعتين الأخيرتين. فيرى السيد أنه يجب على المأموم فيهما أحد الأمرين : القراءة أو التسبيحات مخيرا بينهما على وجه الإطلاق، أي : سواء كانت الصلاة إخفاتية أو جهرية، سواء قرأ الإمام فيهما أو جاء بالتسبيحات، وسواء سمع قراءة الإمام أم لم يسمع، وسواء كانت الصلاة مع الجماعة أو منفردة.
قبل أن نتعرض إلى ما ذكره السيد اليزدي في المتن، من الأحسن أن نشير إلى الأقوال في المسألة، وهي ثلاثة.
أحدها : التخيير بين القراءة والتسبيحات مطلقا، وهذا ما اختاره السيد اليزدي – كما هو ظاهر من كلامه - في المتن.
الثاني : جواز ترك القراءة والتسبيحات كليهما، والتخيير في الاستحباب، وهذا ما ذهب إليه السيد المرتضى، وابن إدريس وابن حمزة وابن سعيد والعلامة الحلي في المنتهى.
الثالث : التفصيل بين الصلاة المنفردة والإخفاتية، وبين الصلاة الجهرية، فإذا كان المصلي يصلى منفردا، أو يقتدي خلف الإمام في الصلاة الإخفاتية، فهو مخير بين الإتيان بالقراءة، وبين التسبيحات، ولكن إذا يقتدي خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وسمع صوت الإمام، فلا يجوز له الإتيان بالقراءة، بل يتعين عليه التسبيحات. ويجدر بنا أن نبحث في أدلة المسألة لنرى أي هذه الأقوال الثلاثة أنسب وأقرب ما ورد في الأدلة.
القول الأول : التخيير بين الإتيان بالقراءة وبين التسبيحات مطلقاً.
اختار السيد اليزدي رحمه الله التخيير بين القراءة والتسبيحات مطلقاً، كما لاحظتم في المتن، مستند هذا القول هو إطلاق الروايات الذي يدل على التخيير، والتي وقفنا عندها في بحث القراءة، حيث ذكرنا هناك أن المصلي مخير في الركعة الثالثة والرابعة بين أن يقرأ أو يسبح. مضافا إلى ذلك يدل عليه ما ورد في صحيحة ابن سنان، وهي كما رواه صاحب الوسائل : عَنْ الشيخ في التهذيب عن حسين بن سعيد عَنْ صَفْوَانَ عَنِ ابْنِ سِنَانٍ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع‌ ( إِذَا كُنْتَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةٍ لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى يَفْرُغَ وَكَانَ الرَّجُلُ مَأْمُوناً عَلَى الْقُرْآنِ- فَلَا تَقْرَأْ خَلْفَهُ فِي‌ الْأَوَّلَتَيْنِ وَقَالَ يُجْزِيكَ‌ التَّسْبِيحُ‌ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ قُلْتُ : أَيَّ شَيْ‌ءٍ تَقُولُ أَنْتَ قَالَ : أَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ).[2] سند الرواية سند صحيح لا بأس به، وذلك أن رجال السند كلهم من الأجلاء.
أما دلالة الرواية على التخيير فقول الإمام عليه السلام : ( ويجزيك التسبيح في الأخيرتين )، یفید أداء التكليف بإتیان التسبیح، وهذا يعني أنه إذا أتى بالقراءة كذلك هذا مجزٍ، بعبارة أخرى أنه مخير بين التسبيحات وبين القراءة. ثم سأل عبد الله ابن سنان عن الإمام : ( أي شيء تقول أنت ) فأجاب الإمام عليه السلام : ( أقرأ فاتحة الكتاب)، ويحتمل أن يكون السؤال عن وظيفة الإمام عليه السلام حينما يقتدي خلف إمام الجماعة، فأجاب بأنه يأتي بالقراءة، وإذا صح هذا الاحتمال، فهذا يدل على أنه يجوز للمأموم أن يأتي بالقراءة، أو يأتي بالتسبيحات، ومن ثم تدل الرواية على التخيير، كما ذهب إليه السيد اليزدي. إلا أنه إذا احتمل أن سؤال ابن سنان كان عن وظيفة الإمام عليه السلام حينما يكون إمام الجماعة، لأن - عادةً - أئمتنا الأطهار كانو يأمون أصحابهم في الصلاة، أو إذا احتمل أن قوله عليه السلام ( أقرأ فاتحة الكتاب ) محمول على أنه عليه السلام كان يقرأ حينما لم يكن مأمونا على قراءة الإمام، أو لم يكن مأمونا على دينه، لأنه إنسان فاسق وفاجر، فعلى هذين الاحتمالين الأخيرين لا یفیدنا الفقرة الأخيرة في الدلالة على التخيير، ولکن یکفینا قوله علیه السلام یجزیک التسبیح.
إلا أننا نستظهر من سياق سؤال ابن سنان أنه حينما قال : ( أي شيء تقول ) فكان يسأل عن وظيفة الإمام حينما يقتدي خلف الإمام في صلاة الجماعة. فإذا استظهرنا هكذا، فالفقرة الأخيرة تجعل الرواية نصا في التخيير؛ لأنه قال : ( يجزيك التسبيح ) والإجزاء يدل على التخيير، ثم قال : ( أنا أقرأ فاتحة الكتاب)، لكنه إذا قيل : إنه لا يتعين هذا الاحتمال، والاستظهار، بل ثمة احتمالان آخران، واللذان ذكرناهما آنفا، فعليه لا نتمسك بقوله ( أقرأ فاتحة الكتاب ) للدلالة على التخيير، بل قوله عليه السلام : ( يجزيك التسبيح ) كاف في الاستدلال به على التخيير.
المتحصل أن هذه الرواية إما نص فی التخییر کما هو الأظهر وإما ظاهر في التخيير بين التسبيح وبين القراءة، وهذا هو مستند السيد اليزدي فيما ذكره في المتن من جواز التخيير.
القول الثاني : جواز ترك القراءة والتسبيحات كليهما.
وهذا – كما ذكرنا - ذهب إليه السيد المرتضى، وابن إدريس وابن حمزة وابن سعيد والعلامة الحلي في المنتهى. مستندهم في ذلك ما رواه المحقق (676هـ) رضوان الله تعالى في المعتبر عن عبد الله ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : ( إذا كان مأموما على القراءة فلا تقرأ خلفه في الأخيرتين ).[3]- [4] فقوله عليه السلام – حسب ما رواه المحقق – ( فلا تقرأ خلفه في الأخيرتين) يدل على جواز ترك القراءة، وبما أنه لم يأمر بشيء آخر، فهذا يدل على جواز ترك الأمرين.
ومما استدل به على جواز ترك القراءة والتسبيح صحيحة زرارة، - والتي ذكرناها في المباحث الماضية - حيث جاء فيها : وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ:) إِنْ كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ وَأَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ وَلَا تَقْرَأَنَّ شَيْئاً فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‌ )وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ‌( - يَعْنِي فِي الْفَرِيضَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ‌ - ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )‌[5]- فَالْأَخِيرَتَانِ تَبَعاً لِلْأَوَّلَتَيْنِ(.[6]
فاستدلوا بقوله عليه السلام : (وَلَا تَقْرَأَنَّ شَيْئاً فِي الْأَخِيرَتَيْنِ )، على أنه يدل على عدم وجوب أحد الأمرين من التسبيح والقراءة، ويجوز للمأموم أن يترك كلا الأمرين.
ومما استدلوا به على جواز ترك الأمرين صحيحة سليمان بن خالد – وقد ذكرناها سابقا – وهي كما رواها صاحب الوسائل : وَبِإِسْنَادِ الشيخ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْكَانَ جَمِيعاً عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: (قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَ يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الْأُولَى وَالْعَصْرِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ فَقَالَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَأَ يَكِلُهُ إِلَى الْإِمَامِ ).[7]
فذهب القائلون - بجواز ترك الأمرين - إلى أن السؤال في قول السائل : (أَ يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الْأُولَى وَالْعَصْرِ خَلْفَ الْإِمَامِ) عن الركعة الثالثة والرابعة، والدليل على ذلك قول السائل : (وهو لا يعلم أنه يقرأ )، لأنه لا شك في أن الإمام يقرأ في الركعة الأولى والثانية، فلا يعقل أن يكون المراد من قوله ( هو لا يعلم أنه يقرأ ) القراءة في الركعة الأولى والثانية، ومن ثم فهذا قرينة على أن السؤال عن الركعة الثالثة والرابعة، فكأنه يسأل أنه لا يعرف ما إذا كان الإمام يقرأ في الركعة الثالثة والرابعة أو لا، ففي هذه الصورة هل يجوز للمأموم أن يقرأ أو لا؟ فأجب الإمام : ( لا ينبغي له أن يقرأ يكله إلى الإمام )، وهذا يدل على جواز ترك القراءة، وإيكالها إلى الإمام وليس عليه شيء.
ومن الروايات التي استدلوا بها على جواز ترك القراءة والتسبيح صحيحة علي بن يقطين حيث جاء فيها : عن الشیخ بإسناده عَنْ أحمد بن محمد بن عیسی عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ عَنْ أَخِيهِ عَنْ أَبِيهِ‌ فِي حَدِيثٍ ( قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَصْمُتُ فِيهِمَا الْإِمَامُ أَ يُقْرَأُ فِيهِمَا بِالْحَمْدِ وَهُوَ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ فَقَالَ إِنْ قَرَأْتَ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ سَكَتَّ فَلَا بَأْسَ ).[8]
وجه الاستدلال على جواز الترك أن المراد من قول السائل : " الركعتين اللتين يصمت فيهما الإمام" هو الركعة الثالثة والرابعة؛ لأن المصلي يصمت ويقرأ بالقول الخافت في هاتين الركعتين، إماما كان أو مأموما، جهرية كانت الصلاة أو إخفاتية، فالسائل يسأل عن وظيفة المأموم بالنسبة إلى القراءة في الركعة الثالثة والرابعة، فأجب الإمام عليه السلام بقوله : إن قرأت فلا بأس وإن سكت فلا بأس. فأكد الإمام على أنه إن قرأ فلا بأس وإن لم يقرأ فلا بأس، ومعنى ذلك أنه يجوز له أن يقرأ، ويجوز له أن يسكت، لا يأتي لا بالقراءة، ولا بالتسبيح، ومن هنا فهذه الرواية تدل على جواز ترك القراءة والتسبيح في الركعة الثالثة والرابعة.
والمتحصل مما ذكرنا أن بعض القدماء من الفقهاء العظام كالسيد المرتضى وابن إدريس، وابن حمزة وابن سعيد والعلامة الحلي ذهبوا إلى أنه يجوز للمأموم أن يترك كلا من القراءة والتسبيح في الركعة الثالثة والرابعة. واستدلوا بهذه الروايات المباركة.
غير أنه يمكن المناقشة في أدلتهم؛ وذلك أولا – أن الرواية التي ذكرها المحقق الحلي في المعتبر ساقطة عن الاعتبار؛ لأنه ذكرها بلا سند، وهي مروية في كتاب " المعتبر " وكتاب المعتبر ليس كتابا روائيا، بل هو كتاب في الفقه.
ثانياً - من المظنون أن ما رواه المحقق نفس ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام ويكون السهو من المحقق الحلي، في نقل الحديث كما أشار اليه صاحب الجواهر أيضا ونص الصحيح يفيد التخيير وإليك النص: ( إذا كنت خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها بالقراءة حتى يفرغ و كان الرجل مأمونا على القرآن فلا تقرأ خلفه في الأولتين، و قال: يجزيك التسبيح في الأخيرتين.....)[9][10] [11]وهذه الرواية تدل على لزوم أحد الأمرين من القراءة والتسبيح؛ لأن الإمام قال : ( ويجزيك التسبيح في الأخيرتين) وهذا يعني أن المأموم إذا جاء بالتسبيح سقط عنه التكليف، لكنه إذا لم يأت به فلابد أن يقرأ. ومن هنا فما ورد في المعتبر ربما يكون تصحيفا من الراوي، فلا يقبل ما روي في المعتبر بل يؤخذ بما رواه الشيخ في التهذيب، لأن سندها سند صحيح، ولو تنزلنا عن هذا الاشكال وقلنا بأن ما رواه في المعتبر رواية مستقلة عما روي في التهذيب فلابد من تقديم ما رواه الشيخ في التهذيب، لأنها مروية بسند صحيح، وما روي في المعتبر بلا سند..
ثانيا ما رواه في المعتبر تتعارض مع ما ورد في صحيحة أبي خديجة، وهي كما رواه العلامة الحر العاملي في كتابه الوسائل حيث جاء فيه : وَ بِإِسْنَادِ الشيخ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْهَاشِمِ عَنْ سَالِمٍ أَبِي خَدِيجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع( قَالَ: إِذَا كُنْتَ إِمَامَ قَوْمٍ فَعَلَيْكَ أَنْ تَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوَّلَتَيْنِ وَ عَلَى الَّذِينَ خَلْفَكَ أَنْ يَقُولُوا سُبْحَانَ اللَّهِ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَ هُمْ قِيَامٌ فَإِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَعَلَى الَّذِينَ خَلْفَكَ أَنْ يَقْرَءُوا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ- وَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُسَبِّحَ مِثْلَ مَا يُسَبِّحُ الْقَوْمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ ).[12]
فيحنما نقارن بين هذه الرواية وبين ما رواه المحقق الحلي في المعتبر نجد أن رواية المعتبر تتعارض مع هذه الصحيحة؛ وذلك أن رواية المعتبر تنهى عن القراءة، وهذه تؤكد على جوازها، فتسقط رواية المعتبر، وتقدم صحيحة خديجة، وذلك أنها بلا سند، كما لا حظنا، وأما هذه فصحيحة كما ترون. نعم ذكروا في المقام وجوها أخرى للجمع لا داعي لذکرها ما دام روایة المعتبر غیر معتبر.
أما بالنسبة إلى صحيحة زرارة فجاء فيه : ( إِنْ كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ وَ أَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ وَ لَا تَقْرَأَنَّ شَيْئاً فِي الْأَخِيرَتَيْنِ ) ومورد هذه الرواية هو الصلاة الجهرية، ودليل على ذلك قول الإمام : وأنصت لقراءته، ويظهر من ذلك أن الإمام يتحدث عن الصلاة الجهرية في الركعة الأولى والثانية وذلك أنه لا يعقل الإنصات إلا في الجهرية، فقول الإمام عليه السلام ( ولا تقرأن شيئا في الأخيرتين ) يدل على نهي القراءة في الأخيرتين، لكنه لم ينهى عن التسبيح، ولم يقل شيئا في هذا الصدد، والسر في نهي القراءة في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة الجهرية، أنه سوف يأتي أن المأموم إذا يقتدي خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وسمع قراءة الإمام، فيتعن عليه أن يختار التسبيح في الركعة الثالثة والرابعة، وسنشير إلى أن تعيين التسبيح على المأموم فيهما مع سماع قراءة الإمام، لعله من أقوى الآراءة في المقام. وعلى ذلك فهذه الرواية ليست في مقام بيان عدم وجوب التسبيح، بل في مقام بيان عدم جواز القراءة مع سماع قراءة الإمام في الصلاة الجهرية في الأوليين. أو يحمل هذا النهي على الكراهة، كما اختاره البعض، أي أنه تكره القراءة للمأموم في الركعة الثالثة والرابعة، بل الأرجح والأفضل أن يأتي بالتسبيح.
أما بالنسبة إلى صحيحة ابن خالد حيث جاء فيها : (قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَ يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الْأُولَى وَالْعَصْرِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ فَقَالَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَأَ يَكِلُهُ إِلَى الْإِمَامِ ).[13]
فذكرنا سابقا أن هذه الرواية مما استدل بها على عدم جواز القراءة في الصلاة الإخفاتية في الركعة الأولى والثانية، بل يستحب له أن يشتغل بالتسبيح أو الذكر. وحمل قوله لا یعلم علی أن المراد منه انه لا یسمع، فالروایة خارجة عن بحثنا وانما تتناول حکم الرکعتین الاولیین. وان أبیتم إلا أن فی قوله لا یعلم احتمالین احدهما أن الکلام فی الرکعتین الاخیرتین والاحتمال الآخر أن الکلام فی الرکعتین الأولیین فلا یصح عن ذلک للاستدلال بشیء و اذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال
وأما صحيحة علي بن يقطين، ( قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَصْمُتُ فِيهِمَا الْإِمَامُ أَ يُقْرَأُ فِيهِمَا بِالْحَمْدِ وَ هُوَ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ فَقَالَ إِنْ قَرَأْتَ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ سَكَتَّ فَلَا بَأْسَ ) فقول السائل : ( الركعتين اللتين يصمت فيهما الإمام ) المراد منه الركعة الأولى والثانية من الصلاة الإخفاتية، ومن هنا فالحديث أجنبي عما استدل بها القائلون بجواز ترك الأمرين، لأن مورد الرواية هو بيان حكم الركعتين الأوليين من الصلاة الإخفاتية، وليس في بيان حكم الركعتين الأخيرتين من حيث جواز القراءة أو التسبيح والصمت هو الإخفات وكما تعرفون أن حكم الإخفات يتعلق في الركعة الأولى والثانية من الصلوات الإخفاتية، ولا يكون في الصلاة الجهرية، وكذلك في الصلوات الإخفاتية في الركعة الثالثة والرابعة، ومن هنا فالحديث أجنبي عن بيان حكم الركعة الثالثة والرابعة، فلا يمكن أن يستند إليه في استفادة حكم جواز الأمرين من القراءة والتسبيح في الركعة الثالثة والرابعة.
إلا أن القول بأن هذه الرواية في صدد بيان حكم الركعة الأولى والثانية من الصلاة الإخفاتية، ليس في محله، لان التعبیر لیس الاخفات بل هو الصمت ولو کان المراد الصلوات الاخفاتیة لکان الحری ان یقال: فی الصلاة التی یصمت فیها لا فی الرکعتین اللتین یصمت فیها، فمن المحتمل أن السائل يسأل عن جواز القراءة للمأموم و هنا یأتی احتمال أخر وهو ان السوأل عن وظیفة الامام في الركعة الثالثة والرابعة،. فیدل علی تخییر الامام بین القراءة والتسبیح.
ثم ان السكوت في قول الإمام عليه السلام : ( إن قرأت فلا بأس وإن سكت فلا باس ) ليس المراد منه السكوت المطلق، والقرينة على ذلك ما ورد في وجوب أحد الأمرين من القراءة والتسبيح في الركعة الثالثة والرابعة، فحينما قال : فإن قرأت فلا بأس ثم قال وإن سكت فلا بأس يعنى : إن سكت عن القراءة فلا بأس، وليس المراد السكوت عن الأمرين، ومن هنا فيجب أن نحمل قوله عليه السلام ( إن سكت ) على السكوت الإضافي، و هو سكوت عن القراءة، ومن هنا فيمكن القول بأن الرواية في مقام بيان حكم الركعة الثالثة والرابعة، غير أنها لا تدل على جواز ترك الأمرين فيهما، بل يحمل السكوت على السكوت الإضافي، أي : سكوت عن القراءة. وان ابیتم الا الاحتفاظ بالاحتال الاول ایضاٌ فلا تفيد الرواية کذلک إثبات جواز ترک الامرین؛ لأنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، وعلى كل حال الرواية لا يستفاد منها جواز ترك القراءة والتسبيح معا في الركعة الثالثة والرابعة.
وفي المقام رواية أخرى نود أن نذكرها، وهي صحيحة معاوية بن عمار حيث جاء فيها : وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ( قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَقَالَ الْإِمَامُ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَ مَنْ خَلْفَهُ يُسَبِّحُ فَإِذَا كُنْتَ وَحْدَكَ فَاقْرَأْ فِيهِمَا وَ إِنْ‌ شِئْتَ‌ فَسَبِّحْ‌).[14]
سند الرواية سند صحيح؛ وذلك أن كل الرواة من الأجلاء والثقات، أما من ناحية الدلالة في هذه الرواية المباركة فهي نص فيما نحن بصدد بيانه، وذلك أن السائل سأل عن القراءة خلف الإمام في الركعتين الأخيرتين، فأجب الإمام أنه إذا يقتدي خلف الإمام، فوظيفة الإمام أن يقرأ الفاتحة، وظيفة المأموم أن يسبح، وإذا يصلي صلاة الانفراد، فيجوز له أن يقرأ، كما يجوز له أن يسبح. ومن هنا نقول أن مقتضى الاحتياط هو أنه إذا يقتدي المأموم خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وسمع قراءة الإمام فالأرجح أن يأتي بالتسبيح في الركعة الثالثة والرابعة، وهذا ما اختاره كثير من الفقهاء المعاصرين، والتخيير يكون في الصلاة الإخفاتية، أو صلاة الانفرادية.


[4]روى مثله في الوسائل ج،5 أبواب صلاة الجماعة،باب 31،ح3، عن زرارة عن أبي جعفر( ع)، و أما ما رواه ابن سنان عن أبي عبد اللّه( ع) ففيه «. فلا تقرأ خلفه في الأولتين و يجزيك التسبيح في الأخيرتين».

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo