< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/07/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أحكام الجماعة
تتمة المسألة الثامنة
قلنا إن القول الثالث هو أنّ عدم رعاية المتابعة، ولو في فعل واحد من أفعال الصلاة يضر بالجماعة، فتنقلب إلى الفرادى من دون إثم، فإذا أتي المصلي بما يجب على المنفرد فصلاته صحيحة، وإن أخلّ بوظيفة المنفرد فصلاته باطلة، هذا الرأي اختاره السيد الخوئي رضوان الله عليه. وأما رأي المحقق الهمداني أنّ الإخلال بالمتابعة في مفردة من الأفعال لا يضر لا بالصلاة ولا بالجماعة، وإنّما يُخرج تلك المفردة عن عنوان الائتمام، فان نوي وقصد به الائتمام أيضاً فهذا منه تشريع محرم، وإلّا فلا شيء عليه، والسر في هذا التفارق هو أن في الرأي الأول يرى تحقق عنوان الجماعة موقوف بالإتباع في جميع الأفعال، وفي رأي الثاني يتحقق عنوان الجماعة باتباع معظم الافعال والقول الثاني هو أرجح عندنا وهذا الأمر يعود إلى اتخاذ الموقف في علم الاصول في مبحث الصحيح والأعم، فإنّ الأصوليين اختلفوا في أن ألفاظ العبادات هل وضعت للصحيح منها، أو للأعم من الصحيح فيشمل الفاسد منها أيضاً، فذهب البعض أنها موضوعة للصحيح منها، واستعمالها في الفاسد مجاز. وذهب الآخرون أنها موضوعة للأعم منه، وهذا هو الأصح.
وذلك أن الصلاة والصوم والحج وغيرها من العبادات هي مركبات اعتبارية، أي : أن الشارع اعتبر مجموعة الأجزاء التي لها دخل في غرضه، فجعلها في مقام الاعتبار شيئا واحدا فسماه الصلاة أو الحج أو غير ذلك، فهي إذاً مركبات تركبت عن عدة اجزاء، يجمعها اشتراكها في تحقيق غرض المولى، وهذه المركبات تشبه المركبات الخارجية، فهي موطنها عالم الاعتبار، وذاك موطنها عالم الخارج فالمركبات الاعتبارية مثلها مثل المركبات الخارجية، فكما يصدق العنوان في المركبات الخارجية، ولو كان هناك نقص في بعض الأجزاء، كذلك يصدق العنوان في المركبات الاعتبارية، حتى ولو لم يتوفر جزء من أجزاءها. فالبيت الخارجي الذي يتكون من عدة أجزاء، يصدق عليه عنوان البيت، حتى لو كان بدون الباب، أو الشباك، أو الدهان مثلا. فكذلك يصدق عنوان الصلاة على ما نقص منها جزء أو جزأين مثلا، نعم قد يكون الشارع جعل المأمور به هو الفرد الواجد لجميع الاجزاء فالامتثال موقوف بإتيان الواجد، ولكن صدق الصلاة لا ينحصر في الفرد الواجد فهناك صلاة صحيحة وصلاة فاسدة فالمقسم الذي هو الصلاة، يشمل القسيمين وفيما نحن فيه يصدق ويتحقق عنوان الجماعة ولو أخل المأموم بالمتابعة في جزء منها، ومن هنا تنقسم الجماعة إلى صحيحة وفاسدة.
بعد سرد هذه المقدمة نقول أن من أهم الأدلة التي استدلت بها على وجوب المتابعة هو أن عنوان الإمام والمأموم قائم بالمتابعة، لأن الإمام لا يسمى إماما إلا إذا اتُبع، في أي شيء كان، فإمام الجماعة هو رجل يؤتم به في الصلاة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه أنه هل يشترط في صدق عنوان الإمام أن يُتابع في جميع أجزاء الصلاة، أو يكفي المتابعة في معظمها؟ والظاهر كفاية المتابعة في معظم أجزاء الصلاة، عند العرف؛ اذ لا نجد دليلا على لزوم توفر المتابعة من المأموم للإمام في كل الاجزاء، فالحكم يدور حول صدق عنوان الاتباع في الصلاة، فإنه صلى بصلاة الإمام، نعم إذا أخل بما يخرجه عن هيئة الائتمام، فجماعته باطلة، وإلا لا دليل على البطلان، وإن وصل الأمر إلى الشك فالمرجع أصالة البراءة عن تقيّد صحة الجماعة عند الشارع على توفر المتابعة في كل الاجزاء.
وهنا أود أن ألفت انتباهكم إلى الإيراد الذي أورده السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه على المحقق الهمداني رحمه الله تعالى حيث قال : " فانّا إذا بنينا على أنّ المستفاد من أدلّة الجماعة كفاية الائتمام في معظم الأجزاء كما يدعيه هو (قدس سره) و أنّه لا دليل على لزوم المتابعة في كلّ فعل بحيث تكون شرطاً فيما قبله و ما بعده، و ليس الائتمام في كلّ جزء دخيلًا في صحّة الأجزاء السابقة و اللاحقة، و لا يضر التخلّف في البعض في صدق القدوة و صحّة الجماعة ما دام كونه مؤتمّاً في المعظم، لشمول إطلاقات الجماعة مثل ذلك، فما هو الموجب بعد هذا للإثم، إذ قد أتى بوظيفته الشرعية من الائتمام في معظم الأجزاء، و إن لم يأتّم في خصوص هذا الجزء. فلو شملت أدلّة الجماعة مثل ذلك كيف يتحقّق التشريع حتى يترتّب عليه الإثم؟[1]؟
محصلما أشكله السيد الخوئي على المحقق الهمداني أنه لو اختارنا ما ذهب إليه المحقق الهمداني من أن عنوان الائتمام يتحقق بالمتابعة في معظم الأجزاء، فما الوجه للحكم بأن المأموم أثم، بإخلاله في جزء من أجزاء الصلاة، لأن عنوان الائتمام قد تحقق بسبب متابعته في معظم أجزاء الصلاة.
إلا أنه يمكن أن يقال في مقام الدفاع عما ذهب إليه المحقق الهمداني من : أنه لم يقل إن الإخلال في المتابعة في الجزء من الأجزاء تشريع، ولم يحكم بعصيان المأموم بإخلال المتابعة في جزء، بل إنما حكم به إذا أخل بالمتابعة واعتقد بانعقاد الجزء المتخلف عن المتابعة من الجماعة. فهنا قال إنه تشريع محرم منه، وما ذهب إليه صحيح، لا غبار عليه، فهذا الإشكال لا يرد على ما اختاره المحقق الهمداني في المقام،نعم لنا مناقشة مع المحقق من جهة أخرى، وهي أنه يرى أن لكل جزء اتئمام خاص، بعبارة أخرى أن المتابعة منحلة بعدد أجزاء الصلاة، والحال أن من ينوي الصلاة مع الجماعة، ينوي الاقتداء في الجملة، لا في كل جزء على حدة لأنه يُنظر إلى الصلاة كعنوان واحد، لأنه ليس هناك واجبات متعددة بعدد الأجزاء، بل عندنا واجب واحد مركب من عدة الأجزاء، وجوب هذه الأجزاء مكتسب من وجوب أصل المركب.
ومن هنا فما اختاره من أن عنوان الائتمام يتحقق بالمتابعة في معظم الأجزاء، صحيح، ولكن حكمه بأن المأموم اذا تخلف عن المتابعة في جزء فهو غير مؤتم فيه، وإذا قصد به الائتمام فهو تشريع محرم، مما لا يمكن المساعدة معه؛ لعدم انحلال وجوب المتابعة إلي الاجزاء، بل يكفيه أن يصدق أنه صلى بصلاة الإمام فهذا هو موضع الإشكال في كلام المحقق الهمداني.
أما ما قاله المشهور من أن وجوب المتابعة شرط تعبدي، فصحيح، وذلك أولا – أن هذا القول قريب من الإجماع، كما مر بنا في المباحث الماضية، وثانيا، ما ورد من الروايات - التي تأمر المأموم الذي تقدم على الإمام في الركوع أو السجود، بأن يلحق مع الإمام، مع أنه سها، وتقدم عن غفلة - تدل على أنه يجب على المأموم متابعة الإمام في كل أجزاء الصلاة، مع أن عنوان الائتمام يتحقق بالمتابعة في معظم الأجزاء.
وما قاله السيد : وإن كان الأحوط الإتمام والإعادة، خصوصاً إذا كان التخلّف في ركنين، بل في ركن[2]، لم يقم عليه الدليل من الروايات وغيرها، فلم يرد فيها أنه من تخلف في ركنين، بل في ركن يتم الصلاة ثم يعيدها، بل المعيار في المقام، هو أن يتخلف المأموم عن الإمام تخلفا طويلا بحيث لم يصدق عليه أنه يتابع الإمام، وهذا كما يكون الإمام مثلا في السجدة الثانية، والمأموم لا يزال في القنوت، فلا يقال عرفاً، إنه يصلي بصلاة الامام.
وهنا نود أن نشير إلى ما أشكله السيد الخوئي رحمه الله على المشهور، حيث مر بنا أن المشهور يرى في المقام أن وجوب المتابعة وجوب تعبدي، فمن تخلف عن الإمام أثم، غير أن صلاته صحيحة، فأشكل السيد بأنه لا دليل على الحرمة والإثم في المقام؛ وذلك أن الجماعة أمر مستحب، فكما يستحب للمأموم أن يصلى مع الجماعة، كذلك يستحب له أن يستمر فيها، بعبارة أخرى الجماعة مستحبة حدوثا وبقاء. ومن هنا فإذا تخلف المأموم عن الإمام في جزء من الأجزاء فما الوجه في الحكم بالإثم؟ بل إنما يجوز للمأموم أن يتحول إلى الصلاة الفرادى، لأنها مستحبة بقاء.
إلا أن لنا مناقشة فيما أفاده رحمه الله؛ لأن ما قاله من أن الجماعة مستحبة حدوثا وبقاء، هذا أول الكلام، لأننا ذكرنا في بداية فصل الجماعة الروايات التي دلت على أهمية الصلاة مع الجماعة، فوصلنا من خلالها إلى أنه لا يجوز ترك الجماعة تهاونا واستخفافا وبدون عذر. ومن هنا فمن ليس له عذر، ويستطيع أن يشارك في الجماعة، فتركها فلعله ارتكب فعلا محرماً، وإذا قلنا بأنه لا يجوز ترك الجماعة بدون عذر، فمن باب الأولوية لا يجوز له أن يتحول من صلاة الجماعة إلى الفرادى،
فخلاصة الكلام أن مختارنا في المقام هو ما ذهب إليه المشهور من أن وجوب المتابعة واجب تعبدي، وكذلك نوافق ما قاله المحقق الهمداني من أن عنوان الائتمام يتحقق بالمتابعة في معظم الأجزاء، ولا يشترط في صحة الجماعة أن يتابع الإمام في كل الأجزاء.
وقفة أخلاقية
قَالَ لِلْجَوَادِ ع رَجُلٌ أَوْصِنِي ( قَالَ‌ وَ تَقْبَلُ‌ قَالَ نَعَمْ قَالَ تَوَسَّدِ الصَّبْرَ وَاعْتَنِقِ الْفَقْرَ وَارْفَضِ الشَّهَوَاتِ وَخَالِفِ الْهَوَى وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَخْلُوَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ ).[3] [4] [5]
هذه الرواية المباركة ترشدنا إلى مفاتيح السعادة والنجاح والفلاح، فقد ذكر الإمام فيها الأمور في غاية الأهمية، ويدل على ذلك قوله عليه السلام - حينما طلب منه الرواي أن ينصحه – ( وتقبل ) يعني ما أقول لك هو مهم،
فقال الإمام عليه السلام : ( توسد الصبر) والمراد من هذه العبارة ملازمة الصبر والمداومة عليه، بعبارة أخرى أن من يريد أن يصل إلى النجاح، فلابد من أن یتوقع فی حیاته المشاكل فلا یفاجئ عند حدوث المصائب ويلازم الصبر في كل الحالات؛ لأن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، كما ورد في الأثر.
وقال عليه السلام : ( واعتنق الفقر )، أي : يشعر أنه فقير ومحتاج إلى الله تبارك وتعالى، وأن فقره واحتياجه إلى الله عز وجل فقر دائمي، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم حيث يقول : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[6] وهنا إشارة لطيفة في الرواية، وهو أن الإنسان الذي يتوقع الصعاب والمصائب والشدائد في الحياة، فلا يشعر بالإحباط النفسي، بل دائما يكون مستعدا أن يواجه تلك الآلام والمصائب بكل صبر وشجاعة واستقامة، ودائما يشكر الله سبحانه وتعالى على ما عنده من النعم، بينما من لا يتوقع تلك، فيصاب بالإحباط الشديد حتى ولو أصابته مصيبة صغيرة، فتراه دائما في حالة الحزن، وأنه يشتكي من كل صغيرة وكبيرة.
وقال عليه السلام : (وَارْفَضِ الشَّهَوَاتِ وَخَالِفِ الْهَوَى) أي : أن لا يكون الإنسان مطيعا لأوامر نفسه، وأن يقوم بكل ما تطلب منه نفسه، بل إنما ينبغي أن تكون الشهوات تحت سيطرته، وهذا لا يحصل إلا بعد طول الممارسة والمران، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية تأديب النفس، ومن هنا نرى أن أئمتنا الأطهار عليهم السلام، كانوا يتركون بعض ما كان حلالا، ومن ذلك ما ذكر من أن الإمام السجاد عليه السلام، كان يجلس على مائدة الطعام ليشم رائحته، لتشتهي النفس إليه، ثم كان يأمر بتوزيعه على الفقراء، ويتناول الطعام البسيط.
وقال في نهاية الحديث : (وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَخْلُوَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ ) وهذا يؤكد على أن الإنسان المؤمن ينبغي أن يشعر دائما بمعية الله تبارك وتعالى، لأن هذا الشعور يمنعه عن ارتكاب المحارم والمعاصي، ويحثه على أن يتبادر إلى الخيرات، فيراقب كل حركاته وسكناته، ويحاول أن لا يعصي الله، ولهذا الشعور تأثير عجيب على حياة المؤمن، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يقوم بفرائضه وواجباته، ويتنهون عن معاصي الله تعالى.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo