< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
قال الله تبارك وتعالى : {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً }[1]
مسألة التوحيد من أهم المسائل التي ركز عليها القرآن الكريم كثيرا، حيث تحدث عنها في مواضع متعددة من بدايته إلى نهايته، كما حذر عن الشرك مراراً وتكراراً، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية مسألة التوحيد والشرك،ولفتُ الأنظارِ إلى الاجتناب عن الشرك مع التكرار يفيدُ أنه يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً وموحداً في عقيدته، وأن لا يشرك مع الله إلهاً آخر، لكن يمكن أن يشرك في مقام العمل، بدون أن ينتبه إليه ويشعر به. من هنا ينبغي أن ننتبه إلى كل ما نقوم به من أعمالنا، لنجعلها خالصة لوجه الله الكريم المتعال. هذه الآية المباركة من الآيات التي تتحدث عن المشركين، وقبل أن نتناولها نتوقف عند شرح مفردات الآية بإذن الله تعالى.
شرح المفردات.
الدعاء : ترد كلمة الدعاء والنداء بمعنى واحد، حيث كلتاهما تدلان على الطلب، غير أن النداء لا يتحقق إلا إذا كان معه الصوت، والدعاء يطلق على ما كان بالإشارة أو غيرها أو حتى بصوت خفي، بعبارة أخرى النداء مقيد برفع الصوت فيه، والدعاء يتحقق برفع الصوت كان أو بخفضه، أو من دون صوت من خلال إشارة اليد أو كتابة الدعوة وغير ذلك. والدعاء يرد بمعنى العبادة أيضاً، ومن ذلك في هذه الآية المباركة.
ومن ناحیة أخری أن العبادة أیضاً قد ترد بمعنى الطاعة المطلقة، وقد ورد من ذلك في القرآن الكريم في مواضع متعددة، ومنها قوله تعالى
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }[2]، فهنا المراد من عبادة الشيطان طاعته، أي : لا تطيعوه في أوامره ونواهيه، لأنه يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. ومنها قوله تعالى : {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ }[3] فلا أحد يعبد الطاغوت بمعنى يسجد له، أو يصوم أو إلى غير ذلك، بل المراد من عبادة الطاغوت هو إطاعته ومنها قوله تعالى : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً }[4]، وقوله تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً........}[5] فلا أظن أن أحداً جعل هواه إلهاً بمعنى يعبدها ويسجد لها، بل إنما المراد من اتخاذها إلها أن يجعلها كالمولى المطاع، فكل ما تشتهيه يقوم به، وكل ما لا ترغب فيه يبتعد عنه.
الزعم : هو مطلق الاعتقاد لغة، ثم غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، وهذا ما نص عليه اللغويون، وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى : " الزعم بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثم غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، و لذا نقل عن ابن عباس أن ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب."[6]
الكشف : هو رفع الستار والغطاء عن شيء، قال ابن الفارس اللغوي : " الكاف والشين و الفاء أصلٌ صحيح يدلُّ على سَرْوِ الشيء عن الشيء، كالثَّوب يُسْرَى عن البدن. ويقال كَشَفْتُ الثوب وغيرَه أكْشِفه."[7]، وكذلك يستعمل في رفع مكروه، فكأن المكروه كان مانعا عن السلامة والراحة، والأمن والأمان.
الضر : هذه الكلمة تطلق لغة على كل ما يعاني منه إنسان من مصيبة أو بلاء أو فقر أو مرض أو ألم، جاء في لسان العرب : " فكل ما كان من سوء حال و فقر أَو شدّة في بدن فهو ضُرّ، و ما كان ضدّاً للنفع فهو ضر."[8]
التحويل : صرف شيء إلى شيء آخر، أي : تبديله به، أو صرفه من شيء إلى شيء آخر، اي : نقله.
بعد الوقوف عند شرح المفردات ننتقل إلى معنى الآية الكريمة، فقال الله سبحانه وتعالى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً }، اختلف المفسرون في المراد من قوله تعالى : ( الذين زعمتم )، فذهب البعض إلى أن المراد منه القديسون الذين اتخذهم المشركون آلهة، فكانوا يعبدونهم، كما يعبد المؤمنون الله سبحانه وتعالى، فمنهم من كان يعبد الملائكة، ومنهم من كان يعبد الجن، وإلى هذا أشار القرآن الكريم حيث قال : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ }[9]
ومنهم من كان يعبد الأنبياء عليهم السلام، كالنبي عيسى والنبي عزير عليهما السلام، قال الله تبارك وتعالى : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ }[10] فالآية المباركة تؤكد على أن المسيح عليه السلام تبرأ مما اعتقد فيه البعض بأنه الله – والعياذ بالله – بل نبه على أنه يعبد رب العالمين الذي هو ربه و رب السموات والأرض وما بينهما، ثم قال الله تعالى : {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[11] رد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على الذين أشركوا مع الله تعالى، ثم حذرهم من عذاب أليم إن لم ينتهوا عن هذا الاعتقاد الذي لا أساس له من الصحة، بل افتراء باطل، واعتقاد كاذب. ثم قال تعالى : {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[12]، وهذا الاستفهام استفهام إنكاري، يرد في موضع التوبيخ والتعجب والاستغراب، فإذا ثبت أنه لا إله إلا الله وأن ما أشركوه مع الله باطل، وأن الله يغفر الذنوب، وأنه رحيم على عباده، فلماذا لا يسلكون طريقة الرجوع والتوبة والإنابة إلى الله تعالى. ثم قال : {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }[13] أكد الله تعالى على أن المسيح رسول كالرسل الآخرين، ونبهم على أن الله لا حاجة له في الأكل والشرب وما شابه ذلك، والمسيح وأمه كانا يأكلان الطعام، وهذا كناية عن قضاء الحاجة، وحاشا لله عن مثل هذه الأشياء وهذا أدل دليل على أنهما لم يكونا معبودين بل كانا من عباد الله تعالى المكرمين. ثم صرح الله سبحانه وتعالى بأن غير الله لا يملك لا نفعا ولا ضراً فإذا كان الأمر كذلك فلما يعبدون غير الله تعالى؟ فقال تعالى : {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[14].
المهم أن البعض قال بأن الآية المباركة تشير إلى من كان يعبد القديسين من ذوى العقول، لأن " الذين " يستخدم لذوي العقول فقط حسب ما ورد في قواعد اللغة العربية، فذكر علماء اللغة أن الجمع لغير ذوي العقول يعود إليه ضمير المفرد المؤنث، فيشار إليه " بهذه " ويرجع إليه ضمير المفرد المؤنث، ويستخدم له " التي". لكن يمكن أن نقول : أن صيغة الجمع قد ترد ويشار بها إلى شيئية الشيء، فهنا يتعامل معها معاملة المفرد المؤنث، سواء كان لذوي العقول أو لغيره، وتارة ترد ليشار بها إلى أشخاص وأفراد، فهنا يستخدم له " هؤلاء، أو الذين، أو ضمير الجمع المذكر، حسب المقام، وإن كان الجمع لغير ذوي العقول، وبهذا التفسير يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى ( الذين زعمتم ) كل ما يُتخذ إلها غير الله سبحانه وتعالى، وبهذا يشمل المعبود من ذوي العقول كالقديسين، ومن غير ذوي العقول، كالأجرام السماوية من النجوم والقمر والشمس، وكالأشجار أو الأحجار، وحتى بعض الحيوانات التي يعبدها بعض الناس.
وفي المقام تفسير رائع للعلامة الطباطبائي عليه الرحمة أيضاً، وملخص كلامه أن المعبود قد يكون الملائكة والجان والأنبياء والأولياء فهم ذوي العقول، وقد يكون المعبود الأجرام السماوية أو الأصنام والأوثان، فهي ترمز إلى قديسين حقيقية أو المزعومة، فهم أيضا من ذوي العقول، وأيضاً يمكن أن نقول أن الأصنام لها حيثيتان، إحداهما : الهيئة المركبة والتي بها يصدق عليها اسم الصنم، فهي لا تشعر بشيء، لأنه لا شعور لها، والثانية : أنها مواد وأجسام وأشياء، وبهذه الحيثية هي تملك شعور وحساً كما لكل شيء في هذا الكون، لما يدل عليه قوله تعالى : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }[15]
المهم أن الله سبحانه وتعالى أكد في هذه الآية المباركة أن الذين يعبدون آلهة غير الله سبحانه وتعالى لا ينفعون بتلك العبادة ولو بمقدار ذرة، لأن هؤلاء لا يملكون أن يكشفوا الضر عنهم، وكذلك لا يملكون القدرة على أن يحولوا مشاكلهم إلى النعم، أو يصرفها من شخص إلى شخص، فلا شيء بأيديهم، فإذا كان الأمر كذلك فعبادتهم من سخافة العقول وعلامة الجهل، أو نابعة عن العناد والإصرار على التسمك بالباطل.
فإن قلت : إن الله نفى تأثير هؤلاء القديسين الذين اتخذهم بعض الناس آلهة، والحال أنهم يؤثرون في هذا الكون، وهذا ما لم ينكره أحد، فكيف نفى الله تعالى التأثير عنهم؟
قلت : إن الله سبحانه وتعالى لم ينف تأثيرها في الكون، بل نفى ملكية التأثير والقدرة على ذلك، فهم يؤثرون في الكون وفي بعض أموره، لكن قدرتهم مستمدة من قدرة الله سبحانه وتعالى، وعن إرادته جل شأنه، فتأثيرهم ليس مستقلاً عن قدرة الله البارئ، بل إنما هو بإذنه ومشيئته. ومن هنا تكون عبادتهم من دون الله تعالى موضع تعجب واستغراب عند العقلاء، وذلك أنهم كانوا يعبدون الذين كانت قدرتهم مربوطة و مأخوذة من قدرة الله تعالى، وما كانوا يعبدون الله تعالى الذي هو مصدر كل القدرة والقوة والخير والرحمة والبركة.
وفي المقام أود أن أشير إلى اتهام الوهابية الشيعة بالشرك وأنهم يعبدون غير الله تعالى حينما يزورون المقامات المقدسة، أو يتبركون بتقبيل الأضرحة المقدسة لأئمة أهل البيت عليهم السلام، فنقول بأن هذا الاتهام ظلم وجهالة، ولا أساس له من الصحة، وذلك لأن زيارتهم للعتبات المقدسة، أو تقبيلهم للأضرحة الشريفة، ليس عبادة بل هي إظهار الحب والولاء لهم فلا يقومون بهذا الفعل بعنوان العبادة، بل إنما يتبرّكون ويتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، لأن التقبيل وما شابه ذلك ليس إلا إظهار الحب والعشق لهم لأنهم أولياء الله وإظهار الحب هو تلبية لقول الله: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[16].
وفقني الله تعالى لزيارة بيت الله الحرام، فاقتربت إلى ركن المستجار وقبّلته، هنا ناداني أحد شرطة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، فقال لي : التقبيل شرك وإنما يجوز المسح، فسألته ماذا تقول في تقبيل الحجر الأسود؟ فقال : هو جائز لأن الله تعالى أمر به، فقلت : إذا كان التقبيل بما هو التقبيل شرك، فلا فرق في تقبيل المستجار أو الحجر الأسود، ولا يجوز أن يأمر الله سبحانه وتعالى عباده بارتكاب الشرك، لأنه محال عقلاً، فمن يقبّل المستجار أو الحجر الأسود أو غلاف الكعبة أو غلاف القرآن الكريم، أو الأضرحة المقدسة لأئمة أهل البيت عليهم السلام إنما يقبلها ويمسح بها تبركا وتيمنا، وهذا ليس عبادة لتلك الاشياء، حتى يكون مصداقا للشرك، والشرك من أعظم المحرمات، فمن يقبل هذه الأشياء للتبرك ولأن لها منزلة ومقاماً عند الله تعالى فهذا ليس شركاً، بل من أحسن ما يتقرب به إلى الله عز وجل.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo